1
الفصل 1
ثمّة فضائلُ كثيرةٌ يجب أن تتحلّى بها زوجةُ اللورد، غيرَ أنّ أسمى تلك الفضائل هي دون شكّ “العِفّة والحكمة”.
وكانت الكونتيسة صوفي ألتنبرغ تُعَدّ امرأةً تنطبق عليها صفةُ الحِكمة تمامًا.
لكنّها لم تكن كذلك منذ البداية.
ففي صِباها، كانت فتاةً مشاكسةً بعيدةً كلّ البعد عن الوقار.
كانت فتاةً ذات شعرٍ بلاتينيٍّ مموَّجٍ يلمع تحت الشمس، تُحبّ أن تجري في الغابة، وتعتلي الجبال، وتُمارس الرماية.
وقد شاع أنّ ذراعيها الرشيقتين كانتا قادرتين على مُجاراة الفرسان في استعمال السلاح.
غير أنّها لم تستطع أن تُصبح فارسةً قطّ، لأنّ والدها لم يأذن لها بذلك.
كان والدها غوتليب رجلًا يعامِل النساء كالمُمتلكات، كما فعل مع أمّها من قبل.
ولهذا زوّجها وهي في السادسة عشرة من عمرها إلى الكونت فيرن ألتنبرغ.
كان ذلك قبل اثنَي عشر عامًا.
ولم يكن في مقدورها رفض الزواج، فأسرتُها كانت منذ أجيالٍ من أتباع بيت ألتنبرغ.
ورغم كونها فتاةً مشاكسةً، فإنّها لم تستطع عصيان أوامر أبيها.
كانت تعلم أنّ الزواج قدرٌ لا مفرّ منه، ومن يكون الزوج لم يكن ليُغيّر من الأمر شيئًا.
قال أبوها يوم زفافها وهو منتشٍ بفخر: “أيّ زواجٍ أعظم من هذا؟!”
وبالفعل، كان قصر ألتنبرغ يُعَدّ من المقاطعات المزدهرة.
فهو يقع أسفل الحدود الشماليّة عند فلكنهاين، أرضِ الأخشاب الصلبة الممتازة، وتُسهم برودتها في زراعة الأعشاب الطبيّة وأشجار الشاي.
وكانت أشجارُ الشاي مصدرَ دخلٍ كبيرٍ، إذ يختلف نوعُ الشاي باختلاف طريقة معالجة أوراقه.
وفوق ذلك، ظلّت ألتنبرغ متحالفةً مع فلكنهاين منذ زمنٍ طويل، فكانت أكثرُ من نصف الأسلحة المتّجهة شمالًا تمرّ عبرها، وتجلب ضرائب عبورٍ وفيرة.
أمّا الكونت فيرن ألتنبرغ نفسه، فكان زوجًا مقبولًا إلى حدٍّ ما.
وكانت صوفي زوجتَه الثانية، إذ تُوفّيت الأولى بالحُمّى بعد نصف عامٍ من الزواج.
وكان بينهما فارقُ عُمرٍ يزيد على عشر سنوات، لكنّ مثل هذا مألوفٌ بين النبلاء.
قال لها فيرن يوم الزفاف: “إن أدَّيتِ واجبَك بإخلاص، فسأُعاملكِ بما يليق بكِ.”
ولأنّها ابنةُ خادمٍ مخلصٍ للعائلة، فقد أدارت صوفي شؤون القصر بكفاءةٍ ملحوظة.
ورغم الصعوبات الأولى، فإنّ ذكاءها وسرعةَ تأقلمها جعلاها قريبًا سيّدةَ القصر التي يُقرّ الجميع بحكمتها ورصانتها.
وكان فيرن راضيًا عنها تمامًا.
لكنّ ثمّة مشكلةً واحدة… هي الوريث.
فإنجابُ وريثٍ كان أعظمَ واجبٍ على زوجة اللورد.
ومضت ثلاثُ سنواتٍ دون أن تُرزق صوفي بطفل، فانتشرت الهمسات والقلق.
غير أنّها أخيرًا، بعد أربع سنوات، حقّقت المُبتغى.
أنجبت طفلةً تشبهها تمامًا ذات شعرٍ بلاتينيٍّ وعينان رماديّتان زرقاوان.
سمّتها غريتا ألتنبرغ، وكانت سعادتها لا توصف.
لكنّ فرحتها لم تدم طويلًا.
إذ ما إن سمع زوجُها أنّ المولودة فتاة، حتى أطلقَ تنهيدةً متذمّرة وقال: “ظننتُ أنّكِ ستلدين صبيًّا قويًّا مثلكِ و يحبّ الصيد!”
كانت صوفي مرهقةً بعد الولادة، فانخفض رأسها خجلًا ولم تجرؤ على النظر إليه.
ومع ذلك، لم يَخِب أملها.
فما دامت قد أنجبت طفلة، فهي قادرةٌ على الإنجاب مرّةً أخرى، أليس كذلك؟
هكذا حاولت أن تُواسي نفسها.
لكنّ السنوات مرّت، ولم تحمل مجدّدًا.
وقبل ثلاث سنوات، جاءت أختُها الصغرى فيلماري، التي كانت تصغرها بعامين، إلى القصر طالبةً المأوى.
كانت غريتا آنذاك في الرابعة من عمرها.
فيلماري طُلّقت من زوجها بدعوى غيرتها المفرطة، وبعد أن ضاقت بها السبل تحت أنظار أبيها، لجأت إلى أختها الكبرى.
عادةً، تمضي النساءُ المُطلّقات بقيّةَ حياتهنّ في الأديرة.
لكنّ فيلماري، ذاتُ الجمال الأخّاذ والطبع الاجتماعيّ، كانت تكره حياةَ الرهبنة الصارمة.
رقّ قلبُ صوفي لها، وأذِنت لها بالإقامة في قلعة ألتنبرغ.
في البداية، كان وجودها مبهجًا.
فقد كانت رقيقةَ الكلام، جميلةَ الملامح، يُحبّها الناسُ جميعًا.
بل إنّها في صِباها كانت تغسل ثيابَ أختها صوفي مبتسمةً كلّما عادت من الصيد.
غير أنّ صوفي، لو كانت تعلم أنّ أختها ستُنجب ابنًا من زوجها فيرن، لما سمحت لها أبدًا بالدخول إلى القصر.
فبعد عامٍ واحدٍ فقط من قدومها، أنجبت فيلماري ابنًا لفيرن.
ولا أحد يعلم متى بدأَت العلاقةُ بينهما.
وكان المولودُ ذكرًا.
جاءت فيلماري، وهي تضمّ طفلَها الوليد إلى صدرها، وابتسامةٌ هادئةٌ تعلو وجهها، وقالت لأختها:
“أُختي، أعتذر حقًّا… لكن هلّا احتضنتِه كأنّه ابنُكِ، لا ابنُ أختكِ؟”
يا لَها من كلماتٍ لا تُصدَّق!
كيف يُعقَل أن تُطلبَ منّي معاملةُ ابنٍ غيرِ شرعيٍّ وُلِدَ من خيانةٍ على أنّه ابني؟!
بل من امرأَةٍ نامت مع زوجي؟!
غير أنّ فيرن، على نحوٍ يثير الاشمئزاز، استقبلَ الطفلَ بحفاوةٍ، بل سمّاه بنفسه “ليون”.
كان ذلك أشبهَ بصبّ الزيت على جمرِ غيظِ صوفي.
كم راودها أن تطرد فيلماري من الأراضي كلّها في الحال، لكنّ فيرن لم يسمح لها بذلك.
“مهما يكن، فهي أختُ زوجتي. كيف تكونين قاسيةً إلى هذا الحدّ؟”
يا للسخافة!
ومع ذلك، كانت صوفي تدرك أنّ جمالَ فيلماري الساحر كان من الأسباب التي جعلت فيرن يتغاضى عن كلّ شيء.
فبعكس شعر صوفي المجعَّد، كان شعرُ فيلماريا البلاتينيّ ينسدل في أمواجٍ ناعمةٍ آسرة.
وفوق ذلك، كانت صوفي امرأةً صاخبةَ الصوت، مرِحةً تُحبّ الخروج والصيد، أمّا فيلماري فهادئةٌ، تمضي وقتها في التطريز داخل المنزل.
ولأنّ فيرن لطالما أكّد على صوفي أنّ زوجة الكونت يجب أن تكون رصينةً ووديعة، فقد وجد في فيلماري مثالًا لما يشتهيه.
لذلك، لم يكن أمام صوفي سوى الصبر.
مُنحت فيلماري وطفلها ليون منزلًا صغيرًا في أطراف المقاطعة.
فلا يمكن بالطبع إبقاؤهما في القصر.
وكان عزاءُ صوفي الوحيد أنّ لديها ابنتها غريتا.
فهي، مهما حدث، الوريثةُ الشرعيّة لبيت ألتنبرغ، في حين لا يُمكن لابنٍ غيرِ شرعيٍّ أن يُطال مقامها أبدًا.
لكنّ الأحداث انقلبت رأسًا على عقب حين مات زوجها فيرن فجأة.
لم يكن السببُ سوى سببٍ تافهٍ، عَظمُ سمكةٍ علقَ في حلقه جعله غيرَ قادرٍ على الأكل أيّامًا، ثمّ سقط ميتًا ذات صباح.
كانت ميتةً بائسةً لرجلٍ بمقامه.
إلا أنّ تلك الوفاة جرّت على صوفي كارثةً لم تكن في الحسبان.
“ما معنى هذا؟! كيف أصبح ذلك الطفلُ ابني أنا؟!”
لقد تبيّن أنّ فيرن، قبل موته، تآمر مع فيلماري لتزوير شهادة ميلاد ليون، مسجِّلَين إيّاها باسم صوفي كأمٍّ له.
وفي وثيقة الميلاد تلك وُضِع اسمُ الكاهنِ الذي شهد الولادة لإثبات شرعيّته، كما اقتضى العُرف.
لكنّ الشهادة كانت تقول إنّ الوالدَين هما فيرن وصوفي!
والأدهى أنّ التوقيع على الوثيقة كان بخطّ الكاهن الأكبر في الأبرشيّة، والشهودُ هما غوتليب والد صوفي وصديقه القديم.
هرعت صوفي إلى الدير وهي تصرخ: “هذه الشهادةُ مزوَّرة! إنها كذب!”
لكنّ الرهبان صدّوها ببرود.
“جميع الإجراءات اكتملت على نحوٍ رسميّ، ولا مجال للطعن.”
“لقد حضرتِ بنفسكِ مع الكونت ووقّعتِ أمامنا، أليس كذلك؟”
نظروا إليها كأنّها امرأةٌ فقدت عقلها.
دار رأسُ صوفي، وأرادت أن تُجادل، لكنّ زوجها الذي كان وحده قادرًا على كشف الحقيقة قد مات.
وبعد طولِ تردّد، قصدت أباها غوتليب.
لم تستطع تصديقَ أنّه شاركَ في هذه المؤامرة، وظنّت أنّه ضُلل بطريقةٍ ما.
فهو، مهما يكن، لن يحمي ابنَ خيانةٍ!
غير أنّها فوجئت به يزجرها بعنفٍ قائلًا: “أليست فيلماري قد أدّت عنكِ واجبكِ؟ أليس هذا خيرًا لكِ وللإقطاعية؟ كيف لزوجةِ اللورد ألا تتقبّل أمرًا كهذا؟!”
بالنسبة إلى غوتليب، لم يهمّ من تكون الأمّ ما دام الوريثُ يحمل دماءَ عائلته.
بل إنّه، وقد تقدّم به العمر، كان يُفضِّل أن يتولّى ليون ابن فيلماري الحكمَ بدلًا من أن تتزوّج حفيدته غريتا برجلٍ غريبٍ و يدخل البيت.
بالنسبة إلى صوفي، كان ذلك جنونًا مطلقًا.
فكلّ ما في ألتنبرغ ملكٌ لغريتا، ولا يحقّ لأيّ ابنِ زنا أن يرث منه شيئًا.
صرخت و هي تبكي: “أبي! هذا ظلمٌ فادح!”
لكنّ توسّلاتها ضاعت سدى.
كان غوتليب يرى في ما حدث فرصةً للسيطرة على المقاطعة بيديه.
“انظري إلى الأمر بعين الحكمة، يا ابنتي.”
كيف يمكنها ذلك؟!
وبمجرّد انتهاء مراسم دفن فيرن، عادت فيلماريا إلى القصر وهي تحمل طفلها الرضيع، يتقدّمها غوتليب الذي ادّعى أنّها جاءت لتكون “مرضعةَ ليون”.
الجميعُ في القصر كانوا يعرفون الحقيقة، لكنّ أحدًا لم يجرؤ على الكلام طالما أنّ غوتليب يساندها.
وهكذا بدأت حربٌ صامتة.
فبرغم أنّ صوفي كانت سيّدة القصر منذ اثنَي عشر عامًا، فإنّ نفوذ أبيها الذي تغلغل في شؤون الإقطاعية منذ زمنٍ أطول جعلها عاجزةً تمامًا.
رسائلها إلى الدير لم يُجب عليها أحد، والتابعون كلّهم انصاعوا لكلمات غوتليب واقتنعوا بأنّ لا مشكلة في الأمر.
تعرّضت غريتا مرّاتٍ عدّة لمحاولاتِ أذًى، لكنّ صوفي حمتها بكلّ ما أوتيت من قوّة.
ولحسن الحظ، كبرت الطفلة وسط ذلك الاضطراب فتاةً ذكيّةً مشرقةً تُدخل البهجة إلى قلب أمّها.
كانت حائرةً بالطبع لِما ترى من برودٍ تُجاه أخيها الصغير، لكنّ صوفي لم تُعر ذلك اهتمامًا.
فقد قرّرت أنّه عندما تبلغ غريتا العاشرة، ستُورِّثها اللقب رسميًّا، وتكون هي وصيّتَها وحاميتها حتى تكبر.
لكنّ القدر كان يُخبّئ ما هو أدهى.
في أوائل الصيف، هرعت إحدى الخادمات إليها.
“سيّدتي! الآنسة غريتا… اختفت!”
لقد تلاشت ابنتُها داخل القصر، بلا أثرٍ،
لقد اختُطفت على يدِ الجنيات.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 1"