لن أخدع مرتين [ 97 ]
إيزابيلا لم تُجِب، واكتفت بابتسامة متعمدة.
كان ثيو فضولياً، لكنه لم يسأل أكثر.
فلو عرف الطريقة في العالم الواقعي ثم تسرّبت المعلومة بطريقة ما إلى فايتشي، لكان الأمر مزعجاً.
وثيو التقط هذا المعنى، فلم يسأل وإيزابيلا لم تفصح.
على أي حال، سيعرف حين يحين الوقت.
لقد عانيتُ الأمر ذاته في حياتي السابقة…
فكيف لا أكون قد أعددت خطة لمواجهته والرد عليه؟
لن أقع مرتين في الفخ نفسه.
ارتسمت على شفتيها ابتسامة نصر لم تُرَ عليها منذ ساعات قليلة فقط.
****
عاد ثيو إلى الواقع، ليجد نفسه يصارع مجدداً ضباباً خانقاً في رأسه.
حاول قدر ما يستطيع ألّا يفكر بلقاء إيزابيلا في عالم الأرواح.
فبما أن التعويذة تسيطر على الفكر، فقد يكون كل خاطرٍ يمرّ بعقله مكشوفاً لملقي التعويذة.
واكتشف أنه كلما امتنع عن التفكير فيها، خفّ الصداع.
عدم المقاومة أهون لي.
تذكّر كلمات إيزابيلا.
كانت محقة.
تصرّفها وكأنها تعرف كل شيء كان مدهشاً حقاً.
أما إن فكر فيها إيجابياً، فالصداع يشتد.
فتنهد وهو يئن من عناد السحر.
“ثيو.”
اقترب منه جوشوا بينما كان جالساً عند النافورة يتنفس بعمق.
ناولَه ورقة صغيرة.
“الآنسة إيزابيلا طلبت مني أن أوصلها لك.”
بمجرد أن سمع اسمها، تجعّد حاجباه واشتد الصداع.
قال جوشوا وهو يمدّ الورقة:
“لا أعرف لماذا تتشاجر معها، لكن لا تكن متصلباً هكذا. لطالما كنتَ الخاسر الدائم، فما بالك الآن تتصرف على غير عادتك؟”
كان يحاول أن يخفف من الموقف، وكأنه لا يريد أن يرى علاقتهما تنهار.
لكن حين التقت نظراته بنظرات ثيو المليئة بالحدة، ارتبك حكّ خده خجلاً وقال:
“لا تفهمني خطأ، أنا طبعاً أؤيدك…”
الجميع يعرف أن ليكاردو يكن مشاعر لإيزابيلا.
“لكن سيدنا ليكاردو يحب حبكما أكثر من حبه لنفسه.”
الجميع يعلم أنه يفضل حمايتهما معاً على أن يسعى وراء حبه الشخصي.
“لهذا السبب، ومن أجله، فأنا أيضاً أدعم علاقتكما.”
تحت ذريعة ليكاردو، كان جوشوا يأمل أن يتصالحا.
“لذلك، أرجوك، قابل الآنسة إيزابيلا. وتوقف عن النظر إليها بتلك النظرات المخيفة.”
وبعد نصيحته، أسرع بالانصراف؛ فقد شعر أن بقاءه أكثر قد يدفع ثيو إلى سحب سيفه.
زفر ثيو بعمق وهو يضغط على جبينه. بدا وكأنه صب غضبه على جوشوا دون قصد.
“هآه…”
لكن الضباب المزعج ما زال يسيطر على رأسه.
نظر إلى الورقة التي تركها جوشوا.
لم يكن مكتوباً فيها سوى مكان واحد:
“جبل سانتريه، وادي الصخور.”
يبعد عن العاصمة نصف يوم تقريباً.
مشهور بوعورته، لكنه أيضاً يتميز بمناظر خلابة.
لم يزره من قبل، لكنه أدرك ما الذي أرادت إيزابيلا أن توصله إليه.
قالت أنا أعرف الطريقة.
هل سأكتشفها هناك؟
توجه ثيو إلى المكان، رغم الصداع. لم يكن من الصعب العثور عليه.
كان الوادي شامخاً ومهيباً، جميلاً ومرعباً في آن، حتى إنه لا يصلح كوجهة سياحية لخطورة مسالكه.
وبينما كان يحدق في عظمة الصخور والجبال المحيطة…
“……!”
شعر بتهديد حاد، شبيه بذلك الذي يختبره في ساحة القتال.
فتراجع بسرعة خاطفة.
فيووو~ باك!
سهم غرس نفسه في الشجرة بجانب المكان الذي كان يقف فيه قبل لحظة.
وبمجرد أن تعرّف على السهم، شعر بقوة الأرواح تهاجمه.
كوووااااك!
في اللحظة نفسها، انهمرت عليه هجمة أخرى.
ردّ فوراً، فاستدعى أونديني ليشكل جداراً مائياً، وانحرف جانباً.
ارتطمت سهام الريح بجدار الماء، فتكسّر الاثنان معاً.
“ريح؟”
زمّ ثيو حاجبيه وحدّق.
أول ما خطر بباله كانت الماركيزة مولان، أحدى حاشية فايتشي.
لكن المفاجأة أن المهاجمين لم يكونوا كذلك.
“كما توقعت، سريع حقاً.”
“بل ريحك أنت بطيئة يا دايفيد.”
أمام عينيه وقف ليكاردو ماكا ممسكاً بالقوس، وإلى جانبه دايفيد باتوكا وقد استدعى روحه.
“ما هذا…!”
“هاجم!”
لم يتوقف الاثنان رغم أن نظراتهما التقت بعينيه.
كواااااااااك! كوووونغ!
انهالت عليه سهام الرياح، وثيو لم يجد بُداً من تشكيل جدران مائية متتالية بأونديني ليتصدى لها.
لكن الأرض الوعرة حول الوادي كانت تستنزف قواه مع كل حركة.
ضاق صدره من المراوغة المستمرة، فأطلق إيلّايم.
“قيدوهم.”
حتى لو أصابهم أذى، لا بأس.
لكن ما إن خطرت هذه الفكرة حتى صُعق.
‘اللعنة، التعويذة مجدداً…!’
في اللحظة التي نوى فيها الهجوم، سيطر السحر على عقله.
كان يريد فقط السيطرة عليهما لمعرفة السبب، لكن التعويذة دفعت رأسه دفعاً نحو نية القتل.
‘اللعنة…!’
اندفع إيلّايم بجسده الضخم وضرب زعنفته العاتية.
كووووواااااغ!
اصطدم ماء إيلّايم بالجبال، فتناثر المطر غزيراً ممزوجاً بتراب متناثر.
“مولاي! دايفيـــد…!”
كان ثيو يحاول أن يتأكد من سلامتهم، فرأى جداراً صلباً من التراب يحيط بهم.
ذلك الجدار الترابي، الذي لم يكن هجوم إيلّايم الأخير الخالي من القوة بسبب إنهاكه قادراً على تحطيمه.
“بيلا……؟”
ومع اختفاء الجدار ببطء وعودته إلى الأرض، ظهرت إيزابيلا واقفة إلى جانب الاثنين.
لم يكن وجودها مفاجئاً، فهي من أرسلت إليه الورقة.
لكن الموقف بحد ذاته هو ما أزعجه: هو يتعرض للهجوم، بينما إيزابيلا تحمي ليكاردو.
هذا ما بدأ ينخر قلقاً في قلبه.
ما الذي يحدث هنا…؟
“آسفة.”
قالت إيزابيلا بابتسامة محرجة:
“لم يكن هناك خيار آخر.”
“ما الذي…؟”
“لن أسامحك وقد صرتَ تابعاً للأمير فايتشي!”
فجأة صرخ ليكاردو بكلمات تشبه عبارات أبطال الرسوم المتحركة للأطفال، ثم استدعى عدداً كبيراً من الأرواح.
“اقضوا على الخائن!”
“…اقضوا عليه.”
انضم دايفيد متأخراً إلى صرخته المدوية، وبدا واضحاً أنه كان يرددها على مضض.
ورغم أنه شعر بالخجل الشديد من قولها، إلا أن ثيو المثقل بسطوة السحر على عقله لم يكن في حالة تسمح له بملاحظة ذلك.
قاومْ.
قاتلْ.
اقتلْ.
كان الصوت في رأسه يردد أوامر كالتنويم.
اقتل من أمامك.
“آه!”
أصابته نوبة صداع حادة كادت تسقطه فاقداً للوعي.
كواااااااغ!
بأعجوبة صدّ الهجوم التالي وهو يقاتل على جبهتين.
هجمات الأعداء من الخارج، والضباب الذي يغزو عقله من الداخل.
اشتدت العاصفة تكتسح الأغصان والحجارة حوله، ثم اصطدمت بأمواجه العاتية فصنعت طوفاناً ضخماً اجتاح المكان بأسره.
غمرت الموجة الأربعة جميعاً، وكسحت ما حولها من الأرض.
لكن ليكاردو ودايفيد لم يمسسهما سوء، إذ كان جدار إيزابيلا يحميهما.
اضطر ثيو إلى صرف المزيد من طاقته ليمتص قوة الطوفان بنفسه، وكلما استحضر المزيد من قوته الروحية، ازداد صداعه.
ورؤية إيزابيلا وهي تحمي ليكاردو مزّقت عقله، فأصبح الضباب في رأسه أثقل.
“بيلا!”
نادى باسمها، لكن الرد الوحيد الذي وصله هو الصمت.
آسفة.
ما الذي يعنيه هذا؟ ولماذا؟
اجتاحت رأسه شتى التساؤلات، لكنه لم يجد وقتاً سوى للقتال والدفاع.
مستحضر ارواح العُليا قوي، لكن حتى داخل نفس المرتبة، كان هناك تفاوت شاسع.
قد يُضاهي مستحضحر الارواح العُليا العادي قوة فرقة كاملة من فرسان ولي العهد، لكن بزيادة عدد الأرواح المستدعاة قد يعادل قوة جيش بأسره.
ولهذا كان الفارق بين ثيو وإيزابيلا صارخاً.
فبينما يستطيع ثيو استدعاء أثنين من إيلايم في وقت واحد، كان بوسع إيزابيلا أن تستدعي ثلاثة، وربما أكثر من ذلك، وإن لم تكشف الرقم مطلقاً.
في مواجهة كهذه، النتيجة محسومة.
وزاد الأمر سوءاً أن دايفيد وليكاردو كانا يقاتلان معه أيضاً.
قد يبدو الأمر كحال روبيان بين حيتان، لكن إن كان ذلك الروبيان محمياً من أحد الحيتان، فإن الكفة ستختلف.
لقد كان ثيو في معركة خاسرة.
كواااااااااااغ!
لم يعد بوسعه أن يبقى واقفاً في مكانه لحظة واحدة.
الأرض التي يقف عليها هي مجال سيطرة إيزابيلا، وإن ارتفع مع أرواحه إلى السماء، وجد نفسه في مجال سيطرة مستدعي الرياح الاثنين.
حتى حين حاول أن يغمر المكان بفيضان كامل، ارتفع جدار ترابي أعظم ليحتجز مياهه.
“آه، إيلّايم! سدّ من الأسفل.”
[أونديني، التفّي من اليسار وهاجمي!]
كان مضطراً للتواصل صوتاً وفكراً في الوقت نفسه كي يصد كل الهجمات المتساقطة.
وبينما يطلق المزيد من طاقته، شعر أن التفكير صار أسهل، وكأن قوة أرواحه تدفع الضباب بعيداً عن رأسه.
قوته العنيفة أخذت تتبدل تدريجياً إلى طاقة أكثر انسياباً.
لكن في الوقت نفسه، شعر أن طاقته الروحية توشك على النفاد.
“إيلّا… آه.”
فكر أن يهاجم مرة أخيرة، ثم يحاول التحدث معهم بعدها.
لكن ما إن حاول استدعاء إيلّايم، أدرك أن الأمر بات مستحيلاً.
‘انتهت؟!’
ثيو الذي خاض الحروب وعرف جيداً كيف يُدير طاقته الروحية، لم يكن يفتقر إلى الخبرة أبداً.
لكن المشكلة كانت في السحر.
فبسببه أصبحت طاقته مضطربة، تتدفق وتخبو، وهو منشغل أيضاً بصدّ الرغبات العدوانية التي تدفعها التعويذة إلى عقله، حتى صار وضعه فوضوياً تماماً.
‘اللعنة… إن استمر الحال هكذا…’
******
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات لهذا الفصل " 97"