لن أخدع مرتين [ 86 ]
“كما قلتِ، لن تجدي سوى بعض القصص عن الأوقات التي قضتها مع والدي.”
تلك القصص لن تجدها الا في سجل دويتشلان.
“حسنًا، سأسمح لكِ بدخول السجل.”
بعد أن عرف سبب رغبتها في الذهاب إلى هناك، أومأ ولي العهد برأسه دون تردد.
“لكن لا تصدمي كثيرًا بما ستقرئين.”
ارتسمت على وجه ولي العهد ابتسامة مريرة، لأنه يعلم ما يحتويه ذلك المكان.
ارتبكت إيزابيلا قليلًا من تعبيره وأومأت برأسها.
حتى وهي تطالع كتاب نحس الروحانيين من المستوى الأعلى في مكتبة الجمعية، كان بإمكانها أن تتخيل أن قصتها ستكون ثقيلة ومعقدة.
نهض ولي العهد من مكانه، معلنًا أنه سيأخذها فورًا.
وقامت هي أيضًا لتتبعه، ثم أيقظت إيفريت الذي كان نائمًا على ركبتيها.
“لنذهب.”
الروح التي اتخذت هيئة دب ناري رفعت جسدها عند همسها.
ثم أخذ يحدق بها مطولًا، وكأنه يسأل إن كان سيذهب معها أيضًا.
“ستأتي معي. فقط اتبع صاحب السمو.”
وبكلماتها هذه، جعلته يتبع ولي العهد لا هي، فتحرك إيفريت بخطوات بطيئة.
وأثناء مراقبته للروح العائدة إلى سيده، تكلم ولي العهد مجددًا.
“لطالما تساءلت عن أمرٍ ما.”
“نعم، تفضل يا سموك.”
كانت مستعدة لسماع سؤاله، لكن ما أضافه جعل ابتسامتها تختفي فجأة.
“هل التقيتِ بي من قبل؟”
تجمدت للحظة.
ثم ردت بنبرة هادئة، متسائلة:
“رؤيتك يا سموك؟ ماذا تعني بذلك؟”
“قبل أن نلتقي مع ليكاردو، قبل حفل النصر.”
“ربما رأيتك من بعيد يوم الاحتفال بالنصر، فبيت الماركيز ماكا كان قريبًا من القصر الإمبراطوري.”
“لا، ليس هذا ما أقصده…”
مد ولي العهد يده بهدوء ليمسح على رأس إيفريت.
“أقصد… هل التقيتِ بروحي من قبل؟”
ارتجفت إيزابيلا لا إراديًا.
ولم يفت ذلك على ولي العهد.
لكنها رسمت ابتسامة صغيرة وهزت رأسها.
“أول مرة رأيت فيها روحك كانت في يوم مسابقة الصيد.”
“متأكدة؟”
“بحسب ذاكرتي، نعم.”
“لكن لماذا إذن…”
جال بنظره من كتفها الذي ارتجف قبل قليل، ليستقر على إيفريت الجالس بجانبها.
“روحي هذه تشعر بالذنب نحوكِ؟”
لم يُخفِ شكوكه.
منذ مسابقة الصيد وهو يفكر في الأمر.
ما الرابط الذي قد يكون بين روحِه وبين الروحانية إيزابيلا؟
لكنه مهما حاول، لم يجد شيئًا.
حتى أنه بحث عنها بنفسه، ولم يجد أي صلة تربطها به.
“أتذكر أنني أطلقت روحي مرة وقضيت وقتًا مع بعض العامة.”
كانت محاولة منه لكسر الحاجز بين الأرواح والبشر.
لكنها لم تأتِ بالنتيجة المرجوة، بل جلبت له خيبة أمل.
“لكن حتى قائمة الحاضرين لم يكن اسمكِ فيها.”
لو كانت موجودة هناك، لكان الأمر مفهومًا.
رغم أن الأرواح كانت تحت السيطرة في ذلك الحين، إلا أنه لم يكن ممكنًا مراقبة كل شيء طوال الوقت.
لذلك لو أن إيفريت ارتكبت خطأ بحقها هناك، لكان شعوره هذا مبررًا.
لكن هذا لم يحدث أيضًا.
إذن لا وجود لأي رابط بينهما.
والجواب إذن لا يعرفه إلا إيفريت وإيزابيلا.
“هل أنتِ متأكدة تمامًا أنكِ لم تلتقي بروحي من قبل؟”
حين التقاها هذه المرة، تعمد أن يستدعي إيفريت.
لكن رد فعل روحه كان كما في السابق.
تساءل طويلًا إن كان يسأل أم لا، ثم قرر ترك الأمر.
لكن رؤية إيزابيلا وهي تداعب روحه بحنان فجرت فضوله في النهاية.
إيزابيلا ستجد ما تبحث عنه في سجل دويتشلان، أما هو فلن يجد جوابًا لفضوله إلا منها.
وأصلاً دخولها إلى السجل كان بحاجة إلى موافقته.
الآن هو في موقع قوة، واللحظة مناسبة لطرح السؤال.
بالطبع، ولي العهد لا يُمنع من طرح أي سؤال، لكن الأجواء والتوقيت أمور دقيقة.
“…….”
لم تستطع إيزابيلا أن تجيب.
لو طرح عليها السؤال عند لقائهما الأول، لتظاهرت بعدم فهمها وتجاوزت الأمر بسهولة.
لكن بعد أن سمح لها بالدخول إلى السجل، صار من الصعب عليها أن تكذب عليه مباشرة.
النفس البشرية غريبة وقاسية في مثل هذه المواقف.
“أنا…”
ترددت طويلًا قبل أن تبدأ بالكلام.
“لدي ذكريات سيئة مع النار.”
استمع ولي العهد بوجه خالٍ من التعابير.
“منذ زمن بعيد… التهمتني النيران.”
نيران أشعلها إيفريت نفسه.
نيران خرجت عن السيطرة، لم تستطع قوتها أن توقفها.
أُصيبت بحروق وفشلت في حماية ولي العهد.
كانت مجرد فريسة في مؤامرة فايتشي.
ذكريات لا تريد أن تعود إليها أبدًا، لكنها كلما رأت النار عادت إلى ذلك المكان وتلك اللحظة.
‘إن لم تردي الموت، اخرجي من هنا حالًا!’
صوت ولي العهد وهو يصرخ بها لتغادر.
كيف لها أن تنسى ذلك؟
لقد كانت من حاشية فايتشي.
ومع ذلك، حاول هو إنقاذها.
وكان السبب واحدًا فقط.
‘لأني من رعايا الإمبراطورية.’
لأنه كان يرى فيها فردًا من الإمبراطورية التي يجب عليه حمايتها، لذلك أراد أن يصونها.
‘إنه روح يشبه وليّ العهد الذي يتألم لآلام الجميع ويريد حماية كل إنسان…’
ذلك الخاطر ظل يطرق قلبها مرارًا وتكرارًا.
لكن كل شيء التهمته النار.
صحيح أن تلك النار من صنع إيفريت روح لولي العهد، لكن إيزابيلا لم تشعر بذلك.
كان لهيب فايتشي.
كل شيء اشتعل.
وفي النهاية، خسرت أمام تلك النار.
“ألا تظن أن إيفريت أدرك ألمي؟”
الماضي الذي لن يتذكره سواها وهذه الروح.
“ألا تظن أنه يشعر بالذنب حيال ذلك؟”
ارتسمت على وجه إيزابيلا ابتسامة باهتة.
ولم يستطع وليّ العهد أن يواصل استجوابها، لأن تلك الابتسامة بدت مؤلمة للغاية.
لم يعرف ما الذكريات التي استحضرتها من ماضيها لتبدو على هذا النحو.
أما قولها “ألا تظن أن إيفريت أدرك ألمي؟” فكان بلا شك غير منطقي.
فالأرواح ليست لها القدرة على قراءة الأفكار.
لكن عينيها كانتا تحملان من الشجن ما جعله يشعر بالألم بدوره.
لقد تعاطف مع آلام الكثيرين من قبل، لكن الغريب أن قلبه كان يميل نحوها أكثر من أي شخص آخر.
هل لأنهما يشتركان في كون كلاهما مستحضرات أرواح الأرض؟ أم لأنها مستحضرة أرواح تابعة لـ ليكاردو؟
لم يستطع أن يمنع نفسه من الالتفات إليها مرارًا، ولم يتوقف قلبه عن الميل ناحيتها.
لم يكن شعورًا بالرغبة فيها كامرأة.
بل كان شعورًا مختلفًا بعض الشيء.
لكن هارسيز لم يستطع أن يحدد ما هو على وجه الدقة.
‘هل بالغتُ في التفكير بشأن هذه الروحانية؟’
اعتقد أنه ربما لأنه أكثر من البحث عنها، وأكثر من الانشغال بها.
فهو شعور لم يسبق أن اختبره مع أحد من قبل، ولذلك أربكه كثيرًا.
ولو استمر في الحوار بهذا الشكل، لابتلعته تلك المشاعر، فأمر هارسيز روحه بالعودة إلى عالم الأرواح.
“لقد أيقظتُ جرحك بسؤالي غير الضروري.”
“لا بأس.”
ابتسمت إيزابيلا ردًا على اعتذاره.
“ما دامت رغبة سموّك في المعرفة، فأنا مستعدة للإجابة عن أي شيء.”
تكلّمت بثقة، فارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتي هارسيز.
تلك الابتسامة التي تبادلاها كانت متشابهة على نحو غريب.
لكن لا أحد منهما لاحظ ذلك.
ولم يكن هناك من ينتبه.
***
وصلت إيزابيلا إلى أرشيف دويتشلان بإذن من وليّ العهد، وتوقفت قليلًا تلتقط أنفاسها.
‘لم أتوقع أن يطرح عليّ مثل هذا السؤال فجأة.’
لقد شعرت منذ البداية أن الإيفريت يكُنّ مشاعر نحوها.
لكنها أغفلت أن تلك المشاعر قد تكون وصلت إلى وليّ العهد نفسه.
وفوق ذلك، لم تتوقع أن يسألها عنها صراحة.
‘أشعر بالذنب بلا سبب.’
صحيح أنها لم تكذب، لكن مجرد كونها عاجزة عن قول الحقيقة جعلها تشعر بالذنب.
ومع ذلك، سرعان ما بددت تلك الأفكار.
فما أمامها الآن أهم بكثير.
كانت قاعة الأرشيف مرتبة بعناية فائقة.
وكأنها تقول إن أحدًا لا يأتي إليها أبدًا، إذ كانت الإضاءة خافتة للغاية.
حتى بدت الأجواء مخيفة بعض الشيء.
لكن إيزابيلا كانت تدرك أن هذا الإهمال الظاهري ليس إلا فخًا.
فالسحر الذي يحرس أرشيف دويتشلان هو الأقوى في الإمبراطورية.
لقد حُمي هذا الأرشيف منذ عهد الإمبراطور الأول، لأن الجميع أصرّ على أن يظل هذا المكان رمزًا للحقيقة.
لم يكن الغرض مجرد منع السرقة، بل إن الأوراق التي تُستخدم هنا لا يمكن تعديلها ولا محوها ولا إتلافها.
لقد مرّت سبعمائة سنة من التاريخ، فهل يُعقل أن لم يظهر طاغية واحد خلالها؟
ومع ذلك، حتى أولئك الطغاة لم يتمكنوا من المساس بأرشيف دويتشلان.
بل حاول أحدهم إحراقه كله، لكن السجلات لم تحترق، بل أُلقيت في البحر، لتظهر في اليوم التالي سليمة كما كانت بفضل نوع من السحر المجهول.
حتى عندما حاول أن يهدد أعظم السحرة في عصره ليزيلوه، لم يفلح.
وفي النهاية، لم يجد ذلك الطاغية سوى حل واحد، أن يمنع تسجيل أي شيء عنه قبل أن يصل إلى الأرشيف.
لكن بعد موته، اجتهد الكتّاب في تذكّر كل ما حدث ليكتبوه، فنجحوا جزئيًا وفشلوا جزئيًا.
‘أليست قوة هذا السحر أقوى حتى من السحر الذي يُستخدم في المعاهدات الدولية؟’
وكثيرًا ما قال الناس إن حتى لو سقطت الإمبراطورية، سيظل الأرشيف قائمًا وحده.
راودت إيزابيلا لفترة قصيرة فكرة أن السحرة حين يتحدون يكونون أكثر نفعًا للدولة من قوة مستحضر أرواح فردي مهما بلغ.
لكن لم يكن الوقت مناسبًا لمثل هذه المخاوف.
تحركت فورًا إلى الأمام.
****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات لهذا الفصل " 86"