كان وعيها مشوش.
استيقظت إيزابيلا ببطء على إحساس دافئ يحتضنها.
امتدَّت أمامها بحيرة جميلة يغمرها ضوء الشمس الصافي.
الأشجار والنباتات المحيطة بالبحيرة بثّت في نفسها سكينة لا توصف.
كانت لا تزال مرتديةً ملابس النوم التي نامت بها.
العشب الرطب داعب قدميها الحافيتين بلطف، فتسلّلت طاقة الأرواح النقية عبر باطن قدميها.
كان المكان حيًّا بالطبيعة، وجميلًا بشكل لا يُصدق، وساكنًا كالسلام نفسه.
‘ أهذا المكان…’
لم يكن يشبه الحلم… بل بدا حقيقيًّا لدرجة تُنسي أنها قد تكون تحلم.
لكن في الوقت ذاته، لم يكن من الممكن أن يوجد مكان كهذا في الواقع… لذا كان حُلُميًّا بحق.
وحين مدّت قدمها ولمست بأطراف أصابعها ماء البحيرة البارد، دوّى صوت أجش في الأجواء.
كان صوتًا يخترق القلب بمجرد سماعه.
“بيلا …”
كان صوتًا منخفضًا، وحذرًا، يخصُّ من كانت تتوق إليه حد الألم طوال تلك الفترة.
هل كان ما سمعته وهماً؟
نبض قلبها تسارع بشدة.
ماذا إن استدارت ولم يكن هو؟
لا، بل ماذا لو كان هو فعلًا؟ كيف ستواجهه؟
بينما كانت أفكارها تتشابك بعشوائية، كان جسدها يستدير ببطء، مدفوعًا بالغريزة.
وكان هو… واقفًا هناك، على بُعد ذراع فقط.
ذلك الذي اشتاقت إليه بجنون، وعجزت عن لقائه فاشتدّ الحنين.
الرجل الأحمق الذي ضحّى بنفسه لأجلها.
مجرد النظر إليه جعل صدرها يضيق بألم.
“ثيو …”
بمجرد أن نطقت باسمه، اجتاح قلبها عاصفة من المشاعر.
“ بيلا.”
ردّ بصوته العميق الحنون، فخفق قلبها بقوة.
كيف يمكن لكلمة واحدة أن تحتوي كل هذا الدفء والشوق؟
ربما لأنه ثيو.
مدّت إيزابيلا يدها نحوه.
أطراف أصابعها المرتجفة دون قدرة منها، لامست وجهه.
وشعرت بدفئه.
لم يكن طيفًا.
لقد لمسته حقًا.
“ثيو …”
هذا حلم.
أدركت إيزابيلا الحقيقة.
وإلا لما كان ليقف أمامها الآن.
في عينيه الزرقاوين اللتين كانتا تحدّقان بها، كان هناك حزن غامر.
الحزن ذاته الذي كان يكسو نظراته في حياتها السابقة، كلما كانت تتألم تحت وطأة فايتشي.
لماذا كان علينا أن نعاني كل هذا؟
لماذا تراكمت الجراح إلى هذا الحد؟
كل ما أردته هو أن أكون سعيدة…
وسالت الدموع من عينيها، تلوّن وجنتيها بصفاء شفاف.
كانت دموعًا تختزن آلاف الأحاسيس.
مدّ ثيو يده هذه المرة.
واحتوى وجهها في كفّيه الكبيرتين. كانت يداه خَشِنَتين لكن دافئتين.
ربما لأنها تدرك أن هذا حلم… لكن حتى الآن، رغم رؤيته، ما زال قلبها يعتصر من الشوق إليه.
كانت تتوق إلى حرارته، ولمسته، وصوته، ورائحته… لم يكن هناك شيء لا تشتاق إليه فيه.
وما إن أغمضت عينيها، مقهورةً من الألم، حتى اقترب ثيو منها، كما لو أنه قرأ مشاعرها.
ووضع شفتيه بلطف على نقطة دموعها.
قبلة خفيفة، قصيرة، لكنه ابتعد بعدها.
غير أن نظرته لم تكن عفوية أبدًا.
كانت نظرته غارقة في شوق عميق، كأنها تثقل الأجواء، حتى إن ضوء الشمس حولهما بدا ضبابيًا كالسراب.
نظرت إليه وسألته:
“ أما زال بإمكانك أن ترغب بي أكثر من هذا؟“
لا تمضِ حياتك وأنت تضحّي من أجلي فقط.
ولا تكبت رغباتك كي لا تؤذيني.
تذكّرت كيف كان في حياته السابقة يُؤذي نفسه وهو يقمع مشاعره لأجلها، فاشتدّ حزنها عليه.
وفي لحظة، احتضنها ثيو بشدة، كأن مشاعره قد انفجرت.
ضمّها بقوة، بقوة كأنّه لا يصدق أنه كان قادرًا على كبتها طوال هذا الوقت.
ثم طبع قبلة حارة على عنقها.
إحساس شفتيه الرطبتين على عظام الترقوة فجّر داخلها شعورًا غريبًا لم تألفه.
ونبض قلبها الهادئ بدأ يركض.
عضّها بلطف على عنقها، وكأنه يلتهم نبضها السريع هناك.
شعرت بقشعريرة تسري في جسدها، وجلدها الذي أصبح حساسًا يتفاعل مع كل لمسة.
“ثيو …”
غمر الشوق الشديد المكان بأسره.
كانت ترغب أن يترك بصمته على جسدها، أن تكون له وحده.
تمسّكت به، ودموعها لا تتوقف.
وربما لأنها تعلم أن هذا حلم، زاد ألمها.
“ لا تختفِ…”
كان هو أيضًا يتوسل.
لا فراغ بين جسديهما، ولا مجال للفصل بينهما.
“ ليت هذه اللحظة تدوم إلى الأبد…”
همست بها بصدق، فرفع ثيو شفتيه عن عنقها ببطء.
تقلّصت واتسعت حدقتا عينيه الزرقاوين وهو ينظر إليها، كما لو كان قلبه ينبض في عينيه.
أنفاسهما المتقطعة امتزجت في الهواء.
“ إيزابيلا…”
بمجرد أن نطق اسمها، ارتجّ كيانها من رأسها حتى أخمص قدميها.
فتح فمه كأنه يريد أن يقول شيئًا…
“بيلا …”
لكن لم يجد الكلمات، واكتفى بندائها.
لطالما كان سيئًا في التعبير.
لكنه لم يكن بحاجة إلى الكلام.
فنظراته قالت كل شيء.
“ثيو …”
نطقت اسمه مرة أخرى، الاسم الذي اشتاقت إليه بشدّة.
كان وجهه أمامها يتلاشى ببطء. يبدو أن وقت الاستيقاظ قد حان.
“ لنكن سعيدين… معًا، هذه المرة.”
قالتها بعجلة، كأنه وعد أخير، ثم قبّلته.
وبمجرد أن التقت شفتاها بشفتيه، تلاشى كل شيء كالدخان.
* * *
في اللحظة التالية، فتحت إيزابيلا عينيها.
المكان من حولها كان هادئًا إلى درجة تبعث على القشعريرة.
الستائر المتدلية زادت من كآبة الجو.
لقد عادت إلى الواقع.
‘ ما كان لهذا الحلم أن يكون حيًّا بهذا الشكل…’
تنهدت إيزابيلا بعمق.
يبدو أن اجتيازها عقبة حديقة بيت الماركيز أخيرًا جعلها تتراخى، لدرجة أنها رأت حلمًا كهذا.
“ثيو …”
حتى وإن كانت تعرف ما داخل الحلم أنه حلم، فإن الاستيقاظ جعله أكثر وجعًا.
في الحلم، كان لا يزال ثيو كما عرفته … حنونًا، مرتبكًا، عاجزًا عن التعبير، لكن نظراته تفيض حبًّا.
ذلك الحنان الذي لم يتغيّر، جعل الشوق له يزداد.
“هاه …”
غطّت عينيها بذراعها وهي تزفر.
وحين سحبت ذراعها، لاحظت آثار البلل.
يبدو أنها بكت في الواقع أيضًا، كما فعلت في الحلم.
‘ ما هذا السخف؟ ما الذي أفعله؟‘
تتعلّق بوهم صنعه عقلها… ليس حتى ثيو الحقيقي.
شعرت أن النوم لن يزورها مجددًا، فغادرت السرير وتقدّمت نحو النافذة.
فتحت الستائر الثقيلة، لتتساقط نجوم مجرّة الليل من السماء نحو عينيها.
‘ هل… أنت بخير؟‘
وقفت صامتة، تحدّق في السماء، وتفكّر فيه مطولًا.
حتى لا تنسى ملامحه التي رأتها في الحلم، ظلت ترسمه مرةً تلو الأخرى.
وعلى عكس فراغ قلبها، ظل القمر والنجوم يتلألأان بجمالٍ لا يوصف.
* * *
في الوقت نفسه، على الحدود الغربية.
“هاه !”
قفز جسد ثيو من على السرير المؤقت كمن صُعق.
لهاثه كان متقطعًا، وعرقٌ بارد انهمر من جسده، فيما قلبه كان يرتطم بأضلعه بألم.
“هاه … هاه …”
أزاح خصلات شعره الأزرق الملتصقة بجبينه بسبب العرق وهو يحاول تهدئة أنفاسه.
لقد رأى حلمًا غريبًا.
في الحلم الذي راوده قبل بضعة أيام، لم يتبقَ في ذاكرته من مضمونه شيء، سوى الإحساس المروّع بأنه فقدها إلى الأبد. أما هذه المرة… فالوضع كان مختلفًا.
كل تفاصيله بقيت محفورة في ذاكرته بوضوح.
ذراعاها النحيلتان المتعلقتان به.
دموعها التي انهمرت كالجواهر الشفافة، جميلة ونقية.
كلماتها التي همست بها بصوت متقطع… مثيرة بشكل قاتل.
‘ أما زال بإمكانك أن ترغب بي أكثر من هذا؟‘
بمجرد أن استعاد تلك الذكرى، تدفق دفء محرِج إلى وجهه.
‘ ما هذا الهراء؟ مهما بلغ بي الشوق لها… كيف أسمح لنفسي بمثل هذه الأوهام؟‘
لقد جنّ فعلًا. لا تفسير آخر لهذا الحلم.
‘ يا لي من وغد شهواني.’
لا شك أن اشتياقه المفرط بدأ يفسده من الداخل.
مرّر يده الكبيرة على وجهه المشتعل بالحرارة.
شعر وكأنه فقد السيطرة على نفسه، وكأن رغباته تحوّلت إلى وحش لا يمكن كبحه، وأحسّ بالمهانة والازدراء.
ومع أن أنفاسه لم تهدأ بعد، فقد خرج من خيمته، غير أنه لم يبتعد كثيرًا، إذ ما لبث أن سقط جالسًا مستندًا إلى أقرب شجرة.
“ ناياس.”
بمجرد أن نادى، ظهر أمامه روح ماء صغير على هيئة ضفدع أزرق.
“ أريد بعض الماء.”
وعلى الفور، شكّل ناياس قطرة ماء بحجم قبضة يد.
أخذها ثيو وسكبها على وجهه.
ما إن لامسته المياه الباردة، حتى هدأت نيران الحرارة التي استعرت في داخله.
أسند ظهره إلى جذع الشجرة، غير مكترث لشعره المبلل الذي التصق بوجهه.
الخشب الخشن خلفه لمس مؤخرة رأسه.
رفع رأسه، فبسط الليل سماءه أمامه بجلالها.
سماءٌ حالكة، لا غيمة فيها، تخترقها مجرة تتلألأ بسحرٍ أخّاذ.
تلك المجرة التي نسجت عنها الأساطير، أنها خُلقت ليجتمع تحتها عاشقان حال بينهما القدر.
ومع تأمله فيها، عادت صورتها تطفو في ذهنه، مؤلمةً بقدر ما هي عذبة.
“بيلا …”
المشكلة كانت…
‘ لو أنّ هذه اللحظة تدوم إلى الأبد…’
حتى المشاعر التي اختبرها في الحلم، استيقظت معه الآن مجددًا.
“ آه… سأُجنّ فعلًا.”
كان ثيو يعيش الدرس الأوضح لتلك الحكمة القديمة..
كل ما زاد عن حده… انقلب إلى ضده.
* * *
“ تركت المكان ولا تعرف إلى أين ذهبت؟“
قالها فايتشي وهو يقطب جبينه.
الرجل الذي نقل إليه الخبر لم يملك إلا أن ينحني معتذرًا.
“ هل أرسلتك إلى هناك لتؤدي عملك بهذه الطريقة؟!”
“… أعتذر .”
“ لا يوجد شخص واحد يؤدي عمله كما ينبغي!”
مرّر فايتشي أصابعه بعصبية خلال شعره الأشقر البلاتيني، ولسانه ينقر سقف فمه بامتعاض.
كان مظهره الآسر وأسلوبه الجريء في بعض الأحيان يعكسان جاذبية رجولية تأسر قلوب النساء.
لكن ما لم تدركه الأغلبية هو أن كل ذلك لم يكن سوى قناع مُتقَن.
خلف الكواليس، كان شيئًا آخر تمامًا.
ففي حين كان يستخدم ابتسامته العذبة ليثير مشاعر الحنان في العلن، كان المقربون منه يعرفون حقيقته القاسية.
كان الجميع يتوجس خيفة من ردات فعله، وكأنهم ينتظرون متى سيقذف شيئًا في وجوههم.
“ اقتربت نهاية الحرب، فأين اختفت في هذا التوقيت؟“
____________
ترجمة : سنو
فتحت جروب روايات في التيليجرام يمديكم هنيك تقرأو الروايات بدون نت🌟 !
اكتبو في البحث تبع التيلي :
@snowestellee
واتباد :
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 9"