لن أخدع مرتين [ 52 ]
“لست متأكدة بعد، فلا تتخذ قراراً متسرّعاً. كل ما في الأمر أنني طرحت احتمالاً لا أكثر.”
لم يكن ذلك مستغرباً إذا ما فكّر المرء في العلاقة المتوترة بين السحرة ومستدعي الأرواح.
صحيح أنهم لم يُظهروا عداءً صريحاً من قبل ولم يهاجم بعضهم بعضاً حتى الآن، غير أن هذا لا يعني أنّ الأمر سيبقى على حاله دائماً.
لكن إيزابيلا طرحت احتمالاً آخر:
“قد لا يكون السحرة أنفسهم، بل شخصاً آخر استغل قواهم.”
ثم رفعت إصبعها مشيرة إلى الصخور المعلقة فوقهما وكأنها على وشك السقوط:
“السحرة هم من صنعوا المتفجرات، لكن ربما لم يكونوا هم من زرعها هنا.”
“هاه.”
أطلق ليكاردو زفرة طويلة، امتزجت فيها الدهشة بشيء من الإحباط.
“يبدو أن أحدهم لا يطيقني كثيراً.”
وفيما كان يقول ذلك، مرّ بخلده وجهٌ محدد.
‘هل يُعقل أن يكون ذاك الشخص قد تدخل بهذه الصورة المباشرة؟’
‘لا… لعلّه اكتفى بالاستمتاع برؤيتي أُهلك نفسي بيدي.’
كان هذا أشبه بما يفعله ذلك الرجل.
امتلأ ذهن ليكاردو بصورة فايتشي، وزفر تنهيدة ثقيلة.
‘لم يخطر ببالي هذا الاحتمال من قبل.’
كان يُفضّل أن يلقي اللوم على قلة خبرته، لا على الآخرين.
ففكرة أن يكون الأمر كله فخاً لم تخطر له مطلقاً، إذ بدا له أنه لا مجال لذلك أصلاً.
غير أنّ كلمات إيزابيلا كانت أشبه بمفتاح فتح له منفذاً في متاهة مغلقة.
ألقى ليكاردو عليها نظرة طويلة.
‘مجدداً…’
ها هي تتسلل إلى بصره من جديد.
تملأ كيانه كله.
تزلزل عالمه مرة أخرى.
حاول أن يُنكر ذلك، حاول أن يشيح بوجهه، لكن…
لم يستطع. حاول أن يقاوم، فلم يفلح.
ذاك الشعور الصغير أخذ يتمدد في صدره شيئاً فشيئاً.
وفي اللحظة التي ثقل فيها صدره بتلك المشاعر المتضاربة، تساقط غبار صخري بينهما.
دوّيٌ مكتوم…
ثم سُمع صوت انهيار صخور من مكان قريب.
“يبدو أننا يجب أن نخرج فوراً.”
أدار ليكاردو بصره سريعاً مبتعداً عنها، وأخذ يتفحص المكان.
عندها لمح نُووم الصغير يبذل جهداً هائلاً، كأنه يصد شيئاً ما.
لعله كان يحاول منع وقوع كارثة.
“إيزابيلا، كاحلكِ…!”
كان كاحلها عالقاً بين الصخور والحجارة، وتحتها بقعة دم، كأن الجرح قد تمزق.
وكان نووم يكابد ليمنع الصخرة من سحق ساقها تماماً.
“آه… أثناء الانهيار انشغلت بتأمين مساحة آمنة للعمال من حولي، فغفلت قليلاً.”
لم تكن قد رتبت الدفاعات مسبقاً، بل ارتجلت في اللحظة لحماية الجميع، فأهملت نفسها.
“كان عليكِ أن تهتمي بنفسك أولاً!”
صرخ ليكاردو بصوت مرتفع وقد اعتراه الانفعال.
“انتظري… إن رفعتُ هذه الصخرة فقط…”
“لا تلمسها!”
صاحت إيزابيلا في اللحظة التي أمسك فيها ليكاردو بالصخرة الضاغطة على كاحلها.
“نووم لم يتركها لأنه عاجز، بل لأنه لا يجب رفعها.”
فهذا نووم وحده يُعادل قوة ثلاثة أو أربعة رجال أشداء، فلو أراد لرفعها بسهولة.
“إذاً لماذا…؟”
“لأنك لو رفعتها سينهار الجزء الخلفي، وهناك ثلاثة ناجين بينهم جريح.”
“……”
“وإذا انهار الخلفي، ستميل الدعامة هناك، وعندها سينهار معها المكان الذي يحتمي فيه عشرة آخرون.”
تشنج وجه ليكاردو ألماً.
“ولكن أن نتركك هكذا…”
لم يُكمل جملته.
فلا خيار أمامهم.
“أليس إنقاذ ثلاثة عشر شخصاً مقابل كاحلٍ واحد صفقة معقولة؟”
ألقت إيزابيلا مزحة خفيفة، لكن وجه ليكاردو ظل متجهماً.
بل بدا وجهه أشد ألماً من جرحها هي نفسها، فابتسمت بخفة.
“لا تقلق كثيراً، لن أفقد قدمي.”
وفجأة بدا له اهتمامه بها مشابهاً لثيو على نحو غريب.
“سنخرج ونعالجها، شهر واحد وأعود للمشي.”
ولو كان تيو هنا لتكفل بشفائها في ثلاثة أيام.
“مع بعض التوبيخ طبعاً.”
تلك النظرة البغيضة في عينيه كلما رآها تتأذى لا تفارق خيالها، ولعله سيوبخها هذه المرة أيضاً.
فأطلقت تنهيدة تسبقها غمغمة خافتة.
لكن ليكاردو وقد أساء فهمها، قطب حاجبيه وقال بصوت متألم:
“أعتذر… مجدداً بسببي…”
ما الذي يقدمه لها سوى المتاعب؟
دائماً يضرّها، ودائماً تنقذه.
هل من علاقة أشد أنانية من هذه؟
“ليس لك علاقة يا سيدي النائب. المذنب هو من زرع المتفجرات…”
وقبل أن تتم عبارتها، قطعها ارتجاج خفيف في أرجاء المنجم.
دوّي مكتوم آخر…
نفس الارتجاج الذي شعروا به قبل قليل.
انعقد حاجبا إيزابيلا بقلق.
“آه… لماذا يقتحمون المكان بالقوة وأنا هنا أفتح ممرّاً من الداخل؟”
تمتمت بذلك وهي تحدق في جهة المخرج.
لو استمروا في تدمير المدخل من الخارج، فسينهار التوازن الذي أوجدته هنا، مما يزيد خطر الانهيار.
[تشيك؟]
[كوووو…؟]
كان بإمكانها أن تشعر بارتباك الأرواح التي كانت تحرس الناس في أماكن متفرقة تحت وطأة الضغط الذي تبدّل فجأة.
أعادت جميعها التمركز في مواقعها، لكن الارتجاج لم يتوقف.
[تشيك؟]
[أيمكنك أن تخرجي أنتِ؟ فأنت الوحيدة القادرة على الحركة الآن.]
[تشيك!]
لم يكن هناك سوى روح واحدة لا تمسك بصخرة ولا تدعم ما يوشك على الانهيار.
تلقّت أوامر إيزابيلا فانطلقت مسرعة نحو المخرج بخطوات صغيرة سريعة.
كلما ابتعدت، شعرت إيزابيلا بقواها تضعف أكثر فأكثر.
“هاه…”
زفرت تنهيدة ثقيلة من صدرها.
لم تشعر حتى الآن بآثار الركض المتواصل بلا راحة، لكن التعب باغتها دفعة واحدة.
طاقتها أوشكت على النفاد تماماً.
لكنها كانت تدرك أن فقدان وعيها يعني اختفاء الأرواح وانهيار المنجم بأكمله.
أمسكت بخيط الوعي الأخير لتقاوم النعاس الطاغي الذي كاد يسقطها.
[تشيك! تشيك!]
نادتها الروح الصغيرة التي خرجت إلى المخرج برسالة ذهنية.
“ماذا…؟”
هل سمعتُ خطأ؟
[تشيك! تشيك تشيك!]
صوتها بدا سعيداً للغاية، وسرت تلك السعادة في أوصال إيزابيلا.
“تقول إن ثيو وصل…؟”
[تشيك!]
ولهذا علت سعادة نووم.
بعد لحظات شعرت من خلال تلك الروح بأثر ضعيف من قوة ثيو، كأنها تداعبه بدلال.
رغم أن كل المستدعين يملكون قوى متشابهة، إلا أن خصائص الأرواح تختلف باختلاف عناصرها، وحتى باختلاف الأشخاص.
ذلك الفارق الدقيق لم يلحظه سوى المستدعين المتمرسين من ذوي التصنيف العالي.
[أخبريه أن يكفّ عن اقتحام المكان بالقوة، وسأتولى الأمر بنفسي.]
[تشيك!]
أجابتها الروح بصوت مفعم بالحماس.
“هل جئتِ برفقة ثيو؟”
سأل ليكاردو بعدما التقط همهمتها.
“لا، أنا جئت وحدي… لكن يبدو أنه تبعني حين علم أنني في هذا المكان.”
كانت قد غفلت عن مدى التصاق ثيو بها في حياتها السابقة بسبب فايتشي.
لقد أخطأت حين ظنت أنه سيبقى في العاصمة بينما تأتي وحدها إلى المنجم.
‘لكن لم يكن بوسعي أن أجلبه معي.’
لو جاء، لكان منعها من مواصلة السير ليل نهار بحجة حاجتها إلى الراحة.
وكان سيمنعها من الاندفاع نحو منجم يوشك أن ينهار فوقهم.
‘سيشعر بالضيق، لكن…’
لم يكن لديها خيار آخر سوى أن تبعده.
“آه، تمّ اختراقه.”
أحسّت أخيراً بأن مولدن قد أنجز عمله.
الآن أصبح النفق الأول الذي يضم الناجين متصلاً بمدخل المنجم.
“أما نحن، فأبعد نقطة في الداخل، لذا سيستغرق وصولهم وقتاً.”
“يبدو أنك ستتلقين توبيخاً قاسياً من ثيو.”
“أنا؟”
“ألم تتأذي بسببي؟”
“وهل أصبت بجرح لأنك أردت ذلك؟ لقد أذيت نفسي وحدي.”
“لكنني خرجت بلا خدش… ألا يبدو ذلك غريباً للآخرين؟”
“ولو تأذيتَ أنت، لكنتُ أنا من تلقّى اللوم! سيقولون إنني لم أقم بواجبي.”
هزّت رأسها وكأنها تقول إن ذلك سيكون كارثة، ثم أومأت موافقة:
“لكن ربما توبيخ ثيو أهون من أن أتحمل اللوم من الجميع.”
“أليس كذلك؟ ثيو حين يغضب… مخيف فعلاً.”
“مخيف.”
يقال إن الهادئ حين يغضب يكون أشدّ رعباً.
“ألن يغضب عليك؟”
“بل سيغضب. لأن الأمر يخصك أنت.”
لم تجد ما ترد به.
لو تعلق الأمر بها، لربما تحدّى حتى الإمبراطور نفسه.
“سأدافع عنك. لا تقلق.”
قابضت قبضتها الصغيرة بحماسة، فارتسمت ابتسامة على شفتي ليكاردو.
“أمر رائع حقاً.”
ما أروعها!
تبادلا بعض الدعابات السريعة، وفجأة:
دوّي مكتوم-
دوّي آخر-!
“تشيك!”
“بيلا!”
اخترق الضوء المكان الذي يقبعان فيه.
عندها ألقى نووم الصخرة التي ظل ممسكاً بها كالعقاب، إذ كان ينتظر تلك اللحظة.
كان الجميع في الجهة الأخرى قد أُنقذوا أخيراً.
انفتح المدخل على مصراعيه، وظهرت فرقة الإنقاذ يتقدمها ثيو.
“ثيو…”
“بيلا!”
ركض نحوها بكل ما أوتي من سرعة، ولمّا رأته، سمحت إيزابيلا لنفسها أن تترك آخر خيط من الوعي بعد أن أيقنت أن الجميع صار في أمان.
استسلمت للنوم العميق.
***
فتحت عينيها بشعور غائم.
كانت تقف في وسط سهل فسيح.
“أحلم إذاً.”
آخر ما تذكرته أنها فقدت وعيها في المنجم.
لا سبب لوجودها في سهلٍ يلامس الأفق.
كانت الأرض مكسوة بعشب نديّ، لكن ما يلوح في الأفق البعيد لم يكن سوى صحراء.
هذا المكان بدا مألوفاً على نحو غريب.
“لا بحيرة هنا.”
يشبه المكان الذي رأت فيه البحيرة سابقاً.
“ولا ثيو أيضاً.”
أدارت نظرها في كل الجهات، ولم تجد أحداً سواها.
“تشيك؟”
“هاها.”
تناهت إلى سمعها نفخة ساخرة، فلم يكن صاحبها سوى إيفريت.
حدّقت طويلاً في ذلك الروح الناري العملاق الذي يقف بجانبها.
رفعت يدها ببطء لتلمس وجهه، فتحققت من هويته.
–
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات لهذا الفصل " 52"