لن أخدع مرتين [ 92 ]
وكأنها هي الأكثر شوقًا وتعلقًا.
وكأنها وحدها من يفهم كل ألمه.
أطرق ليكاردو رأسه بشدة.
وراحت عيناه تلمحان يده التي أمسكت بيدها دون أن يشعر.
هذه اليد التي أنقذت عائلته عشرات المرات، لمّا تأملها وجدها صغيرة حقًا.
لماذا أنتِ من ينقذني دائمًا؟ لماذا دائمًا تكونين أنتِ من يمد لي يد الخلاص؟
حتى وإن حاولت أن أنكر، فأنت تجعلين إنكاري مستحيلاً.
“أثق بكِ.”
قالها بيكاردو بصوت خافت.
إن لم أثق بكِ، فلمن أُسلم ثقتي إذن؟
إن كان في هذا العالم شخص أثق به كما أثق بأمي، فلا بد أنه أنتِ.
وزفر بحرارة وكأنه يفرغ ما لا يطيق احتماله من مشاعره.
أما إيزابيلا فظلت تنتظر بصمت.
“أنا بحاجة إلى أرواح ليكاردو.”
في الحقيقة، قرارها بمساعدته لم يكن مجرد عاطفة، بل كان حسابًا دقيقًا.
إن اندلعت الحرب، فستحتاج إلى أرواحه.
فإن خرجت هي إلى ساحة المعركة، سيحتاج ولي العهد إلى من يحميه.
وحتى لو كان ليكاردو هو من خرج للحرب، فلا نصر دون مستحضر أرواح من المستوى الأعلى.
‘إن صدقت ذكرياتي من حياتي السابقة، فلا بد أن ليكاردو أيضًا سيصبح مستحضر أرواح من الدرجة العليا.’
سمعت أنه حاول استحضار روح عليا وفشل في العقد معها.
وهذا معناه من وجه آخر أنه إن كرر المحاولة فسيأتي يوم ينجح فيه.
ولو وُجد مستحضر آخر من أرواح الرياح العليا، لتمكنت إيزابيلا من تنفيذ خططها كلها دون عثرة.
ورغم أن دافعها كان عقلانيًا بحتًا، إلا أن الأمر بدا لـ ليكاردو وكأنها تسنده بلا حدود.
‘لكن لديه صدمة نفسية……’
كما يخاف ثيو من النار، وكما تخشى هي أن تعود أحداث حياتها السابقة لتتكرر، فهو أيضًا يخشى الفشل من جديد في إعادة الاستحضار.
وكان ذلك أمرًا طبيعيًا.
لكن إيزابيلا كانت واثقة أنها لن تفشل، ولهذا ارتأت أن تمنحه الوقت ليتهيأ.
انتظرت أن يلتقط أنفاسه بعمق، فلم تتعجل.
غير أن المصادفات لم ترحم.
ففي تلك اللحظة بالذات، كان هناك من رآهما.
رجل جاء يبحث عن إيزابيلا، فرأى من خلال فتحة الباب المشهد بينهما.
كان وجه ثيو يتصلب.
قلبه يخفق باضطراب، والقلق يتملكه.
كان ذلك التوقيت مثاليًا لتتغلغل فيه اللعنة التي تستشري داخله.
اختنق نفسه وتشوشت أفكاره.
وكأن ضبابًا غطى رأسه، فلم يعد يقدر أن يفكر.
فاستدار مبتعدًا.
وكأنه رأى ما لا ينبغي أن يُرى، هرع خارج المكان.
خطواته سريعة قلقة، لكن ملامحه متجهمة، ويداه مقبوضتان حتى غرست أظافره في كفيه.
****
بعد دقائق، كان ليكاردو قد هدأ قليلًا، ووقف يواجه إيزابيلا.
شعر ببعض الحرج لما بدر منه قبل قليل حين تشبث بها بذلك الشكل.
لكن لحسن الحظ، لم تعلق إيزابيلا على الأمر، بل دخلت في صلب العمل مباشرة.
قال إنه يثق بها، لكن عينيه ما زالتا تفضحان ارتباكه وقلقه.
هل يعرف فعلًا ما تنوي أن تفعله؟
“أحيانًا في أول استدعاء، قد يظهر روحٌ لا يتوافق مع خصائص المستحضر. سمعت عن هذا من قبل؟”
“لا أظن… أسمع به لأول مرة.”
لم يظهر مثل هذا في الآونة الأخيرة، فليس عجيبًا أن يكون الأمر جديدًا عليه.
قدمت له إيزابيلا كتابًا كانت قد استعارته من مكتبة جمعية الأرواح، تحديدًا من قسم عالم الأرواح.
“انظر هنا.”
فتحته عند صفحة محددة، وبدأ ليكاردو يقرأ ببطء.
“جوهر فن استحضار الأرواح هو فتح طريق يربط بين عالم البشر وعالم الأرواح.”
“أعرف. هذا مما نتعلمه في البداية.”
ولهذا يظهر الروح المتوافق مع خصائص المستدعي.
“لكن الجزء المهم هو هذا.”
وأشارت إلى بضعة أسطر أدنى.
“لأن هناك أرواحًا غريبة قد تعبر من تلقاء نفسها بغض النظر عن خصائص الطريق المفتوح. ولهذا، في الاستحضار الأول، قد يظهر روح لا يتوافق مع طبيعة المستحضر.”
كان هذا ما أخبرته به للتو.
“إذن هذا يحدث فعلًا. لكن… ما أهمية هذا؟”
لم يزل ليكاردو غير مدرك لوجه الأهمية، فابتسمت إيزابيلا ابتسامة تنبئ بحدوث أمر جلل.
“إذا فكرت في الأمر، فمعناه ببساطة أن فتح الطريق مع عالم الأرواح يسمح لأي كائن أن يعبر منه.”
فما دام المستحضر قادرًا على تحمّل صدى الطريق، يمكن أن يعبر أي روح مهما كانت طبيعته أو درجته أو عددهم.
كما يتمكن المستحضرين من استدعاء كل أرواحهم دفعة واحدة عبر طريق واحد.
لكن معظم الناس يغلقون الطريق مباشرة بعد عبور روح واحد، ولهذا لا يدركون ذلك.
“لحظة، لا تقصدين أنك…….”
“الأرواح، خصوصًا تلك التي تعقد عهدًا مع مستحضر، تتأثر به بشدة.”
فكما يحب البشر بعضهم ويكرهون بعضهم، كذلك الأرواح تتأثر بميل المستحضر لهم أو نفوره منهم.
“ومن الطبيعي أن تنشأ بينهم صداقات وعداوات، كما في عالم البشر.”
فتتشكل بينهم دوائر وتجمعات متقاربة، وكأن عالم الأرواح مرآة صغيرة لمجتمع البشر.
ليس بنفس تعقيد البشر أو سياستهم، لكن مجموعات وروابط لا مفر منها.
“وفي النهاية، عالم الأرواح أيضًا عالم قائم بذاته. ثم إن أرواحي تحبك كثيرًا يا ليكاردو. فهي تجد فيك ألفة شديدة.”
لأن إيزابيلا كانت تكنّ له ودًا، فانعكس ذلك على الأرواح التي أبدت له حنانًا خاصًا.
ابتلع ليكاردو ريقه وكأنه فهم جزءًا ولم يفهم جزءًا آخر.
“وهل تعرفين لماذا الأرواح الجامحة لا تعود للاستحضار؟”
“لأنها تكرهني لدرجة أنها لا تريد الإجابة على ندائي.”
كرهٌ له، وكرهٌ لهذا العالم كله أيضًا.
لقد ترك لهم ذكرى مروّعة، فكيف لهم أن يرغبوا في العودة مجددًا؟
“لا. الأمر على العكس تمامًا.”
مدّت إيزابيلا يدها وأمسكت بيد ليكاردو.
بدأت طاقة التراب الذهبي تتدفّق من قلبها عبر ذراعها وتنساب إلى الخارج، تغمرها ثم تتسلق معصم ليكاردو.
“أي مشاعر تحملها تجاه أولئك الأرواح يا ليكاردو؟ هل تكرههم لأنك تراهم من دمّر حياتك؟”
“مستحيل.”
“أم أنك تخشى أن تفقد السيطرة مرة أخرى، لذلك لا تريد أن تراهم؟”
“الخوف صحيح، لكن لم يحصل أنني لم أرغب في رؤيتهم.”
“وإن قابلتهم، فما أول ما تودّ قوله لهم؟”
“… أودّ أن أقول لهم إنني آسف.”
ارتسمت ابتسامة على شفتي إيزابيلا.
“وهم كذلك أيضًا. أولئك الأرواح يشعرون بما تشعر به بالضبط، تمامًا كما تحسّ أنت.”
لقد أدركت ذلك بوضوح أكبر بعد لقائها بإيفريت وليّ العهد.
إيفريت الذي كان يحمل شعورًا بالاعتذار نحوها، وذلك الشعور هو نفسه الذي كان سيشعر به وليّ العهد إن علم بكل تفاصيل الحادثة.
وعندما تفكرت بالأمر، كان الأمر دائمًا هكذا.
فأيًا يكن ما يحدث، كانت أرواحها تشاركها نفس المشاعر.
إن أبغضت ثيو، تبغضه هي أيضًا.
وإن أحبته، تحبه هي كذلك.
“الأرواح لا بد أن تشبه مستحضرها.”
لأنهما يصبحان حكاية واحدة.
منذ البداية، الأرواح التي تشبه المستحضر هي التي تُبرم معه العقد.
فالكيانات التي تعبر من ذلك الطريق تفعل ذلك لأنها تشعر أن طاقتهما واحدة ومتجانسة.
“هم أيضًا يتوقون للعودة إلى حضنك بقدر ما تتوق أنت.”
تجهم ليكاردو غير مصدّق.
إن كانوا يتوقون حقًا، فلماذا لم يأتوا إذن؟
لكن مع ذلك، وبعد أن استمع إلى كلماتها، تولد لديه بصيص من الأمل.
هل يعقل أن الأرواح لم يغضبوا منه؟
وأنهم لم يبتعدوا عنه كرهًا؟
“هلا تضع أُمنيتك في قوتي؟”
عند طلب إيزابيلا، أخذ ليكاردو نفسًا عميقًا.
كانت ألسنة الضباب الذهبي قد غمرت ذراعه بالكامل وتحيط الآن بقلبه.
ولأول مرة منذ زمن طويل، أخرج ليكاردو طاقة الرياح خاصته.
طاقة لم يستدعها منذ أن استسلم وقَبِل بعدم القدرة على إعادة الاستحضار.
انبثق منه ضباب غامض ذو لون فضي ممزوج بأرجواني فاتح، وامتزج بالذهب المتألق لإيزابيلا ليصنعا طيفًا قوس قزح بديع.
“يا إلهي، أنظر كيف ارتبكت أرواحنا عند عبورهم!”
أرواح إيزابيلا التي كانت على وشك العبور من الطريق ارتجفت فجأة لشعورها بطاقة الرياح.
[ما هذا؟ ما الذي يحدث؟]
تفاجؤوا جميعًا، ثم سرعان ما أدركوا:
[إنها رياح ذلك الرجل!]
الطاقة المألوفة في الرياح.
لقد عرفوا أنه ليكاردو، فابتهجت الأرواح.
“هذا…”
نظر ليكاردو إلى إيزابيلا مذهولًا.
إنها أحاسيس لم يختبرها من قبل.
صحيح أن زمنًا طويلًا قد مر منذ آخر مرة تعامل فيها مع الأرواح، لكن حتى حينها لم يعايش أمرًا كهذا.
أن يشعر بالأرواح قبل استحضارهم وقبل أن يخرجوا من الطريق…
هل كان هذا ممكنًا؟
‘إنها إحدى تقنيات استحضار الأرواح التي سيُكتشف ويُطوّر أمرها لاحقًا.’
فمع استمرار البحث في الطريق الواصل بين عالم الأرواح وعالم البشر، سيصبح هذا الأمر ممكنًا بعد أربع سنوات.
وسيكون ثيو هو من يستخدم تلك الطريقة لمساعدة ليكاردو على إعادة الاستحضار.
أما إيزابيلا، فقد استعارت هذه التقنية قليلًا الآن.
“هلا تمنحني المزيد من قوتك؟”
فأضاف ليكاردو من طاقة الرياح خاصته، حتى امتلأ الطريق بها.
رياح دافئة لطيفة جعلت أرواح إيزابيلا تقفز مرحًا.
لكنها لم تدعهم يعبرون بعد، بل أوقفتهم هناك.
وطلبت منهم أن ينتظروا قليلًا.
فراحوا يتقلبون بمرح في مكانهم ومعهم نووم، أحد أرواحها.
وفي تلك اللحظة…
“……..!”
توقف نفس ليكاردو فجأة.
لقد شعر من بعيد بطاقة مألوفة.
طاقة تخصّ روح.
روحه هو.
ابتلع ريق جافًا دون وعي.
أرواح إيزابيلا، وقد لاحظت الروح المترددة في البعيد، اندفعت نحوه بفرح.
“ألم أقل لك؟ الأرواح أيضًا تُكوّن عالمًا خاصًا بها.”
*****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات لهذا الفصل " 92"