لن أخدع مرتين [ 96 ]
إيزابيلا، التي كانت تحدّق شاردة في المشهد الطبيعي الذي يزهو بأجمل صوره، التفتت عند إحساسها بوجود شخص بجانبها.
“ثيو.”
كان هو الآخر يحدّق في البحيرة بملامح كأنها مسحورة بجمال المنظر، قبل أن يلتفت نحوها.
تلاقت أنظارهما، وانساب بين صمتهما صفاء أصوات الطبيعة.
وبينما كان ينظر إليها بوجه يكسوه شيء من الارتباك، فتحت شفتيها وقالت:
“كفاك هروباً.”
“……!”
اهتزّ بريق عينيه عند كلماتها.
ولأن إيزابيلا شعرت بأنها أدركت ما يجول في ذهنه، ابتسمت بسخرية طفيفة.
“هذا ليس حلماً. أو لعلّه… ينبغي القول إنه كذلك.”
ابتسمت بخفة ثم أعادت نظرها إلى البحيرة، قبل أن تجيل بصرها ببطء في المكان.
“إنه فضاء آخر، مختلف عن الواقع لكنه متصل به في الوقت نفسه.”
لم تستطع أن تفسّر كيف يكون ذلك ممكناً.
لا الكتب ولا أحد ممن ادّعوا اكتشاف سره استطاع أن يقنع الآخرين به.
لكنها وقد عادت إليه مجدداً، أيقنت بما لا يدع مجالاً للشك.
مدّت يدها، فحطّت عند أطراف أصابعها طائر صغير كاسا يرفرف بجناحيه، ثم حيّاها بلطف وطفق يبتعد.
وبينما تتابعه بنظراتها، همست بكلمة عرّفت المكان:
“عالم الأرواح.”
لم يكن الطائر الحرّ وحده من رحّب بها.
بل أيضاً إيلّايم الذي يسبح بحرية في البحيرة، وأونديني التي تدور حوله.
وكلاي”الذي يشرب من الماء، وإلى جواره شورييل.
وإيفريت الذي يمشي مترنحاً وقد استقر على ظهره سيلايم، يتبعه سيلف الماكر.
إنها جنة الأرواح.
التفتت إيزابيلا إلى ثيو وابتسمت له:
“يبدو أن الأرواح منحتنا هذا المكان لنلتقي بلا قيود.”
لا المسافة عائق.
ولا الزمن يجري هنا كما يجري هناك.
مكان صافٍ بلا أي قيود.
“بلا قيود…….”
ردّد ثيو كلماتها ثم ابتسم ابتسامة غامضة:
“لهذا صار عقلي صافياً هكذا إذن.”
“ماذا؟”
تفاجأت إيزابيلا بكلامه، فمدّ يده فجأة نحوها، وكفّه الخشنة تحيط بوجهها.
“اشتقتُ إليكِ.”
كان صوته يحمل من الشوق ما لا يناسب رجلاً قضى وقته كله بالهرب منها.
****
جلسا معاً على صخرة عند حافة البحيرة، وقد غمسا أقدامهما في الماء البارد يتجاذبان أطراف الحديث.
وتجمعت أرواحهما حولهما متناثرة باطمئنان.
“إذن، فايتشي كشف كل شيء بالنهاية.”
أدركت إيزابيلا ما دار بين ثيو وفايتشي.
“منذ التقيته بدأتُ أعاني صداعاً، وضباباً يعتم تفكيري….”
“وكأنك إن غفلت لحظة ستفقد وعيك كلياً؟”
“بالضبط. ولهذا كنت أتجنبك. كان الأمر أشبه بصوت في رأسي يأمرني أن أطردك بعيداً مراراً وتكراراً…….”
كان يعلم أن كلماته تبدو مثيرة للسخرية، لكنه واصل حديثه، لأن إيزابيلا كانت تصغي بصدق.
“إن رأيتكِ وأنا تحت هذا التأثير فقد أرفع صوتي عليكِ، بل… قد أؤذيكِ.”
ضغط ثيو أكثر على يدها التي كانت متشابكة مع يده.
“خشيت أن أجرحكِ.”
اتسعت عينا إيزابيلا بدهشة.
فكرة أن يجرحها ثيو بدت لها أكثر استحالة من فكرة فناء عالم الأرواح نفسه.
لكنها كانت تعرف مدى قوة تعويذة فايتشي العقلية، لذلك فهمت ما يقصده.
وهذا ما أثار غضبها أكثر.
“تبا لهذا الوغد فايتشي.”
انطلقت الكلمات من فمها بلا شعور.
فقد عرفت جيداً ذلك الإحساس الذي يصفه ثيو، لأنه نفس ما عانته هي في حياتها السابقة معه.
رغم كل ما كرهته فيه أو لامته عليه، إلا أنها كانت تحبه في جوهرها.
لكنها كلما التقت به، كانت تنفجر غضباً وتلقي عليه كلاماً جارحاً.
بل إنها ذات مرة نزعت سوارها الثمين ورمته في وجهه، وكل ذلك بسبب ذلك الضباب الذي يغشى العقل.
وما أعقب ذلك من ألم كان لا يُطاق.
استعادت تلك الذكرى، فضمت ثيو إلى صدرها بقوة.
“هذه ليست مشاعرك الحقيقية. وليست رغبتك أنت.”
“لكن مجرد أنني شعرت هكذا نحوك، أليس ذلك…”
“لا، بل هو شيء زُرع في رأسك بفعل فاعل.”
هي تعرف.
أكثر من أي أحد آخر تعرف ذلك الشعور بأن كل ما يحدث ذنبك أنت.
“أنت واقع تحت تأثير تعويذة، مجرد سحر يسيطر على عقلك.”
“سحر؟”
شرحت له ببطء ماهية تلك التعويذة.
وكلما استمع، ازدادت التجاعيد بين حاجبيه عمقاً.
فهو لم يسمع قط عن مثل هذا السحر، ولا عن أن فايتشي قد ألقاه عليه.
“هل أعطاك فايتشي شيئاً لتأكله أو تشربه؟”
“أطعمني؟”
“نعم. فهذا النوع من السحر لا يعمل هكذا ببساطة. لا بد من وجود ثغرة في الروح، منفذ يُفتح حتى يتسلل من خلاله.”
لقد بحثت إيزابيلا عن الأمر كثيراً.
فهي تتساءل كيف وقع ثيو في شَرَك تلك التعويذة، وتخشى أن يستخدم فايتشي الأسلوب نفسه مرة أخرى في هذه الحياة، لذلك أرادت أن تعرف كيف يمكن مواجهته.
تبيّن بعد البحث أن تلك التعويذة ليست سوى نوعٍ من السحر.
إنها إحدى صور السحر القديم المجهول، حتى إن معظم سحرة الإمبراطورية لا يعرفون بوجوده.
وكان يُدرَس في بعض أبراج السحر في مملكة هيليبور.
كما اكتشفت إيزابيلا أموراً أخرى عنه.
كلما كانت إرادة المرء وعزيمته أقوى، كان إيقاعه تحت هذا السحر أصعب. فلا بد من وجود ثغرة ينفذ منها.
“تُفتَح تلك الثغرة أحياناً باستغلال نقطة ضعف الشخص، مثلاً….”
ربما حاولوا زعزعة ثيو بكونه من عائلة الدوق لويد، أو حرّكوا صدمة قديمة له متعلقة بالنار.
لكن عموماً، مُستحضِرو الأرواح يتميزون بقوة ذهنية عالية، إذ لا يستطيعون التواصل مع الأرواح بلا وعيٍ صافٍ ومتماسك.
لذلك لم تكن مثل هذه المحاولات كافية لإخضاعه للسحر.
حتى هي نفسها في حياتها السابقة كانت مُستحضِرة أرواح، ومع ذلك خضعت لتلك التعويذة بمجرد ألاعيب بالرسائل وبعض الفتن التافهة، وهذا غريب حقاً.
وهذا يعني أن ثمة طريقة أخرى استُخدمت.
ـ”أحياناً يُلجأ لإيذاء الجسد نفسه… كالتسميم مثلاً.”
قالت ذلك وتذكّرت الإمبراطور.
فالإمبراطورة ألقت هذه التعويذة عليه.
كيف لرجل كالإمبراطور أن يقع ضحية لها؟
السبب كان السمّ الذي شربته أوفيليا.
عندها انكسر للمرة الأولى، ثم استهدفته أوفيليا مباشرة، وزاد الطين بلة احتمال خيانة صديقه المقرّب.
تضافرت تلك العوامل كلها، فنجحت الإمبراطورة في السيطرة عليه.
“الأمير فايتشي لم يعطني شيئاً.”
لكن ثيو نفى ذلك بهز رأسه. لقد تجنّب لقاءه قدر المستطاع.
حتى إن كان قد أكل شيئاً في حفلة ما، فقد أكله الآخرون أيضاً، لا هو وحده.
كان الأمر غير منطقي بالنسبة لثيو، لكن إيزابيلا واصلت التفكير.
“إن لم تكن ضربة واحدة قوية، فلا بد أنه تأثير متكرر ومتواصل….”
الإمبراطور سقط بعد جرعة سم واحدة.
أما هي في حياتها السابقة، فقد دسّ لها فايتشي عقاقير مضعِفة للعقل والجسد بشكل مستمر.
وبما أن ثيو لم يسبق أن بصق دماً أو سقط مريضاً فجأة…
في تلك اللحظة ومضةٌ اجتاحت عقلها، ومرت صورة إدوارد أمام ناظريها.
“شراب السير إدوارد!”
أحست كأن وعيها انفتح فجأة.
“إذن لهذا كان يتصرف بذلك الحذر!”
كل شيء صار منطقياً.
سبب ارتباك إدوارد أمامها. والشيء الذي أراد فايتشي أن ينتزعه منه.
لم يكن مجرد جمع معلومات، بل كان يستخدم إدوارد ليؤثر في ثيو مباشرة.
“ذلك الشراب الذي أخذته من السير إدوارد، هو بالتأكيد من فايتشي.”
“ماذا تقولين؟ مستحيل، إيد لا يمكن أن يفعل شيئاً كهذا….”
“آه، ثيو… لدي الكثير مما يجب أن أخبرك به.”
لم تكن تريد الخوض في ظروف إدوارد الخاصة، لكنها الآن مضطرة إلى كشف كل شيء.
فبدأت إيزابيلا بسرد مطوّل: أصل إدوارد، وما قرأته في أرشيف دويتشلان، والوضع المشتعل الذي يهدد المملكة بالحرب.
باستثناء حقيقة عودتها بالزمن، نقلت إليه كل ما استطاعت من معلومات.
وكان ثمة بعض الصعوبة في الشرح دون ذكر ماضيها، لكن ثيو استمع إليها بتركيز وهدوء.
“مساعدة ليكاردو في استحضار أرواحه كانت بسبب تلك الحرب. لم أكن أعلم إن كنت سأنجح أم لا.”
قالت ذلك بصوت أشبه بالاعتذار.
“لم أتخيل أنك ستتأذى من الأمر.”
“لا، لا داعي لتأثرك. الأمر لا يجرحني.”
لم يكن في قلبه شكٌّ تجاهها أو تجاه ليكاردو.
“لكن… حالتي هذه الأيام ليست طبيعية….”
لقد كانت آثار التعويذة ما يكدّر عواطفه.
“ومع ذلك أشعر وكأنني السبب في معاناتك، وذلك يغيظني.”
قالت ذلك وهي تحدّق في وجهه بقلق.
ابتسم ثيو متأثراً بعنايتها:
“لا، فلا تُظهري ذلك الوجه الحزين.”
مدّ يده يلامس وجهها بحنان ليزيل تقطيبة ملامحها.
“بل الأهم….”
عقد حاجبيه فجأة.
“أخبريني أكثر عن تلك الثورات.”
كان يقصد ما ذكرته عن هيجان الأرواح.
فقد قالت إيزابيلا إن حادثة بين الإمبراطور والدوق لويد قد تكون بسبب هيجان الإمبراطور نفسه، وإن موت الماركيز ماكا السابق نتج عن انفلات أرواح ليكاردو.
لم تخبره بما جرى بينها وبين ولي العهد في حياتها السابقة، لكن مجرد هذين الحدثين كان كافياً ليشدّ انتباهه.
“ما زلت لا أعرف السبب. لكن لا بد أن هناك وسيلة ما شبيهة بتلك التعويذة التي وقعتَ أنت فيها.”
“إطلاق العنان لهيجان الأرواح؟ هذا قد يقلب الإمبراطورية رأساً على عقب!”
“أعلم. لهذا كنت مترددة في البوح به.”
ولذلك لم تستطع أن تخبر ليكاردو أو ولي العهد، ولم تلجأ حتى إلى كاساندرا لتساعدها في التحقيق، إذ يمكن لأي كان أن يستغل هذه المعرفة.
“لا بد من التحقيق أكثر.”
“نعم.”
“لكن ذلك يستلزم أن أستعيد وعيي أولاً….”
زفر ثيو تنهيدة ثقيلة.
فهو الآن في عالم الأرواح، وعقله صافٍ.
لكن ما إن يستيقظ في الواقع، حتى يعاوده أسر السحر، وكأن جسده لم يعد جسده.
مجرّد تفاديه لإيزابيلا كان عذاباً، فكيف بالتحقيق في أمر كهذا؟
“أنا أعرف طريقة.”
قالتها إيزابيلا مبتسمة بخبث وهي تمسك يده بقوة.
“أي طريقة؟”
******
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات لهذا الفصل " 96"