كانت الهالات السوداء واضحة تحت عينيها.
لم تكن تبدو كإنسانة، إذا بالغنا قليلًا.
التعديلات المفاجئة على الرحلة الميدانية الربيعية جعلتها تصل إلى هذه الحالة.
إيفينا، كانت الآن خارج منزلها في يوم عطلتها الثمين.
والسبب؟ جولة استطلاعية إلى القصر الإمبراطوري.
مدّت إيفينا يدها بوجه متعب وهزيل.
“لماذا هو بعيد جدًا… القصر الإمبراطوري…”
لماذا لا توجد سيارات أجرة في هذا العالم؟
كانت تجرّ قدميها بالكاد، تسحب حذاءها وكأنه شبشب وهي تخرج من الحي السكني.
عند مفترق الطرق، رأت فجأة عربة متوقفة أمام محل زهور.
أدق وصف؟ رجل يقف أمام العربة.
شعره الفضي المائل إلى الأزرق كان يلمع تحت أشعة الشمس، مما أضفى عليه هالة مقدسة.
كان وجهًا مألوفًا.
كان الرجل يبتسم ببشاشة.
“كم التكلفة؟”
“حتى معبد هيلفينس، 57 فير.”
“حسنًا، خذني إلى هناك من فضلك.”
كان الرجل يبتسم بلطافة وأموالهُ تُسلب بكل بساطة.
“57 فير حتى معبد هيلفينس؟ كيف يمكنه أن يدفع هذا المبلغ المبالغ فيه؟”
تسللت إيفينا بين الرجل وسائق العربة، وأدخلت رأسها بينهما.
“ماذا عن 47 فير؟”
التفت الرجل وسائق العربة إليها في نفس اللحظة.
“يا إلهي!”
لابد أنها ظهرت دون صوت لدرجة أن السائق أمسك صدره من الصدمة.
أما الرجل الذي كان يُسلب أمواله، فتوسعت عيناه قليلًا بهدوء.
طرف رموشه الطويلة وهي ترفرف جعله يبدو بريئًا بشكل مفرط.
“المعلمة؟”
“مرحبًا، وليّ الأمر. من كان يظن أننا سنلتقي هنا؟”
كان الرجل هو يوهان. يوهان ديسارت. الشقيق الأكبر لميرين وقائد فرسان المعبد العظيم.
“مر وقت طويل، ايتها المعلمة. إلى أين أنتِ ذاهبة؟”
“أنا في طريقي إلى القصر الإمبراطوري. وأنت؟ هل كنت متجهًا إلى معبد هيلفينس؟”
“نعم، لدي بعض الأعمال هناك.”
“هممم.”
هل كان ينوي حقًا دفع 57 فير؟
مررت إيفينا يدها عبر شعرها، ثم استدارت.
كان السائق مبتهجًا، متحمسًا لكونه وجد فريسة سهلة.
اقتربت منه إيفينا بصمت وهمست له.
“عمي، كيف يمكنك أن ترفع السعر هكذا على شخص لا يعرف شيئًا؟”
“هاه؟ آنسة، عن ماذا تتحدثين؟ السعر معقول جدًا!”
“أنا من سكان هذه المنطقة. لا تحاول خداعي. 47 فير سعر عادل، خذ هذا المبلغ.”
“ماذا؟ 47 فير؟ مستحيل! لن أذهب، لن أذهب!”
يا إلهي، كيف يمكن لشخص أن يكون هكذا؟
“السوق الحرة لا تعني استغلال الأبرياء.”
كانت على وشك أن تبدأ في سرد الطريق المؤدي إلى المعبد عندما سمعت صوت يوهان الهادئ خلفها.
“معلمتي، هل هناك فرق كبير بين 47 فير و57 فير؟ أنا لا أفهم جيدًا.”
نعم، الأرستقراطيون مختلفون حقًا.
أومأت إيفينا برأسها وأجابت.
“بالطبع. بـ10 فير يمكنك شراء ثلاثة من حلوى الفراولة المفضلة لدى ميرين. إنه فرق كبير.”
“حقًا؟”
تمتم يوهان، متأملًا المسألة، وكأن عدد ثلاث قطع من الحلوى كان مهمًا.
“سأتولى هذه اليد الخفية التي تحاول سرقة الناس.”
التفتت إلى السائق وتحدثت بحزم.
“47 فير، لا أكثر.”
رفع السائق حاجبيه وكأنه يخوض أكبر مفاوضة في حياته.
“55 فير.”
“47 فير.”
“53 فير.”
“47 فير.”
“50 فير.”
“47 فير.”
“يا آنسة! هذا ليس عدلًا! عندما أتنازل قليلاً، عليك أن ترفعي السعر قليلًا! هل تعرفين معنى تيكي تاكا؟ تيكي تاكا؟”
‘عمي، كيف تعرف مصطلح تيكي تاكا؟ هذا شيء من عالمي السابق.’
‘هل هو شخص متجسد أيضًا؟ هل يمكن أن يكون هذا السائق مجرد شخصية ثانوية قد تجسد فيها شخص آخر؟’
(ميري :
مصطلح “تيكي تاكا” (Tiki-Taka) هو أسلوب لعب في كرة القدم يتميز بالتمريرات القصيرة والسريعة مع الاحتفاظ بالكرة والتحرك المستمر دون فقدان الاستحواذ. سائق العربة قصد انه هو والبطله على نفس المركبة، لازم على الاقل البطله تواكبه )
أجبرت نفسها على التوقف عن التفكير بهذه الفكرة الغريبة.
كان السائق يحدق بها بغضب ويأس.
“عمي، 47 فير سعر جيد. قلت لك، أنا أعرف الأسعار هنا. أنا مثل خريطة ملاحة بشرية. لن تصل التكلفة إلى 57 فير أبدًا.”
“ماذا؟! هل تقولين إنك تحتقرين جهلي؟”
“إذا واصلت العناد، سأبحث عن عربة أخرى بـ45 فير.”
أصبح وجه السائق أحمر كالطماطم المغلية.
“يا له من شخص وقح. كان ينوي استغلال شخص بريء، ومع ذلك هو غاضب الآن؟”
“لا تحاول خداع الناس في هذا العالم القاسي. ستأخذ 47 فير، أليس كذلك؟”
“ماذا تقولين! أنتِ التي لديك موهبة في الاحتيال!”
يا للخسارة.
ابتسمت إيفينا بهدوء بينما كانت تلتفت إلى يوهان، الذي كان يراقبها بصمت.
“وافق على 47 فير.”
“يبدو أنني سأكون سعيدًا لو كنتِ ترافقينني أيضًا، معلمتي.”
“أمم، أنا…”
تصلّب وجه إيفبنا للحظة.
قائد الفرسان الأصغر سنًا في تاريخ المعبد العظيم لم يكن ليفوّت هذا التغيير الطفيف في تعبيراتها.
نظر إلى العربة خلفها، ثم ابتسم برقة.
“يبدو أنني بحاجة إلى المزيد من التمارين الرياضية. هل تودين المشي معي بدلًا من ركوب العربة؟”
“أخشى أن ينتهي بنا الأمر نصف ميتين إذا فعلنا ذلك. السائق يرمقنا بنظرات مخيفة الآن.”
“آه، صحيح.”
“بعد كل هذه المفاوضات، إن غادرنا ببساطة، لن يتركنا السائق بسلام.”
كانت عيون السائق تلمع بغضب.
ترددت إيفنا للحظة.
في العادة، كانت ستختار المشي، لكنها كانت متعبة للغاية بسبب العمل الزائد في الأيام الأخيرة.
“لكن العربة…”
ومضت في ذهنها ذكرى قديمة. لحظة سحقها بحوافر الخيول.
أغمضت عينيها بشدة.
لم يفت ذلك على يوهان.
مد يده نحوها، لكنه توقف قبل أن يلمسها.
لم يكن عليه التدخل أكثر من اللازم.
بدلًا من ذلك، راقب ملامحها وسأل بلطف.
“هل أنتِ بخير، معلمة؟”
“نعم، نعم. أنا بخير.”
لم يكن الأمر يصل إلى حد كونه صدمة نفسية، لكنها كانت تفضل تجنب ركوب العربات قدر الإمكان.
لكن القصر كان بعيدًا، وكانت تشعر بإرهاق شديد الآن.
لقد التقطت أنفاسها وابتسمت بارتباك وهي تنظر إلى يوهان.
“أعتذر. شعرت بالدوار للحظة… هل سيكون من غير اللائق أن أنضم إليكَ في العربة؟”
“بالطبع يمكنكِ.”
“لكن، ألم تقل إنك بحاجة إلى ممارسة المزيد من التمارين؟”
“يمكنكِ نسيان تلك المزحة الصغيرة.”
حسنًا، بالنظر إلى مدى ملاءمة زيه الرسمي له، من الصعب القول إنه يعاني من نقص في التمارين.
صعدت إيفينا إلى العربة مقتنعة بكلامه. كان سائق العربة قد رفع ثلاثة أصابع بالفعل.
“إلى القصر الإمبراطوري، 30 فير.”
“لننطلق.”
كان هذا أقل بخمسة فير من السعر المعتاد، ولم يكن هناك سبب لرفض العرض.
ورغم أن ساقيها ارتجفتا قليلًا من الخوف المترسخ، إلا أنه كان أمرًا يمكن تحمله إلى حد ما.
همست وهي تنظر إلى يوهان الجالس أمامها.
“لقد قدم لنا خصمًا بخمسة فير، ألا يبدو أنانيًا بعض الشيء؟”
“على العكس، أنتِ حكيمة جدًا في تقييم الأمور بموضوعية، معلمتي.”
“هذا هو الأساس. شكرًا لك.”
انحنت برأسها قليلًا. ثم لفت انتباهها زيه الرسمي.
عباءة رمادية داكنة مع شارة فضية، وسترة مناسبة بشكل أنيق تجمع بين اللونين الأبيض والأسود بتوازن مثالي.
“الآن بعد أن فكرت في الأمر، هناك شخص هنا يعرف عن القديسة أكثر من أي شخص آخر، أليس كذلك؟”
لقد كانت فرصة مثالية للسؤال عن الأمر الذي أرادت معرفته الجزء الجانبي من القصة.
لماذا ظهرت في ذلك الجزء من الأحداث؟ هل ستصبح شريرة حقًا؟ ولماذا تحاول القديسة قتلها؟
عدّلت طيات ثوبها وسألت بنبرة غير رسمية.
“بالمناسبة، سمعتُ الأخبار. تم اختيار قديسة جديدة، صحيح؟”
“إذا كنتِ تشيرين إلى دخول القديسة الجديدة إلى المعبد العظيم قبل أربعة أشهر، فذلك صحيح.”
“آه، إذًا لم يكن خبرًا جديدًا.”
لقد مرّ أربعة أشهر بالفعل؟ لم تكن على دراية بذلك نظرًا لعدم اهتمامها بالشؤون الدينية.
لم تحضر حتى احتفالات البركة السنوية، فقد كانت ملحدة متشددة.
كيف يمكنها الإيمان بشيء..
بعد أن مرت بهذه التجربة الفظيعة من التجسد والعودة بالزمن؟
لكنها أظهرت وجهًا متدينًا مليئًا بالنعمة كما لو كانت مؤمنة مخلصة.
“كيف هي القديسة الجديدة؟”
بهذه النبرة وهذا الأسلوب، لا ينبغي لأحد أن يعتقد أنها شخص قد يُتهم بمحاولة إيذاء القديسة وينتهي بها المطاف على المقصلة.
“حسنًا… إنها لطيفة مع الجميع وتبتسم كثيرًا.”
استند يوهان على إطار نافذة العربة، واضعًا ذراعه عليه، وجلس بساقٍ فوق الأخرى.
تألقت عيناه الزرقاوان وهو يرمش بهدوء تحت رموشه الطويلة.
“ويبدو أنها واقعة في الحب أيضًا.”
تمتم بهذه الكلمات بينما كان يسند ذقنه بيده، كما لو أنه لم يكن مدركًا لما قاله.
“أشعر وكأنني سمعت للتو أمرًا شخصيًا للغاية.”
أدارت إيفينا عينيها وكأنها لم تسمع شيئًا.
ثم عاد إلى حالته المعتادة بسرعة، وابتسم برقة.
“في الآونة الأخيرة، تذهب كثيرًا إلى السجن، بحجة لقاء المجرمين الخطرين.”
“لابد أن ذلك صعبٌ عليها… آه!”
اهتزت العربة بشدة.
شعرت وكأن جسدها ارتفع قليلًا عن المقعد قبل أن يسقط مرة أخرى.
أطلقت صرخة حادة.
اهتزازات متتالية.
كانت الطرق مرصوفة، لكنها شعرت وكأنها تتنقل عبر طريق وعر.
شحبت ملامح إيفينا على الفور.
“أوه…”
“معلمة، هل أنتِ بخير؟”
عاد الخوف ليجتاحها.
تعرّق بارد انساب على ظهرها.
شعور مرعب جعلها ترتجف.
“معلمتي؟ معلمتي!”
ازداد صوت حوافر الخيول على الأرضية المرصوفة إلى حدٍ مزعج.
ساطعٌ ومرهقٌ للسمع.
أبيضٌ ناصعٌ غطى مجال رؤيتها.
ظنت أنها تجاوزت الأمر، لكنها كانت مخطئة.
عربة تتمايل بقوة.
رؤية مشوشة.
رأس ثقيل وكأنه نزف كل الدم منه.
لم تستطع التحمل أكثر، وبدأ جسدها يميل إلى الأمام.
“معلمة!”
انطلقت يد يوهان هذه المرة دون تردد، وأمسك بها بحزم.
لم يكن هناك مجال للتفكير فيما هو ضروري وما هو زائد.
كانت استجابة غريزية.
سقطت في أحضانه كما لو كانت منهكة تمامًا.
“آه…”
أنفاسه المضطربة كانت واضحة في أذنها.
لمستها برودة يده التي أمسكت بها بحرص.
شعرت بكل ذلك، وأخذت نفسًا متقطعًا قبل أن تفتح شفتيها المرتجفتين لتتمتم بكلماتها..
التعليقات لهذا الفصل " 13"