لن أخدع مرتين [ 99 ]
“يبدو أنها انغرست بعمق يقارب السنتيمترين.”
قال ذلك وهو يتفحّص رأس السهم الذي نزعه.
“من حسن الحظ أن حاجز البشرة محاطٌ بقوة روح الأرض، وإلا لانغرس السهم بعمق خطير حقًّا.”
أن يغوص سهمٌ مدبب كرأس المخرز (سهم بودكين) مسافة سنتيمترين فقط، فهذا دليل على مدى صلابة الحاجز الذي نسجته روح إيزابيلا.
قالت إيزابيلا متذمرة:
“أصلاً لم يكن في الخطة أن أصاب بسهم. هل تدرك كم ارتبكت؟”
فأجاب ليكاردو محتجًّا وقد بدا عليه الضيق:
“هاه، وماذا عن سقوطك من فوق الجرف؟ أي عرض مسرحي كان ذلك؟! أيمكنك أن تشرحي لي على الأقل مسبقًا قبل أن تفعلي شيئًا كهذا؟!”
حين رآها تسقط، ارتبك ليكاردو بقدر ما ارتبك ثيو نفسه، إذ لم يكن ذلك جزءًا من أي اتفاق سابق.
ابتسمت معتذرة وقالت:
“آسفة… الحقيقة أن الفكرة خطرت لي بعد أن وصلتُ إلى هنا ورأيت طبيعة المكان…”
لقد رأت النهر يجري أسفل الجرف.
وبمجرد أن تجرفها المياه، فلن يكون أمام ثيو خيار إلا استدعاء الأرواح.
صرخ ليكاردو غاضبًا:
“لحسن الحظ أن هذا الرجل بقي لديه ما يكفي من القوة ليستدعي ناياس، وإلا لجرفه التيار!”
فأجابته إيزابيلا ببرود:
“أنا مستحضرة أرواح الأرض.”
“الأرض تُحبس جريان الماء.”
“آه…”
مهما يكن ضعف توافق ثيو الروحي، فما دامت هي بخير فلا يهم.
مدّ ليكاردو يده إلى رأسه يحكه محرجًا بعد أن كان قد ثار غضبًا.
“على أي حال… الأمر انتهى الآن، أليس كذلك؟”
التفتت إيزابيلا إلى ثيو، فرأته يقطّب حاجبيه كأنه يحاول استيعاب ما جرى.
“ثيو، كيف حال رأسك؟”
“………”
أدرك فجأة أن ذهنه صافي.
كان جسده متعبًا، لكن رأسه أنقى من أي وقت مضى.
“هل ما زلت تسمع ذاك الصوت الذي يأمرك بالهرب مني؟”
“لا.”
لقد اختفى.
زالت كل القيود التي كانت تكبله.
“ما الذي حدث؟”
تنهدت إيزابيلا بارتياح وابتسمت قائلة:
“ما الذي حدث؟ ببساطة… لقد نجحنا في خداع فايتشي والتخلص من التعويذة.”
“لكن… كيف…؟”
كاد يسأل، فإذا به يلمح كتفيها ترتجفان، مبتلّتين بالماء.
“فلنعد إلى البيت أولًا. هناك ستخبرينني بالتفاصيل.”
لقد فهم ما يكفي، التعويذة انكسرت، وما جرى من صراع بينه وبينهم لم يكن سوى خطوة ضرورية في سبيل ذلك.
ومن ثم انصبت كل مشاعره على إيزابيلا وحدها.
التفسير يمكن أن ينتظر، أما العلاج والدفء الذي يذيب برد جسدها، فذلك أهم.
“حسنًا… لنعد إلى البيت.”
ابتسمت إيزابيلا ابتسامة عذبة وهي تمسك بيده بقوة، مبتهجة لسماع تلك العبارة التي افتقدتها طويلًا.
****
كان مكان اجتماعهم غرفة إيزابيلا.
والذريعة أن جراحها تحتاج إلى عناية صحيحة وأنها بحاجة إلى مكان ترتاح فيه.
فالآخرون الذين كانوا بانتظار انتهاء كل شيء في مكتب ليكاردو، اجتمعوا هم أيضًا في غرفة إيزابيلا.
قالت كاساندرا بغضب:
“حقًّا! تظهرين أمامنا مضرجة بالدماء كفأر مبلل بالماء، فتجعلين المرء يكاد يُغشى عليه من الفزع!”
إيزابيلا التي لم تتلقّ سوى إسعاف أولي على يد دايفيد، حظيت هذه المرة بعلاجٍ كامل من طبيب بيت الماركيز.
وأضافت كاساندرا بسخط:
“يا للعجب! أي تصرّف أحمق هذا؟! أتلقي بنفسك من فوق جرف؟!”
قالت إيزابيلا بخجل:
“كنت أعلم أن ثيو سيتبعني…”
“وماذا عن السهم؟ لمَ تعرّضتِ لتلك الإصابة؟!”
“لأن الطريقة الوحيدة ليدفع ثيو نفسه لاستخدام كل ما تبقى لديه من توافق روحي، هي أن يفعل ذلك من أجلي…”
كان ثيو واقعًا تحت تعويذة عقلية، وهي من السحر القديم الذي طوّره السحرة للتحكم في الأرواح عبر فرض سيطرة على توافقهم الروحي.
الأرواح كائنات لها عقل وإرادة، لكنها ليست بقوة البشر.
لذا إن فُرض عليها هذا النوع من السيطرة، أصبح في مقدور الساحر إخضاعها.
لكن فايتشي لم يكتفِ بذلك، بل ألقى هذه التعويذة على أشخاص ذوي توافق روحي، وحاول أن يتحكم بهم كما لو كانوا أرواحًا.
وهكذا استُعبد الإمبراطور وإيزابيلا وثيو وغيرهم من مستحضري الأرواح.
أما طريقة فكّ التعويذة فكانت بسيطة:
التخلّص من التوافق الروحي الملوث.
إذ إن التعويذة لم تُفرض على الجسد أو الرأس أو القلب، بل على التوافق الروحي نفسه.
ويخيّل لمن يقع تحتها أنه فقد وعيه، لكن عند مستحضري الأرواح يكون التوافق الروحي هو جوهر الذات، ولهذا يبدو الأمر كأن العقل سُلب منهم.
بمجرد أن يُفرَّغ التوافق الروحي الملوث، تزول التعويذة ويعود التوافق الذي يمتلئ مجددًا نقيًّا وخالصًا.
وقد أدركت إيزابيلا هذا أثناء بحثها في التعويذة، فاستعملت الطريقة على ثيو.
غير أن ثيو مستحضر أرواح عظيم، وانتزاع كامل توافقه لم يكن بالأمر السهل.
وفوق ذلك، لو تنبّه الساحر الذي ألقى التعويذة، لحاول منع تفريغ التوافق الروحي.
لذا كان على إيزابيلا أن تخدع صاحب التعويذة… وأن تخدع ثيو نفسه أيضًا، لتستدرج منه آخر قطرة من توافقه.
وهي تعلم أن ثيو لن يبذل كل قوته لأجل نفسه،
لكنه لن يتردد في بذله بل وحتى حياته إن كان الأمر متعلقًا بها.
لهذا جعلت نفسها تبدو وكأنها على وشك الموت، حتى يفرغ كل طاقته.
قال دايفيد معاتبًا:
“لكن مهما يكن، ما فعلتِه كان متهورًا للغاية يا آنسة إيزابيلا.”
ولم تكن قد توقعت أن تنهال عليها ملامات الجميع دفعة واحدة.
فأردف جوشوا ساخرًا:
“انظري حتى هذا الذكي نفسه يقول لك ذلك. أي إنسان عاقل ما كان ليقوم بما قمتِ به.”
وأضافت كاساندرا بحنق:
“أما أعذارك بعد أن وصلتِ إلى هناك فلا قيمة لها. قلتِ إنك احتجتِ وسيلة قاطعة لتستنزفي قوة ثيو؟ حسنًا… أعذارك مرفوضة منذ الآن.”
احتجّت إيزابيلا بصوت خافت:
“لكن…!”
فقاطعتها كاساندرا بصرامة:
“مرفوض.”
حاولت إيزابيلا أن تعترض بصوت خافت، غير أن كاساندرا قالت بحزم:
“أكاد أفهم ما في خاطر بطل الحرب. ألا تدركين قيمة جسدك ولماذا لا تحافظين عليه؟”
قالتها كاساندرا بنبرة ضجر كأنها تصرخ، فهزّ جميع من حولها رؤوسهم موافقين.
“من الآن فصاعداً سنتحرك جميعاً معاً. وإن لزم الأمر سأقيدها بنفسي حتى لا تتحرك بلا حساب.”
كانوا قد تراجعوا إلى الخلف لكون المعركة بين مستحضري الأرواح، لكنهم ندموا إذ تمنوا لو تبعوها لحمايتها.
فقال أحدهم محذّراً:
“ذلك خطر يا زعيمة النقابة شان. ما حدث في الوادي كان واضحاً للعيان حتى من العاصمة.”
لقد توقف المارة وحدّقوا صوب ما جرى، حتى إنهم ظنوا أن انهياراً أرضياً وقع جراء الغبار المتصاعد من بعيد، وكان من حسن الحظ أن الأمر عُدّ كذلك.
فقالت كاساندرا:
“في هذه الأيام تُصنع أدوات سحرية دفاعية ممتازة.”
فردّ أحدهم:
“إنها خطيرة.”
فانفجرت غاضبة:
“إذن ماذا تقترحون! أندعها تعبث بلا قيد؟”
وحين انضم دايفيد هو الآخر مؤكداً على خطورة الأمر، بدا أن كاساندرا قد فقدت أعصابها حقاً.
لقد أثّر عليها كثيراً أن ترى إيزابيلا عائدة وهي مصابة.
فتدخل ليكاردو قائلاً:
“اهدئي يا كاساندرا. أنا أيضاً أرى أن إيزابيلا متهورة، لكن لدينا الآن ما هو أهم لنعالجه.”
فانتهى النقاش بتدخله.
ثم التفت إلى ثيو الجالس بجوار إيزابيلا، وقد أُدخلت قسراً إلى الفراش، يداوي جراحها مستعيناً بـ ناياس بعد أن استعاد شيئاً من قواه الروحية.
قال ليكاردو:
“قد سمعت من إيزابيلا بعض ما جرى…”
ولهذا قرروا المضي في العملية.
“لكنني أريد أن أسمع منك أنت مباشرة.”
فهو الأعلم بتفاصيل الحادثة، وإيزابيلا أغفلت الكثير في روايتها.
كما أنه شعر بأن هناك شيئاً غريباً في كلامها وتصرفات ثيو، لذلك أراد أن يتبين الحقيقة كاملة.
“ما الذي حدث حقاً؟”
تنهد ثيو طويلاً قبل أن يجيب:
“إنها قصة طويلة.”
ثم نظر إلى رفاقه الذين أحاطوا به وبإيزابيلا.
لم يعد يخفي شيئاً، فقد كان بحاجة إليهم.
إذا كان يثق بهم حقاً، وإذا كان يعتبرهم رفاقاً بحق، فلابد أن يمدّ يده إليهم.
“إنها قصتي.”
وبدأ يحكيها ببطء.
قصة طويلة باح لهم بها كاملة.
أبدوا الدهشة، لكنهم لم يقاطعوه حتى النهاية.
كلما عجز عن متابعة الحديث، انتظروه بصبر، وكانت إيزابيلا تشدّ على يده لتمنحه القوة.
روى عن بيت الدوق لويد، وعن لحظة فنائه، وعن حياته بعدها، ومعها ما رأته إيزابيلا في سجلات دويتشلان.
كان حديثاً ثقيلاً استمر طويلاً.
***
قال داليان وهو يرفع تقريره:
“بعد أن صرفوا الجميع، لم نتمكن من معرفة محتوى حديثهم.”
فأخذت أندريا تفكر وهي تمسح ذقنها ببطء.
كانت ترتدي ثوب نوم، ومع ذلك بدت أنيقة تحمل في حضورها سكينة الخريف.
“سنعرف محتواه من خلال أفعال أولئك الأطفال.”
ولم تبدُ قلقة كثيراً.
“راقب جيداً تحركاتهم، وتحركات الأمير فايتشي أيضاً.”
“أمركِ.”
غادر داليان، فتوجهت أندريا بخطوات هادئة نحو الخزنة المخفية خلف لوحة زيتية معلقة على الحائط.
فتحتها بخاتم يحمل شعار العائلة، وأخرجت منها أداة سحرية لحفظ الأصوات.
طرقتها بأصابعها، فانبعثت منها أصوات متقطعة:
“إذ….”
“ماذا… يمكن أن نفعل…”
كانت أصوات رجل وامرأة، كلاهما مألوفان جداً لديها.
ارتفع الحوار داخل الأداة شيئاً فشيئاً حتى بدا محتدماً، غير أن رداءة الصوت حالت دون تمييز الكلمات بوضوح.
يبدو أنه حين تم تسجيله كان أوضح، لكن مرور الوقت أضعف السحر المخزون فيه. ولو أضيفت طاقة جديدة لانبعث الصوت بجلاء أكبر.
أعادت أندريا النظر في الرسالة المحفوظة بجوار الأداة.
كانت كلماتها قليلة، لكنها ثقيلة المعنى:
“أورلاندو، أترك هذا بين يديك.”
كانت الكتابة خشنة، لكنها مشبعة بالعزم والقوة.
****
صدق فيه شي ماقلته لكم، كل اسماء الارواح موجودة في الاساطير يمدي تبحثون عنها.
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات لهذا الفصل " 99"