كان بنجامين ينظر بصمتٍ إلى ساي الغارقة في نومٍ عميق، مستعيدًا كلمات الطبيب الخاص.
-“صاحبةُ السموّ الدوقةُ الكبرى لا تعاني صحيًّا من أيّ مشكلة. لكن قلبَها يخفق أحيانًا بسرعةٍ على نحوٍ متقطّع جدًّا، ولا يبدو أن هناك مرضًا في القلب.”
كانت تقول إن طبقَ الفطر الذي لا تُحبّه هو المفضّل لديها، وكانت تأكله باستمتاع.
وكانت تحتقر الناس بسخريةٍ وكأنها شخصٌ آخر تمامًا.
ثم، عندما فقدت ذكرياتِ فترةِ الزواج، عادت إلى ساي القديمة.
كان الأمر غريبًا.
في غرفة النوم، وعلى عكس جسدها الذي يشتعل حرارةً ويدفعه إليه بقوّة، كانت كلماتُها مليئةً بالأشواك.
“لا تهتمّ بي. فأنا لا أهتمّ إلا بمالك ولقبك. آه، هناك شيءٌ آخر أهتمّ به. جسدُك الذي لا فائدةَ منه إلا في الفراش؟ هاهاها.”
في ذلك الوقت، ظنّ أن هذا هو صميمُ مشاعرها.
لكن ماذا لو لم يكن ذلك صادقًا؟
بعد أن فقدت ذاكرتها وعادت إلى ساي التي عرفها أوّل مرّة، صار الأمر يبدو أغربَ فأغرب.
تذكّر ما قالته قبل أيّامٍ من سقوطها من الشرفة.
“لديّ ما أودّ قوله. ليس أمرًا مهمًّا، فلنأتِ على ذكره عندما تعود من عملك في العاصمة.”
قالت ساي ذلك بلا اكتراث، وإلى جانبها الخادماتُ اللواتي كنّ يرافقنها دائمًا.
وفي الغالب، كانت تقول مثل هذا ثم تطلب زيادة الميزانيّة التي تستطيع إنفاقها، أو تتذمّر، لذلك تجاوز الأمر ظانًّا أنه يكفي أن يسايرها.
لكن ماذا لو لم يكن ذلك من هذا القبيل، وكان حديثًا مهمًّا حقًّا؟
كانت شخصًا ثمينًا. شخصًا يريد أن يحميه مهما كان.
ألقى بنجامين نظرةً أخيرة على ساي النائمة بعمق، ثم خرج من الغرفة.
ونادى المساعدَ الذي كان ينتظر أمام الباب. كان مساعدًا شابًّا ذا شعرٍ فضّي.
“سليزر.”
“نعم، سموّ الدوق الأكبر.”
“أحضِر لي تحقيقًا كاملًا عن كلّ ما يتعلّق بساي قبل أن تصبح دوقةً كبرى، حين كانت ابنة الكونت ألانترا. وكلّ ما يتعلّق بمنزل ألانترا أيضًا، بلا استثناء.”
“نعم. سأفعل.”
ما إن انتهى سليزر من الردّ حتى حيّاه بأدبٍ وغادر فورًا. فهو يعرف أن بنجامين يفضّل دائمًا أن تُنجَز الأمور بأقصى سرعة.
كان بنجامين يعرف عن منزل الكونت ألانترا إلى حدٍّ ما.
لكن ما كان يعرفه لم يتجاوز المعلوماتِ السطحيّة التي يعرفها معظمُ النبلاء. ولم يفكّر، لا قبل ذلك ولا بعده، في أن يحقّق في ألانترا بعمق.
لأنه كان يريد الزواج من ساي، وكان يرى أن النبشَ المفرط في الحياة الخاصّة للطرف الآخر ضربٌ من قِلّة الاحترام.
حتى بعد الزواج، كانت ساي تصرخ فيه كالمجنونة كلّما أبدى أيَّ اهتمامٍ بها، إلا إذا كانت هناك ضرورة.
لكن الآن، أليس الوضع مختلفًا؟
لم يكن قراره بالتحقيق لأن حبّه فتر. حتى عندما كانت ساي تبادله بالبرود، لم يبرد قلبُه يومًا.
والآن، وهي تُظهر له الودّ، كان حبّه يفيض حتى يكاد ينفجر.
ولهذا اتّخذ قراره. كان عليه أن يعرف.
وفوق ذلك، كانت ساي قد قالت بوضوح. بما أنه زوجُها، فله أن يتدخّل بما يكفي.
وقد حصل على الإذن، فلم يعد هناك سببٌ للتردّد. كما أن سبب عدم تدخّله سابقًا كان لأنه ظنّ أن ذلك لا يلحق بساي أيَّ أذى.
لكن في اليوم الذي سقطت فيه ساي من الشرفة، اضطرّ بنجامين إلى الاعتراف بأنه كان ساذجًا.
لم يكن مستعدًّا أبدًا لأن يتسامح مع أيّ شيءٍ قد يؤذي ساي.
هكذا كان أسلوبُه في العمل دائمًا.
سريعًا، ودقيقًا، وكفؤًا بلا أيّ ثغرات.
والمرّة الوحيدة التي كان يتراخى فيها، كانت مع ساي وحدها.
***
استيقظت ساي متأخّرةً عن المعتاد. كانت حالتها جيّدة منذ فترة، لكن رأسها كان ثقيلًا، وكان في صدرها إحساسٌ لاذعٌ ثقيل.
‘هل تعرّضتُ لضغطٍ كبير؟’
كانت مؤامراتُ أبيها أمرًا ثقيلًا بطبيعة الحال، لكن ما يتعلّق ببنجامين لم تكن تعرف كيف تصفه.
‘ربّما أبدو طمّاعة. قد يقال إنني زوجة، ومن حقي أن أطالب. لكن لماذا، كلّما تعلّق الأمر ببنجامين، أفقد ثقتي بنفسي هكذا؟’
لأن ما تريده، رغم أنه زواجُ مصلحة، هو قلبُه هو.
تحاول أن تبقى هادئة، لكن كلّما واجهت بنجامين، انجذبت إليه بلا حولٍ ولا قوّة، كالمغناطيس الذي يلتصق مهما حاولت إبعاده.
‘كما يمتلئ داخلي به شيئًا فَشيئًا، أتمنّى لو أن بنجامين أيضًا يمتلئ بي حتى يفيض.’
تنهدت ساي.
‘مع أنني أعرف أنه لا شيء أصعب من التحكّم بقلوب الناس، إنها مجرّد أوهام. يبدو أن ضعفي الجسدي يجعل قلبي أضعف أيضًا.’
شدّت ساي الحبل لتنادي، وهي تحاول أن تتماسك وتفيق ذهنها بعد أن تجهّزت.
دخلت روسا، خادمتها الخاصّة، وبرفقتها مربيتها ماريلّا، وهما تدفعان عربةً متحرّكة ذات طبقات. كانت عليها مياهُ الغسل وأدواتُ التنظيف، وأكوابُ شايٍ دافئة، وإبريقٌ يفوح بالحرارة، وطبقٌ مليءٌ بالكعك الذي أحبّته ساي منذ صغرها.
“سيدتي، هل استيقظتِ؟”
حيّتها روسا بوجهٍ مشرقٍ أقلَّ توتّرًا من المرّات السابقة.
“نعم. أين سموّ الدوق الأكبر؟”
سألت، ورغم ذلك شعرت بتوتّرٍ بلا سبب. كانت تريد رؤيته، وفي الوقت نفسه لا تريد. كان شعورًا غريبًا.
عند سؤال ساي، جمعت روسا يديها بأدبٍ وأجابت بوضوح.
“سموّ الدوق الأكبر ينهض دائمًا باكرًا، ولذلك استيقظ اليوم أيضًا في وقتٍ مبكّر. وأوصى بأن يدعوكِ تنعمين بنومٍ هانئ، ثم أنهى تدريبَ الصباح في ساحة التدريب، وهو الآن في المكتبة. قال إنه سيعدّ وثائقَ تتعلّق بالاجتماعات، وإنه سيتناول طعامه اليوم هناك أيضًا.”
كان جوابًا واضحًا، كأنها حفظته مرارًا لتقوله بلا خطأ عندما تستيقظ.
‘إذًا لن أراه اليوم. هذا جيّد.’
ومع ذلك، اندفع في قلبها شعورٌ بالأسف. كانت قد تجاوزت سنَّ المراهقة منذ زمن، لكنها لم تكن قادرةً حتى على الإمساك بمشاعرها، كأنها فتاةٌ في مقتبل العمر.
أومأت ساي برأسها بهدوء، تُخفي ما في داخلها خلف تعبيرٍ لطيف. وعندما رأت روسا هذا الوجه اللطيف، بدا وكأنها تشجّعت، فتردّدت قليلًا ثم قالت.
“وأيضًا، أنا…….”
“تكلّمي براحتك.”
قالت ساي،
فأكملت روسا.
“سموّ الدوق الأكبر منحني مخصّصًا إضافيًّا خاصًّا لأخدمكِ جيّدًا. أنا سعيدةٌ بذلك، لكنني أخشى إن قصّرتُ أن يُؤاخَذ، لذا أردت أن أُخبركِ مسبقًا. سأبذل قصارى جهدي بما يليق بما أُعطيت.”
“وكم أعطاكِ؟”
سألتها ساي، فأجابت روسا بخجل.
“خمسمئةٌ وخمسون ألف كروبا.”
كانت إجابةً صادقةً إلى حدّ السذاجة.
في العائلات الكبيرة، كان من المعتاد أن تُمنَح الخادماتُ أو الوصيفاتُ المقرّبات من سيّدة المنزل مكافآتٍ خاصّة بين الحين والآخر. وإن حظين برضاٍ كبير، كنّ قد يحصلن حتى على حُليٍّ من ذهبٍ أو فضّة مرصّعة بالجواهر، أو فساتينَ باهظةٍ كانت سيّدتهنّ ترتديها.
المبلغُ الذي ذكرته روسا لم يكن كثيرًا ولا قليلًا، بل في الحدّ المناسب الذي يمكن قبوله.
“لا بأس. يمكنكِ أن تأخذي هذا القدر. لكن بالمقابل، أدّي عملكِ بإخلاصٍ.”
مقارنةً بالخادمات الثلاث اللواتي كنّ يتصرّفن معها باستعلاءٍ في السابق، كانت روسا مجتهدةً بحق.
‘أولئك لم يعملن قطّ إلا عندما يكون الناس ينظرون. ومن بينهنّ كانت ديرا على الأقل تهتمّ بتزييني، لكنها لم ترَ فيّ أكثر من دميةٍ للّعب.’
حوّلت ساي نظرها إلى ماريلّا.
“كان عليكِ أن تستريحي أكثر هذا الصباح يا مربيتي. يكفي أن تكون روسا معي لغسل وجهي…….”
كان صوتُها ليّنًا مليئًا بالمودّة. ومن الواضح لأيّ شخصٍ كم كانت ساي تعتزّ بها. فهزّت ماريلّا رأسها نفيًا.
“عندما يشيخ المرء، يزول نومُ الصباح. ثم إن الاعتناء بكِ يجعلني فخورة.”
أمسكت ساي بيد ماريلّا بحنان.
“ومع ذلك، يا مربيتي، إن كان هناك أيّ نقص، فأخبِريني.”
كانت ساي، بعد أن عانت طويلًا من الجوع إلى المودّة والثقة، تريد أن تمنح مربيتها كلّ ما تستطيع بلا بخل. أرادت أن تمحو كلّ الذكريات البشعة التي لا تعرفها ماريلّا، وأن تعيش معها بسلامٍ وسعادة كما في الأيّام التي قضتاها معًا.
لكن قبل ذلك، كان عليها أن تحلّ الأمر المضطرب أولًا.
“يكفيني أن تكوني بخير، يا سيدتي.”
قالت ماريلّا وهي تربّت على يد ساي، وكان ذلك شبيهًا بلمستها في الطفولة عندما كانت تسقط باكيةً، فشعرت ساي بدفءٍ يملأ قلبها.
“بدا أنكِ لم تتناولي الكثير في عشاء الأمس، لذا أحضرتُ شايَ الحليب والكعك لتأكليهما بعد غسل وجهكِ. مع أنكِ تأكلين جيّدًا، ما زلتِ نحيلةً جدًّا، وهذا يقلقني.”
نظرت ساي إلى الكعك المألوف المكدّس في الطبق وأجابت.
“لستُ نحيلةً إلى هذا الحدّ.”
“بل أنتِ نحيلةٌ إلى هذا الحدّ.”
قالتها ماريلّا بحزم، فاضطرّت ساي في النهاية إلى الضحك.
“حسنًا. سآكل بعد أن أغسل وجهي.”
كانت ساي تضعف بلا مقاومة أمام ماريلّا وحدها.
بالنسبة لساي، كانت ماريلّا شاهدًا على طفولتها السعيدة. وفوق ذلك، بعد أن بلغت، أبقتها إلى جانبها بإرادتها لا بإرادة أبيها، فزاد تعلّقها بها أكثر.
ما إن انتهت ساي من غسل وجهها، حتى دفعت ماريلّا الكعك وشاي الحليب بهدوءٍ إلى أمامها. فهمت ساي المعنى بوضوح، فضحكت بخفّة وشربت رشفةً من الشاي. وحين لم تمتدّ يد ساي فورًا إلى الكعك، ناولتها ماريلّا واحدةً بيدها، كأنها تطعم طفلًا.
وكأنها ستظلّ تحدّق بها بعينيها الواسعتين حتى تأكل،
فرفعت ساي الكعك إلى فمها.
قَرْمَشَة. وتكسّر الكعك بصوتٍ مقرمش.
‘ما زال طعمه مختلفًا قليلًا عن السابق.’
لكن ساي لم تقل شيئًا، مراعاةً لجهد ماريلّا.
لم تكن شهيّتُها كبيرة، لكنها أكلت قطعتين أو ثلاثًا من الكعك من أجل ماريلّا التي كانت تنظر إليها من جانبها بلا انقطاع.
التعليقات لهذا الفصل " 29"