“ هل قلتِ إنكِ من دار أيتام؟“
“ نعم، من قرية كُوم…”
“ رجاءً انتظري هنا. سأبلغ كبير الخدم أولاً.”
على عكس المرة السابقة، ركض الحارس بسرعة نحو القصر.
راقبت إيزابيلا ظهره وهو يبتعد، وابتسمت ابتسامة خفيفة.
‘ شكرًا لك، أيها الحارس… تمامًا كما توقعت.’
الكلمة التي دفعت الحارس للتحرك كانت “ دار الأيتام“.
فماركيز ماكا كان معروفًا بدعمه لعدد هائل من دور الأيتام والرعاية، إلى حد يصعب على مجرد حارس الإلمام بها كلها.
لكن عندما ذكرت إيزابيلا اسم المنطقة بدقة، لا بد أنه بدأ يتساءل هل لها علاقة حقيقية بذلك؟
وبعد قليل، ظهر رجل قادم برفقة أحد الحراس.
كان ذا شعر بني داكن ينسدل بهدوء ليغطي أذنيه، ذكّرها بجذع شجرة الصنوبر.
كان يرتدي قميصًا وفوقه سترة أنيقة، تفوح منه رائحة النظام والانضباط… لا شك في أنه كبير الخدم.
“ أأنتِ من تدعين أنكِ من دار أيتام تتلقى دعمًا من سعادة الماركيز؟“
كان ذلك داليان خادم الماركيز ، الذي ألقى نظرة فاحصة على إيزابيلا من رأسها حتى قدميها، ثم قال ببرود:
“ لا يوجد دار ايتام مدعومة في كوم.”
لكن على عكس بروده، بدأت ابتسامة تتسلل إلى شفتي إيزابيلا.
‘ السمكة قد عضّت الطُعم، والآن لم يتبقَّ سوى سحب الخيط.’
“ أنا لم أقل أبدًا إنني من دار ايتام تتلقى دعماً.”
قطّب داليان جبينه عند ردها، بينما بدا الحارس مرتبكًا بشدة.
“ كنت فقط قلقة بشأن كيفية الحصول على دعم، ويبدو أن الحارس أساء الفهم.”
بالطبع، لقد قالت كلامًا قابلاً للتأويل عمدًا.
أضافت ببساطة، ووجهها لا يحمل سوى البراءة:
“ لدي رسالة أود إيصالها للماركيز.”
“ تفضلي.”
“ يجب أن أقولها له شخصيًّا.”
“ سعادة الماركيز ليس لديه الوقت لمقابلة أشخاص من أمثالك.”
فالماركيز يتلقى عشرات العرائض يوميًّا، وفي نظر داليان، لم تكن هذه إلا واحدة أخرى لا أهمية لها.
“ لكن ما لديّ هو أمر جيد حتى للماركيز.”
رغم ذلك، تحدثت إيزابيلا بثقة لا تتزعزع.
“ سأقرر ذلك بنفسي بعد سماع ما لديك.”
داليان لم يكن من النوع الذي يتراجع بسهولة.
ترددت إيزابيلا للحظة، تفكر حتى أين يمكن أن تبوح بكلامها.
‘ حتى لو أخبرته، لن يُرفع الأمر للماركيز… لكن لا يمكنني كشف أوراقي كلها هنا.’
فقالت بنبرة غامضة:
“ الأمر يتعلق بالدعم.”
اختارت أن تُلمّح فقط.
“ كل ما يخص دعم دار الأيتام أقوم بإدارته شخصيًّا. إن كانت لديكِ طلبات، زوديني بالمعلومات اللازمة، وسأراجعها وأحدّد مبلغ الدعم المناسب.”
وكما توقعت، رسم داليان خطًا فاصلًا بوضوح.
‘ ها قد بدأ. يحاول منع وصولي للماركيز حتى قبل أن أقترب.’
أدركت إيزابيلا أن حديثها لن يصل إلى الماركيز إلا إذا قابلته وجهًا لوجه.
وكان لا بد لها من مقابلته شخصيًّا.
“ أقدر اقتراحك، لكن عليّ أن أراه بنفسي.”
عندما شددت على موقفها، نظر إليها داليان نظرة طويلة، متفحّصة، تملأها الشكوك.
لو كان الأمر فعلاً يتعلق بدعم دار أيتام، لكان كافيًا أن تتحدث إليه، لا أن تصر على مقابلة الماركيز.
بدا له واضحًا أنها تتحجج، وأن رغبتها الحقيقية هي لقاء الماركيز لسبب آخر.
“ لا أعلم ما السبب وراء هذا الإصرار، لكن لا يمكنني تعطيل وقت الماركيز لأجل أمر لا أفهمه.”
كانت نيّته بطردها واضحة من نظراته.
“ آه، أحقًا؟“
لكن بالنسبة لإيزابيلا، التي حملت على عاتقها أعباء حياة فاشلة من قبل، لم يكن من السهل التراجع.
ابتسمت ببساطة، ثم تقدّمت نحوه خطوة.
وبمجرد أن مدّت يدها، أسرع الحراس الذين كانوا خلفه إلى قبض مقابض سيوفهم.
لكن داليان لم يُوقفها، إذ لم يشعر منها بأي تهديد، بل أثار فضوله ليرى ما ستفعل.
إيزابيلا اكتفت بفعل بسيط.
نفضت كتف داليان بخفة، مرتين، كما لو كانت تزيل الغبار.
“ هل يمكنك فقط إيصال هذه الرسالة؟ فتاة من دار الأيتام في كوم ترغب بمقابلة الماركيز بخصوص الدعم.”
ابتسمت له بأدب، وتراجعت خطوة إلى الوراء.
في الحقيقة، لم تكن تحتاج إلى التوسل إليه لتتقابل بالماركيز.
منذ لحظة ظهور كبير الخدم، كانت المعركة محسومة لصالحها.
“ سيكون الماركيز هو من يبحث عني أولًا.”
حدّق بها داليان بنظرته الباردة، وحديثها بدا له متعجرفًا إلى حد كبير.
لكن ابتسامتها الطفولية التي بدت كأنها تجهل العالم، حيّرت حكمه عليها.
ولم تمنحه إيزابيلا أي فرصة للتفكير.
“ للعلم فقط، سأكون في نُزل تُديره نقابة باتوكا.”
قالت ذلك بكل تهذيب، ثم أدارت ظهرها.
ظل داليان يراقبها وهي تبتعد، ثم استدار وعاد إلى القصر.
وحتى الحراس الذين كانوا خلفه، ما إن استداروا معه حتى توقفت خطوات إيزابيلا المرحة التي كانت تتمايل بخفة.
توقفت الألحان التي كانت تهمس بها، ثم أدارت رأسها نحو ظهر داليان لتتفحّصه.
على عكس ما توقعه الآخرون، كان تصرّف إيزابيلا بسيطًا للغاية.
فقد ربّت بخفة على كتف داليان، كمن ينفض غبارًا عالقًا، مرتين فقط، بخفّة لا تُلفت النظر.
في الحقيقة، كانت تنظر إلى نووم المستدعي الروحي الشفاف الذي استقر بدقة على كتف داليان.
لم تكن تلك اللمسات مجرد حركة عبثية.
بل كانت وسيلة لنقل القليل من طاقتها الروحية، لتسمح لنووم بالتصرف حتى وهو بعيد عنها.
وفي تلك اللحظة، انتقل نووم، المختفي عن الأنظار، إلى داليان.
رغم أن الأمر كان محدودًا بزمن، إلا أنه كان كافيًا لتحقيق الهدف.
‘ أعتمد عليك يا نووم.’
همست إيزابيلا بثقة.
فأومأ نووم برأسه في الهواء بحماسة.
عندها فقط، استطاعت إيزابيلا أن ترحل دون أي تردد.
* * *
كما أخبرت داليان، توجّهت إيزابيلا إلى نُزُل تديره نقابة باتوكا.
حجزت أصغر غرفة، وسمحت لنفسها لأول مرة منذ وقت طويل أن تستمتع بحمام دافئ ومريح.
بعد أن اغتسلت بماء دافئ وبدّلت ملابسها، جلست بجسدها المتراخي بجانب النافذة.
ومن بين المداخن البعيدة، لاح لها قصر عائلة ماركا، يلوح بالكاد من بعيد.
“ ترى، هل سيكون اليوم؟ أم غدًا؟“
كانت إيزابيلا على يقين تام بأن المركيز سيأتي ليأخذها بنفسه… وقد راهنت بنووم على ذلك.
“ أتمنى لو يكون اليوم.”
قالت ذلك لأنها تعلم أن الروح الذي تركته على كتف داليان لن يصمد لأكثر من يومين.
وبينما كانت تنتظر تلك اللحظة، اكتفت بالاستمتاع بنسيم المساء الذي دخل من النافذة المفتوحة.
ولم يطل انتظارها.
فمع غروب الشمس التي صبغت السماء بلون ذهبي، اقتحم فرسان قصر الماركيز النُزُل، يصحبهم كبير الخدم المرتبك.
ولم تستطع إيزابيلا أن تمنع ابتسامتها من الارتفاع.
* * *
اقتيدت إيزابيلا بطريقة لم يكن من الواضح فيها إن كانت استدعاءً أم اصطحابًا قسريًا، لكنها تمكنت من مقابلة الماركيز ماركا مباشرة.
وما إن وقعت عيناها عليه للمرة الأولى، حتى انحبست أنفاسها.
في حياتها السابقة، كانت قد رأته بالفعل، ولكن من بعيد، لم يكن لقاءً مباشراً أبدًا.
أما الآن، وبعد أن نظرت إليه عن قرب لأول مرة، أدركت أنه كان جميلًا بحق.
شعره الأسود الكثيف المنسدل بانسيابية من كتفيه كان يوحي بالرقي، وشفاهه بلون أوراق الخريف المتأخرة، بدت وكأنها تنطق بالهدوء نفسه.
نظراته التي فحصت إيزابيلا كانت تبدو واهنة، ولكن تحتها كان هناك حدٌّ حاد، كسكين مغمد.
حتى أنفاسه كانت كافية لفرض هيبته في المكان.
وبينما كان يُمرّر أنامله الطويلة على ذقنه بتأمل، كسر الصمت أخيرًا بصوت بطيء وعميق:
“ إذًا… هذه الفتاة، هل هي من أرسلت هذه الروح؟“
وأشار إلى نووم المستلقي على مكتبه.
“ نعم، أرسلته إليك مع طلب أن تُبلّغوا رسالتي، يا سيدي.”
“ فهمت… وما السبب الذي يدفعك إلى الإصرار على لقائي؟“
نطق كمن يتثاءب أمام نار المدفأة المشتعلة طيلة الشتاء.
نظرت إليه إيزابيلا بثبات وقالت:
“ أرجو أن تتفضّل بدعمي يا سيدي.”
لم يبدُ على أندريا أي دهشة، وكأنه كان يتوقع هذا الطلب.
‘ بما أنني تحدثت عن الدعم وأرسلت نووم، فقد كان الأمر متوقعًا.’
سادت لحظة من الصمت، ثم طرح سؤاله التالي ببطء وبنبرة متراخية.
“ ولماذا أفعل ذلك؟“
تنفست إيزابيلا بعمق، فهي تعلم أن أي خطأ في الكلام الآن قد يطيح بكل شيء.
“ لأنك ستحصل على أكثر ما تحتاج إليه في الوقت الراهن.”
“ وما الذي أحتاج إليه أكثر من أي شيء؟“
“ منصب المُشرف في الاجتماع المرتقب لجمعية أبحاث الأرواح.”
كان الماركيز ماركا هو النبيل الوحيد من بين العائلات النبيلة الكبرى الذي لا يملك مستدعي أرواح.
صحيح أن بعض العائلات التابعة له تملك مستعديين أرواح، لكن هذا يختلف عن امتلاكهم داخل العائلة نفسها.
فكل عائلة تابعة، لها طموحاتها ومصالحها، ويمكن لأي واحدة منها أن تنقلب عليه في أي وقت.
الماركيز أندريا نفسه كان يملك قابلية منخفضة للتواصل مع الأرواح، وابنه ليكالدو لم يعد قادرًا على الاستدعاء منذ حادثة في الماضي.
وإيزابيلا التي عاشت حياة سابقة، كانت تعرف السبب، لكنها لم تكن مستعدة بعد للكشف عنه.
“ ألا يزعجك أن تضطر في كل مرة لتقديم هذا المنصب للآخرين؟“
“…….”
“ بل إن هناك شائعات تُروَّج بأن عائلة الماركيز قد نُبذت من قِبل الأرواح.”
الماركيز السابق كان مستدعي أرواح عظيم، لكنه توفي شابًا، وابنه الوحيد عاجز عن الاستدعاء.
ولا أحد يعلم كيف يمكن أن يؤثر ذلك على مستقبلهم في الأجيال القادمة.
وكان هذا مدعاة للعزلة في المجتمع الأرستقراطي.
“ أنا واثقة أنكم لا تأبهون بالشائعات يا سيدي. لكن غياب الأرواح يعيق الكثير من أعمالكم، أليس كذلك؟“
وخصوصًا العجز عن حضور فعاليات جمعية أبحاث الأرواح كان ضربة موجعة.
هذه الجمعية، التي تعنى بأبحاث الأرواح والسحر المتعلق بها، كانت تضم معظم نبلاء المملكة.
بل إنهم يشغلون مناصب عليا فيها.
واجتماع الجمعية، الذي يُعقد كل عامين، بمثابة قمة خاصة للنبلاء.
يُطلب من كل عضو فيها أن يُجري تجربة حيّة باستخدام الأرواح الخاصة به لعرض نتائج أبحاثه. وإن لم تنل النتائج استحسان الحاضرين، يمكنهم المطالبة بتعديلات.
بمعنى آخر، هذه الاجتماعات ليست سوى وسيلة لتعديل السحر الروحي بما يتماشى مع أهواء كبار النبلاء.
وفي كل مرة، كان الماركيز ماركا يُستبعد لعدم أهليته… فليس في بيته من يملك القدرة على التواصل مع الأرواح.
صحيح أن بعض التابعين من العائلات الأصغر لديهم تلك القدرة، لكن لا يمكن أن تنسجم الأذرع من دون رأس.
بل إن بعضهم بدأ مؤخرًا بالتصرّف بغطرسة، متفاخرًا بامتلاكهم ما يفتقر إليه الماركيز.
ورغم وقاحتهم، لم يستطع الماركيز اتخاذ موقف صارم، فقد كانت قوته بالفعل في تراجع بسبب غياب مستدعي أرواح في عائلته.
لذا، كانت إيزابيلا صريحة:
“ استخدمني يا سيدي.”
ترجمه: سـنو
واتباد :
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 6"