لن أخدع مرتين [ 53 ]
“إنه إذن تابع لسمو ولي العهد.”
كان لا بد لها أن تدرك تلك الهالة، فقد سبق وأن اصطدمت بها بعنف في حياتها السابقة.
وهي تمسح برفق على جسد إيفريت التابع لولي العهد، تسللت إليها مشاعر حنين غريبة.
لم تكن تلك الذكرى مبهجة بحال، فكيف يعاودها الحنين إليها؟ يا لها من مفارقة عجيبة.
وبينما هي غارقة في خواطرها، شعرت بشيء صغير يتدلّى عند قدميها.
خفضت رأسها، فإذا بقط أبيض يتدلّل عندها ويلاطفها.
“سيلف؟”
احتضنت الصغير بين ذراعيها، فأخذ يخرخر برضا وهو يلاعب خصلات شعرها.
إنه أحد الأرواح الدنيا لعنصر الريح.
“يبدو أنّه روح أبرمت معه عقداً.”
فالطاقة المنبعثة منه تختلف عن طاقة الأرواح الحرة.
لكن ما إن ذكرت كلمة عقد حتى ارتجف سيلف بعنف، ثم دفن وجهه في حضنها كمن يخشى استرجاع ذكرى مؤلمة.
كانت تلاطف عنقه بأناملها حين باغتها إحساس مألوف.
“ليكاردو ماكا؟”
“مياو-“
أطلق سيلف مواءً طويلاً قبل أن يدفن وجهه مجدداً في حضنها.
لا شك في أنّه روح ليكاردو التي عجز عن استدعائها سابقاً.
رمقته بنظرة يملؤها الأسى، فقد بدا كأنه يرتعد خوفاً من ذكرى لحظة الجنون التي مرّ بها.
ثم رفعت بصرها إلى إيفريت الممدد أمامها من جديد.
“ليتني أعرف سبب ما حدث لكما.”
تمتمت بذلك وهي تمسح على رأس الروح العملاق الذي اتخذ شكل دب ناري.
“لا بد أنّ وراء انفلاتكما سبباً وجيهاً.”
فالأرواح مرآة لأسيادها، وولي العهد وإن كان حازماً، إلا أنّه رقيق القلب، وليكاردو لا يقل وداعة عن ثيو.
فكيف إذن تتمرد الأرواح التي تخضع لهما؟
“لابد أن فايتشي دبّر مكيدة، لكن ما هي؟”
خاصة حين يتعلّق الأمر بولي العهد، فلا شك أنّ فايتشي والإمبراطورة شاركا في تدبير شيء خبيث.
لكن ما هو؟ سؤال يعتصر صدرها.
وإن كان ليكاردو قد فقد روحه حينها بفعل الجنون، فهذا يعني أنّ فايتشي استعمل الحيلة نفسها قبل عشر سنوات.
“وربما لم يكن فايتشي نفسه، بل الإمبراطورة من فعلت.”
في كل الأحوال، هما يملكان حيلة ما، وحقيقة أنّهما تجرّآ على ولي العهد تعني أنّهما على يقين بعدم انكشاف أمرهما.
“سيكرّرانها بلا شك.”
مهما كان ذلك السلاح، فلن يركنوا إلى إهماله.
لا تدري متى، لكن استخدامها آتٍ لا محالة.
كانت قد أوهمت ليكاردو بثقة أنّ سحراً أو تعاويذ السبب، لكن الحقيقة أنّها تجهل كل شيء.
كل ما تعرفه أنّ ما حدث كان من تدبير فايتشي والإمبراطورة كما حصل مع ولي العهد.
أطلقت تنهيدة عميقة، وفي تلك اللحظة، هبط نسر على رأس إيفريت.
إنه سيلايم، روح الرياح العليا.
ألقى النسر شيئاً صغيراً في كفها، حبة أشبه باللؤلؤ، لا تدري أهي جوهرة أم ثمرة، لكنها كانت مصقولة كالياقوت تلمع ببريق أخّاذ.
“ما هذا؟”
لكن قبل أن تنال جواباً، خفق سيلايم بجناحيه مولداً عاصفة عاتية، وفي الوقت ذاته فرّ سيلف بعيداً عنها، ونهض إيفريت مترجلاً مبتعداً وهو يضرب الأرض بقوة.
ثم بدأت الأرجاء تتشوّه.
***
وحين فتحت عينيها مجدداً، وجدت نفسها في خيمة رثّة، تصلح كمقرّ مؤقت بجانب المنجم، حيث أقيم مركز قيادة مؤقت.
وكان أول من تحرّك عند يقظتها روحا نووم وناياس المستلقيان على صدرها.
“تشيك!”
«كوب؟»
صرخ الاثنان في آنٍ واحد، فانتبه ثيو الذي كان ينام جالساً إلى جوار سريرها المؤقت.
“بيلا.”
هبّ من مقعده إلى فراشها على الفور.
“كيف حالك الآن؟”
سألها وهو يمسح بلطف على خصلات شعرها.
كانت تتوقع أن يوبّخها لاندفاعها وحدها إلى هنا، لكن عينيه لم تعكسا سوى القلق العميق.
“أشعر بارتياح… كأنني نمت نوماً هانئاً.”
قالت وهي تنهض قليلاً، فسارع لمساعدتها مطلقاً زفرة خافتة.
“لقد نمتِ يوماً كاملاً.”
“آه…”
ولم يكن الأمر بمستغرب، فقد ركضت من العاصمة بلا توقف، ثم استنزفت كل طاقتها في استدعاء الأرواح.
يكفي واحد من الأمرين ليُنهك الجسد، فكيف إن اجتمعا؟
“لا تثقلي على نفسك، فالكاحل ما زال في طور العلاج.”
كان قد وضع الدواء ولفّه بالضماد، وفوق ذلك، استلقى إيلايم بحجمه المصغّر على موضع الإصابة، ضاغطاً بطاقة هائلة من الشفاء في كاحلها.
“آسفة، أقلقتك صحيح؟”
“أهذا سؤال…”
ارتسم العبوس على جبينه، دلالة على أنّ الغضب لم يفارقه تماماً.
“حقاً، أنا آسفة.”
لكن رغم اعتذارها، بدا وكأن شيئاً آخر يثقل صدره.
“لماذا كل هذا العناء لتأتي وحدك؟”
صمت لحظة قبل أن يستطرد:
“ما إن سمعتُ برحيلك عن العاصمة حتى خرجت مسرعاً. الفارق بيننا لم يتجاوز نصف يوم.”
أطبق حاجبيه أكثر:
“إذا حسبتُ المدة التي استغرقتها للوصول، فهذا يعني أنّك جريت بالوتيرة نفسها تقريباً… وهذا…”
وانعكس القلق في ملامحه، فذلك الجهد كان كفيلاً بتمزيق جسدها.
لو كان الأمر يتعلق بثيو المتمرّس في الحروب لربما كان مختلفًا، لكن جسد إيزابيلا لن يحتمل مثل هذا الجدول المرهق.
قال وهو يزفر تنهيدة ثقيلة:
“ثمّ إن مقدار قوّة الأرواح الذي أفرغتِه في المنجم… هاااه.”
لم يخرج منه سوى زفير طويل.
كان يعلم أنّ الكلام لا طائل منه.
وكلما استرسل فيه ازداد يقينًا بعبثيته.
“أجل، لو كنتِ أنتِ، فحين بدأ المنجم ينهار، لم يخطر ببالك سوى حماية الناس، أليس كذلك؟”
لا شك أنّها أرهقت نفسها وصبّت كل قوّتها لتحمي الناس غير عابئة بجسدها.
فهذا ما يليق بشخص مثلها.
“ولهذا السبب هرولتِ إلى هنا بجنون لمجرّد سماعك أنّ في المنجم مشكلة، أليس كذلك؟”
ولذلك أيضًا ركضت بلا تروٍّ حين سمعت بكلمة تصدّع.
دون أن تلاحظ أنّها ترهق نفسها… بل حتى لو لاحظت، لتحمّلَت.
ولهذا السبب يحبّها هو أيضًا.
ولأنه يعلم أنّها هكذا، فهي تبدو له غالية إلى هذا الحد.
“هاه… وأنا أعرف أنّ هذه هي حقيقتك.”
أراح ثيّو جبينه على جبينها.
“لكن… لماذا يختنق صدري هكذا؟”
كان يشعر كأنّ حجرًا جاثم على صدره.
كان يعرف جيّدًا أنها ليست من النساء اللواتي يتراجعن لمجرّد أن يُقال لهن “لا تفعلي”.
ومع ذلك، كانت كلمات الرجاء بأن تتوقّف تتصاعد حتى بلغت حنجرته.
فما المشكلة لو أصيب بعض الناس؟
وما المشكلة لو انهار المنجم؟
اعتني بنفسك أوّلًا.
ليته كان بإمكانه أن يصرخ في وجهها بهذا.
“لماذا تضعين نفسك دائمًا في آخر القائمة؟”
إن أول من يُضحّى به دائمًا هو هي نفسها.
وهذا ما كان يجنّنه.
“ألا يمكن… أن تعتني بنفسك أنتِ أوّلًا؟”
قالها وهو يعلم أنّ رجاءه سيذهب أدراج الرياح.
رفع رأسه وحدّق في عينيها.
كان وجهه المتصلّب يشي بصرامة مرعبة.
بدت عليه ملامح الغضب.
لكن هل غضبه موجّه إليها أم إلى نفسه؟ لم يكن واضحًا.
“سمعتُ من شان ما حدث في مبنى الجمعية. قالت إنّ الأمر كان من تدبيرك سلفًا.”
كانت قد آثرت الصمت حتى لا تقلق قلبه، لكن يبدو أنّ السرّ لا يدوم إلى الأبد.
أما كاساندرا فقد ظنّت أنّ إيزابيلا أطلعته بنفسها، فذكرت الأمر عرضًا أثناء حديثها معه.
أدرك ثيّو متأخرًا أنّه لم يكن يعلم فصمت، لكن بعد أن وصلته كل التفاصيل.
“لو حدث خطأ بسيط لكانت النتيجة كارثية.”
“لكنني كنت واثقة أنّ الخطأ لن يحدث. لقد خطّطت لكل شيء بإحكام.”
“وماذا لو لم أصل أنا في الوقت المناسب؟”
“كان هناك نووم، ثم لو ساءت الأمور لكان بإمكاني كسر السوار.”
“على خلاف القيود التي تُكبَّل في السجن، فإن الأساور المُخصَّصة للتحكّم داخل المباني أو الملاعب كان بالإمكان كسرها متى عزم المرء على ذلك.
صحيح أنّ الأمر صعب قليلًا وتترتّب عليه عقوبة كبيرة، لكنه لم يكن مستحيلًا.
“وماذا لو كان ذلك الرجل الذي هاجمك قد تحوّل إلى جانب الكونت موتكان؟”
“……”
“وماذا لو كان حقًا السبب في فقدانك وعيك؟”
“لكن لفافة الانتقال التي مع الكونت كانت مزيّفة…”
“ولو تحالف ذلك الرجل مع الكونت، لكان الكونت على علم بذلك منذ البداية، ولكان استعدّ جيدًا.”
“……”
لذلك لم تخبره بأمر اللفافة… شعرت إيزابيلا بمرارة، لكنها عرفت أنّه لا جدوى من الشرح الآن، فما هو إلا عذر واهٍ.
“ما فعلتِه كان ضربًا من التهوّر.”
مع أنّها كانت قد أعدّت خططًا بديلة ثانية وثالثة، فإنّ ثيّو لم يستطع تقبّل ذلك.
“لقد راهنتِ بحياتك.”
كان شعوره أشبه بمشاهدة شخص يربط نفسه بحبل مهترئ ويرمي بجسده من فوق جرف شاهق.
“لماذا تُعرّضين نفسك لكل هذا؟”
“وما البديل إذن؟ أن أجلس هادئة في قصر الماركيز؟”
“بإمكانك أن تعيشي مرتاحة، فلماذا تجلبين الخطر إلى نفسك؟”
فمجرد كونها مُستدعِية أرواح عليا جعل الأعداء يحيطون بها من كل صوب.
فلماذا تدفع بنفسها إلى المخاطر أكثر؟ لم يكن ثيّو يفهم، وكان الأمر يخنقه.
“مرتاحة؟ وهل تظن ذلك ممكنًا؟”
“…..”
“لو جلستُ في القصر مكتوفة اليدين، فلن أتمكّن من هزيمة فايتشي.”
لم تعد إيزابيلا قادرة على ضبط نفسها، فرفعت صوتها بعد أن كانت تستمع إليه في صمت.
“كلما أضعتُ الوقت هكذا، كان لديه فرصة ليحفر المزيد من الفخاخ ويدبّر المكائد…!”
اندفع الغضب من أعماقها بلا وعي منها.
“ثيّو، أنت قلتها بنفسك، لن يتوقف حتى يرانا في الحضيض. أليس من الطبيعي أن أواجهه إذن؟”
“لكن لماذا أنتِ بالتحديد…!”
“إن لم أفعل أنا، فمن سيفعل؟”
“……”
“إن لم أحمِ مستقبلي بنفسي، فمن سيحميه لي؟”
–
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات لهذا الفصل " 53"