كان شعره كلونِ الكستناءِ، تمامًا مثل شعر إيفينا.
طويل القامة، ذو بنية عضلية.
ومع ذلك، لم يبدُ عليه أدنى إرهاق رغم أنه كان يركض.
الرجل الذي نادى اسم إيفينا لم يكن سوى الابن الثاني لعائلة ويندستر الكونتية.
“أوه، صحيح، الابن الثاني انضم إلى فرسان الإمبراطورية، بعد هاردنيس… والآن الثاني أيضًا…”
بعد المرور بموقف مشابه من قبل، لم تعد تفاجئها هذه الأمور.
كان يقترب منها بسرعة مخيفة، رافعًا كُمّيه الأزرقين لزي فرسان الإمبراطورية.
“إذًا، كان صحيحًا أن ماركيز بيلتشين قد رآكِ؟ كيف تجرؤين على الظهور أمامي مجددًا؟”
“مر وقت طويل، أخي. لكن لنوضح الأمور، أنا لم أظهر أمامك، بل أنتَ من جاء إليّ. كنت هنا طوال الوقت.”
“أنتِ؟”
“نعم، أنا .
هل لديكَ مشكلة مع ذلك؟”
رفعت كتفيها بلا مبالاة. تجهّم وجه الرجل، الذي كان يحاول كبح غضبه، في لحظة.
“أصبحتِ وقحة أكثر منذ آخر مرة رأيتكِ.”
“ماذا؟ هل ستضربني مجددًا، كما فعلت قبل خمس سنوات؟”
“ماذا؟”
“لماذا تتظاهر بالدهشة؟ كان هذا ما تجيده أكثر من أي شيء آخر.”
عند كلمات إيفينا اللاذعة، عبس الابن الثاني بشدة.
“متى ضربتكِ أنا؟ لا تتفوهي بالهراء.”
“أوه، صحيح، يبدو أن عقلك مليء بالعضلات أيضًا، لذا لا تستطيع حتى التذكر.”
“هل جننتِ؟!”
رفعت يده الغليظة في الهواء.
‘كنت أعلمُ أنه سيفعِل ذلك.’
لكن يده توقفت فجأة، وكأنه صُدم بردة فعله الغريزية. قبض على أسنانه وأسدل يده.
“عُودي إلى المنزل فورًا، والدنا ينتظركِ.”
“لم يقم بشطبي من السجل العائلي بعد؟”
“كفي عن هذا الكلام، قبل أن أفقد صبري.”
حاول تهديدها بسهولة، مستغلًا فارق القوة بينهما.
في تلك اللحظة، اجتاحها خوف مباغت، ذكريات الماضي الكئيبة عادت إلى ذهنها اللحظات التي كانت تتلقى فيها الضربات بلا حول ولا قوة.
“أه…!”
عندما كاد نفسها أن ينحبس، دوّى صوت هادئ وسلس.
“يبدو أن هناك حشرات في هذه الدفيئةِ.”
استدارت برأسها ببطء، لترى الشخص الذي تحدث.
كان يوهان، يوهان ديسارت. كان يقف هناك، موجهًا سيفه نحو الابن الثاني.
“ما هذا بحق الجحيم؟!” صرخ الرجل بغضب، وجهه يشتعل باللونين الأحمر والأزرق.
“…”
“يوهان؟”
ما إن أدرك هوية صاحب السيف، حتى جحظت عيناه بذهول.
لم يكن الوحيد المصاب بالصدمة، فقد رمشت إيفينا بعينين متفاجئتين.
“ألم تكن قد غادرت؟ لا، انت لم تكن هنا قبل لحظات، فكيف…”
هل كان قد رأى كل شيء؟ هل سمعها وهي تسخر من شقيقها؟
“يوهان، ما الذي تفعله هنا؟ أعني، قبل أي شيء، يمكنك إنزال السيف…”
“هناك حشرة على قدمك.”
“ماذا؟”
دفع يوهان نصل سيفه قليلًا على ساق الرجل.
“حشرة.”
“آااااه! يوهان! هذا يؤلم!”
لكن يوهان لم يظهر أي تعبير على وجهه، وكأنه لا يعرف معنى المشاعر من الأساس.
كان هذا أكثر رعبًا من أي شيء آخر.
“هل تريدني أن أقتله لكِ؟”
في النهاية، انهار الابن الثاني على الأرض، عاجزًا عن المقاومة. كان الفرق في القوة بينهما ساحقًا.
أبعد يوهان سيفه ونفضه بلا مبالاة.
“سمعت عن عائلة وينديستر. يمتلك أفرادها نوعًا من ‘المواهب’، أليس كذلك؟”
“آهغ!”
على الرغم من أنه لم يُصب بسيف يوهان، إلا أن وجهه التوى من الألم.
“لكن يبدو أن موهبتكِ ليست بهذه الأهمية.”
حطم أسطورة ‘موهبة’ عائلة وينديستر بيد واحدة فقط.
بينما كانت إيفينا تراقب المشهد، تذكرت تلك النظرة الباردة التي لمحَتها سابقًا داخل العربة.
وكأن يوهان شعر بنظراتها، فاستدار نحوها.
“آه، معلمة.”
أعاد سيفه إلى غمده وكأنه لم يفعل شيئًا. بل وأظهر تعبيرًا بريئًا وكأنه لم يكن على وشك قتل أحد.
عينيه الزرقاوتين، اللتين كانت قاسية كعيون وحش مفترس، أصبحتا فجأة هادئتين ومستكينة.
“بدوتِ وكأنكِ مهددة.”
“… أعتقد أن الشخص المهدد هنا ليس أنا.”
ابتسمت إيفينا بتوتر.
“لا بأس. آه، بالمناسبة، هذا… أخي، أُوه… أوه…”
شهقت بمرارة، محاوِلة نطق الكلمة، لكن شعرت وكأنها ستتقيأ.
“أخي، آه، آسفة. مجرد قولها جعلني أشعر بالغثيان.”
“هل تشعرين بسوء؟ يمكنكِ التقيؤ في يدي.”
جمع يديه معًا ومدهما نحوها بلا تردد.
“لا! لا بأس، إنه أمر مقزز!”
“لكنها ليست قذرة…”
خفض صوته قليلًا، متجهّمًا كما لو كان كلبًا صغيرًا رُفض من صاحبه.
غير مدركة لذلك، استدارت إيفنا إلى شقيقها.
“هيه، غادر. إلا إذا كنتَ تريد أن تتعرض لمزيد من الإذلال.”
لا يمكنها السماح بوجود هذه القذارة أمام يوهان لفترة أطول.
“إيفينا، ستندمين على هذا!”
“حسنًا، فهمت، الآن اختفِ.”
وعلى عكس كلماته الجريئة، فرّ الابن الثاني مذعورًا، وكأن نظرة يوهان الباردة وحدها كادت تقتله.
بعدها، ابتسم يوهان برقة، وكأن شيئًا لم يحدث.
“هل ستعودين الآن، معلمتي؟”
“نعم، سمعت أن القصر الإمبراطوري سيتولى أمر بقايا كيلبيدا، لذا أريد التحقق من الأطفال المتبقين.”
“دعيني أرافقكِ. أود أن أكون حارسكِ.”
“أوه، حسنًا. لن أرفض ذلك. شكرًا لكَ.”
لقد عُومِلت كسيدة نبيلة لأول مرة منذ مدة.
وهكذا، غادرت إيفينا الدفيئة، برفقة ولي أمر أحد طلابها، الذي يتمتع بلياقة عالية.
بعد مرور خمسة أيام على الرحلة الميدانية في الربيع…
خرجت إيفينا إلى السوق الكبيرة لأول مرة منذ مدة، لشراء المواد اللازمة لصنع الأدوات التعليمية.
“هممم… من الصعب العثور على قماش اللباد هنا، لا بد أن هناك نوعًا مشابهًا من الورق يمكنني استخدامه…”
كانت تتفحص الأكشاك بدقة، تمسح بأصابعها سطح الورق الخشن، عندما التقطت أذناها صوتًا مألوفًا من مكان قريب.
“لقد أخبرتك للمرة الثالثة، جئت بدافع الاهتمام فقط.”
“هاه؟ لا تحاول خداعي! أستطيع أن أرى كل شيء! لا، عد من حيث أتيت!”
“… هذا الصوت، أليس صوت دوق هيلدبورن؟ ماذا يفعل هنا؟”
دفعها الفضول إلى الاقتراب أكثر، دون أن تشعر.
“أنا لا أسمع جيدًا… هممم…”
كان هناك باب خشبي داكن بلا أي لافتة تدل على محتوى المتجر، يقف أمامه رجل عجوز، يمنع الدوق من الدخول، وهو يرفع صوته بغضب.
“أنت من قوات الأمن أو شيء من هذا القبيل، أليس كذلك؟ في هذه الأيام، يحاول بعض الأشخاص التسلل إلينا وهم يتظاهرون بأنهم زبائن! لكني أخبرك، نحن لا نبيع العبيد هنا!”
“العبيد؟!”
توقفت إيفينا في مكانها، مصدومة.
“هل جاء الدوق إلى هنا لشراء عبيد؟ أم أنه يحاول ضبط مكان مشبوه؟”
ازدادت فضولها، فاقتربت أكثر، حتى التصقت تقريبًا بالباب الخشبي، تحاول التنصت.
عندها، جاء صوت دوق هيلدبورن الهادئ لكنه بدا محملًا بنفاد الصبر.
“أنا فقط أبحث عن هدية مناسبة لزوجتي. لكن يبدو أنك تعاني من خيال مفرط. كما أنك لا تجيد الاستماع…”
أغلق فمه للحظة، وكأنه يحاول كبح إحباطه، فيما استمر البائع في التذمر.
“وكيف لي أن أصدق هذا؟ أنت حتى لم تحضر زوجتك معك! ماذا، هل هذه الفتاة خلفك هي زوجتك؟”
رفع العجوز إصبعه ليشير مباشرة إلى…
“هاه؟”
…إيفينا.
“… انتظر، متى وصلت إلى هنا؟”
قبل أن تدرك الأمر، كانت قد اقتربت كثيرًا، واقفة خلف دوق هيلدبورن وكأنها حقًا زوجته.
عندما رفعت رأسها، التقت عيناها بزوج من العيون الرمادية المائلة إلى الحمرة، المتكاسلة ولكن الحادة في آنٍ واحد.
“هممم.”
تنحنحت إيفينا بخفة، ثم أومأت برأسها قليلاً.
“نعم، صحيح. أنا زوجة هذا الرجل، أعني، هذا السيد.”
قررت مجاراة الموقف والتعاون مع الشخص الذي تعرفه، خاصة إذا كان بهذا الإصرار على الدخول. من الواضح أنه لم يتردد حتى عند ظهور “زوجة” مفاجئة له.
لكن الرجل العجوز، الذي كان يتمتع بعين ثاقبة، لم يُخدع بسهولة، بل ضحك ساخرًا.
“هيه، يا آنسة، انظري إلى نفسك! هل تظنين حقًا أنك تليقين بهذا الرجل؟ هو يرتدي ملابس فاخرة وأنيقة، بينما أنتِ…”
أنا ماذا؟!
كادت أن تفتح فمها للاعتراض، لكن كلمات البائع التالية جعلتها تصمت على الفور.
“أنتِ تبدين مهملة! من الواضح أنكِ تكذبين!”
“… ماذا؟ مَهْمَلة؟!”
“لا يُمكن أن تكوني زوجته! ربما خادمة، هذا أقرب!”
أغضبها كلامه، لكنه لم يكن خاطئًا تمامًا، لذا لم تجد ما ترد به.
خاصة وأنها خرجت اليوم مرتدية ملابس مريحة، لأنها كانت تخطط لشراء الكثير من المواد التعليمية وحملها بنفسها.
تنهدت قليلًا، ثم رفعت رأسها بتحدٍّ.
“أنا لست خادمة. أنا من عائلة نبيلة وعريقة!”
حتى لو قطعت علاقتي بعائلتي، سأستفيد من مكانتي عندما أحتاج إليها.
“والدي كونت، بالمناسبة.”
“هاه! إن كان والدكِ كونت، فوالدي دوق!”
… بينما كان الدوق الحقيقي واقفًا أمامه.
نظرت إيفنا سريعًا إلى “زوجها المؤقت”، الذي بدا هادئًا كعادته، يمرر يده عبر خصلات شعره بلا مبالاة.
حين التقت نظراتهما، فتح كايدن أخيرًا فمه، متحدثًا بنبرة بطيئة لكن حازمة.
“ليس فقط أنه يحدق بكِ من أعلى إلى أسفل، بل أصبح يثرثر بوقاحة أيضًا.”
ثم نظر إلى إيفينا مباشرة، وعندها نبرته تزداد برودًا.
“حبيبتي، أشعر بالانزعاج منهُ.”
التعليقات لهذا الفصل " 21"