لن أخدع مرتين [ 95 ]
“هاه، هكذا ستفعل إذن؟”
انفلتت ضحكة ساخرة من إيزابيلا وقد بدا عليها الذهول.
على مدى الأيام الماضية، كانت تطارد ثيو أينما ذهب.
كلما أخبرها الجنود بمكانه، كانت تسعى خلفه، لكنّه كان يتفادى لقاءها ويختفي مرارًا.
حتى عندما استعانت بالروح نووم لتعقبه، كان كل مرة يستخدم قوته الروحية ليبعده عنه ويختفي مجددًا.
وكان تصرف الأرواح التي يرسلها لطرده يبدو أكثر قسوة من اللازم، أو لعلها مجرد شعور لديها.
ومع ذلك، لم تفكر إيزابيلا بالاستسلام.
فقد نشرت الأرواح بالقرب من أسوار البحيرة التي يتردد عليها كثيرًا، وزرعتها في كل نافورة، بل وحتى في السوق، ساحة التدريب، وحتى أمام مكتب ليكاردو نفسه.
باختصار، وضعت الأرواح في كل مكان قد يذهب إليه، حتى تتمكن من اللحاق به فور أن تشعر بوجوده.
لكن ثيو كان يختفي بين لحظة وأخرى، من الشرق للغرب، كمن يتلاعب بها.
حتى عندما اعتقدت أنه لا بدّ أن يعود على الأقل لينام في غرفته بالقصر الجانبي، انتظرته هناك لكنه لم يأتِ.
في تلك اللحظة بدأ العناد يدبّ فيها.
“سأظل صائمة حتى يظهر!”
صرخت في الفراغ.
كان مشهدها وهي تجادل الهواء وكأنها تقاتل شيئًا غير مرئي مثيرًا للضحك.
حتى الفرسان المارين ظنوا أنها فقدت صوابها، لكنها فعلت ذلك لأنها أيقنت أن ثيو يسمعها من مكان ما.
“هذا تهديد مخيف فعلًا.”
جاءها صوت هادئ من الخلف، فاستدارت إيزابيلا بسرعة.
كانت منفعلة إلى حد أنها لم تستطع إلا أن تحدّق بغضب في القادم نحوها.
“يا للعجب، حتى لو نظرتِ إليّ هكذا، فأنا أيضًا لا أعرف أين ثيو.”
كان القادم هو جوشوا، وقد رفع يديه مبتسمًا ليظهر حسن نيته.
“آه، المعذرة… انفعالي جعلني لا أتمالك نفسي.”
“هاها، لا بأس. بل أنا سعيد لأنني رأيت الآنسة إيزابيلا بوجه غاضب أيضًا.”
يا له من شخص يفرح لأتفه الأسباب.
ابتسمت بسخرية في سرّها، ثم حيّت إدوارد الذي كان يقف بجواره.
“سير إدوارد، مضى وقت طويل.”
“أه؟ آه، نعم… أعني… صحيح، صحيح.”
“……؟”
كان ردّه مرتبكًا ومضطربًا وكأنه ضُبط متلبسًا بفعل خاطئ.
“هل أنت بخير يا سير إدوارد؟”
“ولمَ لا أكون بخير! ماذا… ماذا!؟”
“……؟”
كان انفعاله طبيعيًا كما اعتادت، لكنه بدا متوترًا بشكل غريب.
فقال جوشوا مبتسمًا:
“لا تهتمي به، إنه ليس على ما يرام مؤخرًا.”
“عفوًا؟”
“منذ أن بدأ ثيو يتفاداكِ وهو على هذه الحال.”
ثم اقترب جوشوا قليلًا وهمس في أذنها:
“يبدو أنه اكتشف مرة أخرى أنه تعرّض للاحتيال.”
“احتيال…؟”
“تعرفين ذلك الشراب الذي كان يعطيه لثيو؟”
“آه…”
أومأت إيزابيلا برأسها.
إذن، الشخص الذي باعه الشراب كان مجرد محتال آخر عديم الفائدة.
وقد كان الأمر قد تكرر سابقًا، لذا استطاع جوشوا أن يفسّر سلوك إدوارد جيدًا.
خصوصًا وأن القارورة التي كان يجلبها كل يومين ليعطيها لثيو، اختفت الآن تمامًا.
“قلت لك ليس احتيالًا! لم أخدع! كم مرة يجب أن أكررها!”
صرخ إدوارد بانفعال.
“ليس احتيالًا…!”
لكنه توقف فجأة، إذ التقت عيناه بعيني إيزابيلا.
فأشاح بوجهه بسرعة وكأنه يخفي ذنبًا.
“على كل حال، بما أن كبرياء صديقنا العزيز إدو لن يسمح له بالاعتذار، سأعتذر أنا بدلًا منه.”
غمز جوشوا لها بابتسامة لطيفة.
أجابت بابتسامة مطمئنة، لكن عينيها عادت لتنظر نحو إدوارد الذي كان يقضم أظافره بعصبية بالغة.
وبينما تراقبه همس جوشوا:
“حسنًا، إذا ظهر ثيو، سأمسكه أنا هذه المرة. لدينا اجتماع ضروري أيضًا، لكنه يختفي دومًا وهذا يربكنا.”
“أرجو ذلك، شكرًا لك.”
حيّت جوشوا ثم استدارت لتواصل بحثها عن ثيو.
لكنها ما لبثت أن توقفت وعادت تنظر للخلف.
حينها لمحته يحدّق بها.
وبمجرد أن التقت عيناهما، ارتبك إدوارد وأدار رأسه متظاهرًا بالانشغال، لكن تصنّعه كان فاضحًا.
‘غريب…’
أن تقول إنه يتصرف هكذا فقط لأنه شعر بالمهانة بعد أن اكتشف الاحتيال… هذا لا يفسر الأمر.
‘إنه يراقبني….’
هل بسبب أن ثيو شرب ذلك الشراب المحتال؟ أم أنّ هناك سببًا آخر؟
‘تلك النظرات… وتصرفاته… إنها تشبه ما حدث في ذلك الوقت.’
عادت إلى ذهنها ذكرى لحظة الهروب من السجن.
كان سلوكه حينها مشابهًا تمامًا.
ولم يكن مجرد وهم.
‘لا يمكن….’
تسرب شعور بالقلق إلى قلبها.
‘أيعني هذا أن تمويه ابن البارون لم يكن كافيًا؟’
***
ابتلعت تنهيدة وهي تمسح جبينها.
‘هذا يضعني في مأزق…’
يبدو أن فايتشي مدّ يده نحو إدوارد، وذلك الرجل البسيط استسلم لابتزازه.
أخذت إيزابيلا تفكر مليّاً.
‘هل لتجنّب ثيو لي علاقة بالسير إدوارد؟’
إنّ هروب ثيو منها بهذا الشكل غريب حقاً.
فهو مهما غضب أو استاء، لا يبتعد عنها، بل يظهر انزعاجه بجانبها.
ولذا اعتبرت أنّه ربما متأثر بشدّة لسبب ما وخرجت تبحث عنه.
لكن حين خطرت في ذهنها إمكانية أنّ إدوارد قد انجرّ إلى قبضة فايتشي، تغيّرت نظرتها.
‘لكن السير إدوارد لا يعرف شيئاً عن ثيو، أليس كذلك…؟’
في حياتها السابقة، كان يملك معلومات مؤكّدة سلّمها لفايتشي.
الهروب من السجن.
وقتها قال ليكاردو بوضوح:
‘ذلك الرجل لم يكن ينوي الموت منذ البداية. كان فقط ينوي لفت الأنظار ريثما يُهرّبك…!’
وهذا يعني أن ثيو كان ينوي شغل الأعين به ليُخرج إيزابيلا من السجن ثم يختبئ.
لكنّه في النهاية قُبض عليه وأُعدم حرقاً.
‘من المرجّح أن السير إدوارد ساعده في ذلك.’
وإذا كان قد سرّب أيضاً تفاصيل هروبها، فإنّ الصورة تكتمل تماماً.
‘لكن هذه المرّة، ما الأمر؟’
فكّرت طويلاً ولم تجد جواباً.
‘لا سبيل إلا بسؤاله مباشرة…’
لكن ذلك خطر.
سيعرّض إدوارد للخطر، كما سيعرّضها هي أيضاً.
‘لتكن الحرية رفيقك…’
‘إن لم تستطيع الوثوق بهم، فجرب أن تثق بي. سأقود كل أرواحي لمساعدتك.’
هي من قالت ذلك… ورغم ذلك، ها هي الأمور صارت على هذا الحال.
‘هل يعني ذلك أن الخيانة لم يكن ممكناً منعها؟’
بوجه كئيب مسحت إيزابيلا وجهها بكلتا يديها.
هل هناك أمور مهما بذل الإنسان جهده لا يمكنه تغييرها؟
مرّت أمام ذهنها أعمال كثيرة لم تُنجَز بعد:
موت الإمبراطور.
موت وليّ العهد.
الحرب.
في تلك اللحظة، دوّى في رأسها صوت نووم:
[تشيك! تشيك!]
لقد عثر على ثيو.
لكن قبل أن تخطو خطوة، جاء صوته محبطاً:
[تشيك…]
لقد أعاقه روحُ ثيو، فأضاع أثره.
‘ألم تعلمي أنّ نظرات ليكاردو تنتهي بك دوماً؟’
كلمات كاساندرا التي اجتازت خاطرها عقدت ذهنها أكثر.
أمور لا يمكن إيقافها.
متغيّرات لم تُحسب.
أشياء تعجز هي عن حلّها.
أطرقت إلى يديها التي مرّرت على وجهها منذ قليل.
يدان فارغتان بدتا لها في هذا اليوم بائستين أكثر من أي وقت مضى.
“هاه…”
شعرت وكأن كل شيء يتداعى.
كانت تظنّ أنّها قاربت النهاية، فإذا بها تعود إلى نقطة الصفر.
لقد شرع فايتشي من جديد في نسج شبكته، وإحساس الاختناق بالوقوع فيها خنق صدرها.
رفعت رأسها فرأت السماء صافية، عالية بلا حدود، لكنّها بدت وكأنها تهوي فوقها.
عندها، لمحَت في الأفق شيئاً يقطع السماء الواسعة.
لم يكن سحابة، بل نوراً مشعّاً ذا حضور قوي.
‘نجم…؟’
رغم أنّ وهج الشمس أخفاه، إلا أنّه كان مجرّد درب التبانة ممتداً عبر السماء.
وفي لحظة، صدمها نور أشدّ من الشمس نفسها، فأغمضت عينيها بقوة.
الإسوار في معصمها أطلق ضوءاً ساطعاً، وفقدت إيزابيلا وعيها.
*****
‘ما أغرب هذه الصلة القدرية…’
ذكريات دُفنت في مكان سحيق أخذت تتموّج بضعف.
‘يا من وُلدتِ تحملين أمنية، ما أمنيتك؟’
‘أريد أن أعيش مع ثيو طويلاً وسعيدين! مثل أبطال القصص الخيالية!’
لكن… من كان ذاك الذي سألها؟
وجهه لا يعود إلى ذاكرتها.
لقد كان ذلك منذ زمن بعيد، بعيد جداً.
‘تكريماً للرابطة الثمينة، سأهبكِ أنتِ وأمنيتك هدية خاصة.’
تذكُرت أنّه هو من منحَهما هذين الإسوارين.
لفح نسيم رقيق دافئ معصمي الطفلين.
وظهرت قطرات ماء وغبار تراب في الهواء، لتلتفّ بالريح.
كل شيء التهب فجأة، وفي طرفة عين كان الإسوار يطوّق معصميهما.
كان مشهداً غامضاً بحق.
‘ما هذا؟ هل أنت ساحر يا عم؟’
‘إنها أمنيتي التي ستحرس أمنيّتكما.’
حين قال ذلك، شدّت إيزابيلا يد ثيو أكثر.
‘لابد أنها أساور الأمنيات. هل نتمنّى أمنية الآن؟’
كان ثيو قد تصلّب فجأة لذكرى عابرة، لكن صوت إيزابيلا أعاده إلى وعيه.
أطبق على يدها برفق وهو يومئ موافقاً.
أغمض الطفلان عينيهما وتمتمَا للعالم:
‘دعنا نبقى معاً إلى الأبد.’
‘ودعنا نكون سعداء إلى الأبد.’
تلك الأمنية البريئة النقية انطبعت في الإسوار.
‘ولتحرس محبة الأرواح أمانيّكما.’
فتحت إيزابيلا عينيها.
لم يعد الرجل موجوداً.
بل انكشفت أمامها بحيرة صافية، واستقبلتها الأرض الباردة عند قدميها.
*****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات لهذا الفصل " 95"