همس ثيو، بعد أن أطال النظر إليها، بصوت يملؤه الاضطراب والأسى.
“ لا داعي لأن تنتظريني.”
ففي ساحة حرب لا يمكن التنبؤ حتى بما سيحدث بعد لحظة واحدة،
لا أحد يعلم متى ستنتهي، ولا أحد يضمن أنه سيعود منها حيًّا.
ولذلك، ما كان له أن يطلب منها الانتظار، إن بقي في قلبه شيء من الضمير.
قال ذلك بصوت خافت يائس، لكن إيزابيلا صرخت فجأة:
“ ما هذا؟! هل هذه طريقة جديدة لتعلن أنك تنوي خيانتي؟!”
اتسعت عينا ثيو بدهشة من كلماتها غير المتوقعة.
“ لا! ليس هذا ما قصدتُه إطلاقًا…!”
“ هاه! كنت أمزح فقط.”
كانت تلك مجرد مزحة صغيرة منها، بعد أن لمحت في عينيه قلقًا خفيًّا.
أخرجت لسانها بدلال، تحاول التخفيف عنه.
لكن ذلك الدلال لم يتناسب أبدًا مع الدموع التي تراكمت عند طرفي عينيها، بل زاد الطين بلة، فاختنق قلبه ألمًا.
قالت بعناد، وقد عقدت العزم:
“ بغضّ النظر عمّا تقوله، أنا سأنتظرك! هل تفهم؟ تعرف أنني عنيدة، أليس كذلك؟“
“بيلا …”
في الواقع، كان رجاؤه بأن تنتظره أعز أمانيه وأشدّها إلحاحًا في قلبه.
لكنه لم يستطع التفوه بها، لأنها في نظره كانت طلبًا قاسيًا لا يُغتفر.
“ لذا، إن كنت لا تريد رؤيتي متحجرة في مكاني، فعد إليّ سالمًا.”
كانت تعلم أن ثيو، رغم احتراق قلبه، عاجز عن البوح بمثل هذا الرجاء، ولهذا، قررت أن تقولها قبله.
اهتزّت نظرات ثيو بشدة.
أخذ وجهها بين يديه بحذر، يملؤه حبّ لا يُوصف.
وحين اقترب منها ببطء، أغمضت عينيها بهدوء.
وانزلقت دمعة كانت محتبسة طويلاً على خدّها.
ضغط ثيو شفتيه بلطف على تلك الدمعة المتلألئة في زاوية عينها، فذاق طعمها المالح الحزين.
ثم انزلق بفمه إلى شفتيها العليا، يلتهم تلك الشفاه الوردية بشغف، فانتفض كيانه كله بإحساس لا يُحتمل.
كانت القبلة أحلى من أي حلوى في هذا العالم، وأكثر دوارًا من أي مشهد مهيب.
وكأنه صبّ كل حبه واشتياقه ولهفته في تلك القبلة القصيرة.
وعندما تفرقا، تنهد ثيو بهدوء، وبدأ يتحدث بصوت مبحوح:
“بيلا …”
كانت قد ارتمت في حضنه برقة، تنظر إليه بعينين مليئتين بحب صافٍ، كأنها تنظر إلى أعز ما تملك في هذا العالم.
“أنا …”
حين أراد أن ينطق بوعدٍ لا يستطيع ضمانه، غصّ صوته في حلقه.
“ سأعود لأستعيدك.”
همس بتصميم، بأكثر نبرة هادئة استطاعها.
“ سأعود… حيًّا، لا محالة.”
كلماته، التي لا تحمل أي ضمان، أثقلت قلب إيزابيلا بالحزن.
لا يجب أن أبكي… هو من سيذهب إلى ساحة الحرب، لا أنا. لا بد أنه يشعر بضعف أكبر بكثير.
تحاملت على نفسها، وأومأت برأسها بثبات.
“… نعم. سأكون في انتظارك.”
حاولت رسم أجمل ابتسامة على شفتيها.
وكانت تلك الابتسامة، التي فاقت في بهائها زهور الربيع، آخر صورة طُبعت في ذاكرته بعمق لا يُنسى.
وهكذا، بخطى ثقيلة كأنها مشلولة، توجه نحو الحرب.
بعد أن خضع لتدريب شاق، تم الدفع به مباشرة إلى القتال.
وكان الجحيم، حرفيًا.
أعداء يلوّحون بالسيوف بجنون، بعيون أغرقتها الهستيريا والرعب… لم يكونوا هناك بإرادتهم.
لكنهم أرادوا النجاة. وثيو كان كذلك. فصار يتصدى لوابل السيوف بكل ما أوتي من قوة.
إن لم يضرب مَن أمامه، سيموت.
ولذلك ضرب. وقاوم بجنون.
وكأن كابوس يوم فقدانه كل شيء وهو في الثامنة من عمره، يعاد من جديد.
أخلاق؟ إنسانية؟ لم يعد هناك متّسع للتفكير في تلك المفاهيم. الأولوية الوحيدة كانت البقاء على قيد الحياة.
حتى كرامة الإنسان، لم يعد لها وجود هناك.
كانت معركة بقاء شرسة، لا أكثر.
وما إن ينتهي من جنونه في القتال، حتى يكتشف أن المعركة انتهت.
وتكون الأرض قد غُطّيت بالجثث، بعضها لأعداء، وبعضها قد لا يعرف حتى إن كانت من رفاقه.
كم مرة تقيّأ من رائحة الدماء النتنة التي انتشرت فوق الأرض القاحلة؟
وكم مرة رأى رفيقًا ضاحكًا بالأمس يعود اليوم بصورة مشوّهة لا يمكن وصفها؟
وكم ليلة قضاها يتألم بصمت، يتلوى من أوجاع الجسد التي تنهش أوصاله، عاجزًا عن الصراخ؟
ومع ذلك، ما جعله يصمد وسط هذا كله… كان وعدها له.
وعدته بأنها ستنتظره.
الفكرة بأن هذه البلاد، التي يضحي بحياته ليحميها، هي الأرض التي تعيش عليها هي أيضًا…
كان ذلك كافيًا ليتمسك بالحياة بعناد. فقد كان مقتنعًا بأنه إن انهار هذا المكان، فإنها ستتأذى. ولهذا، تشبّث بالصمود بكل قواه.
وفي يوم من الأيام، بينما كان بالكاد ينجو من الموت، وصلته رسالة.
[ إلى ثيو]
في اللحظة التي رأى فيها تلك الحروف الدائرية الناعمة، شعر بأن قلبه الذي كان يعتصره ليبقى صامدًا، قد انهار بالكامل.
‘ بيلا… فتاتي العزيزة والمحبوبة.’
كيف خطر لها أن تكتب لي رسالة؟
ذلك التصرف البسيط منها، والمليء بالعطف، كان كفيلاً أن يواسيه. فالمشاعر التي كان بالكاد يكبتها، انفجرت دفعة واحدة.
[ تعاني كثيرًا، أليس كذلك؟]
نعم، كان يعاني. إلى حد أنه تمنّى الموت مرارًا.
لكن بما أن الجميع من حوله كانوا في نفس الوضع، لم يكن يجرؤ على التذمر.
ومع ذلك، كان يتمنى لو يسمع كلمة عزاء واحدة، فقط واحدة، رغم أنه يعلم أن الكل يعاني.
شعور دافئ بدأ يتسلل من قلبه، لينتشر في جسده كله كالنار في عروقه.
[ قد يبدو كلامي مزعجًا، لكنني بخير]
مزعج؟ بل كان كلامها نعمة. كان ممتنًا، بل شعر بالطمأنينة.
لأنه هو من صمد هناك، بسببه كان بإمكانها أن تحيا بسلام.
وذلك وحده كان عزاءً كبيرًا له.
بيلا شاركته أخبار دار الأيتام، والإشاعات المنتشرة مؤخرًا في القرية، وتفاصيل حياتها اليومية الصغيرة.
[ كل هذا بفضل ما قدمتموه أنت وزملاؤك الجنود. شكرًا لكم]
لم تنسَ أن تعبر عن امتنانها.
وما كان يخفف عليه أكثر هو أنها هي بالذات، هي من تعترف بما مرّ به.
طالما أنها تفهم، كان يستطيع تحمّل هذا الجحيم.
[ أفتقدك]
وأنا أيضًا…
أشتاق إليك حدّ الجنون.
[ سأنتظرك. أرجوك، عد إليّ سالمًا]
أعدك أنني سأعود.
فقط انتظريني، وكوني بخير.
سأعود، فقط لأرى ابتسامتك مرة أخرى… ولأضمك إلى صدري مرة أخرى…
* * *
ومنذ ذلك اليوم، بدأت بيلا ترسل له الرسائل باستمرار.
وكل مرة، كانت كلماتها الدافئة تمنحه شعورًا بالاستقرار والأمان.
ومع أن المعارك أصبحت أكثر تنظيمًا، وبدأ يجد وقتًا ليرد على رسائلها، إلا أن الوضع ظل قاسيًا.
كاد أن يلقى حتفه عدة مرات، لكنه تمسّك بالحياة من أجلها.
وفي إحدى اللحظات الحرجة، كُشف أمره كمستدعي ارواح للماء، فنُقل إلى وحدة العلاج، لكنه ظل يعمل وسط ظروف قاسية.
وفي ظل الكمّ الهائل من الجرحى الذين كان يعالجهم دون توقف، بدأ الجميع من حوله يلقبونه بالبطل.
لكن ثيو لم يكن يهتم بكل ذلك.
كل ما كان يهمه هو شوقه المجنون إلى بيلا.
كان يتشبث بالحياة فقط بفضل رسائلها التي تعينه على تحمّل كل يوم في هذا الجحيم.
ثم، فجأة، توقفت الرسائل.
في البداية، استغرب الأمر لأسبوع.
ثم بدأ القلق يتسلل إليه مع مرور أسبوعين.
وبعد شهر، غلبه التوتر والاضطراب.
“ ستصل غدًا… لا، ربما الأسبوع المقبل…”
انتظرها بقلق، لكن مرّ على ذلك ثلاثة أشهر.
وأمام غياب أي خبر منها، بدأ ثيو يفقد صوابه.
أرسل رسائل إلى الآخرين في دار الأيتام، لكن لم يردّ عليه أحد.
القلق بدأ ينهش عقله.
ولكنه، بصفته مجرد مواطن عادي في قلب ساحة المعركة، لم يكن له أي وسيلة لمعرفة أخبار بلدته.
لم يكن أمامه سوى البحث في الصحف عن أي أخبار عن كوم أو انتظار رسالة قد لا تأتي أبدًا.
“ أعتذر… لقد سببت توترًا في أجواء التدريب لأمر تافه.”
حاول ثيو أن يغير الجو الثقيل بكلمات خفيفة.
لكن في الحقيقة، كان قلقًا لدرجة أنه فكّر في الهروب.
“ لا بأس. إنه مجرد تدريب، فلا يهم إن شابه شيء من التوتر.”
رد عليه ليكالدو بخفة، لكن نظرته إلى ثيو كانت مليئة بالشفقة.
‘ يبدو أنه لم يخطر بباله أن تلك الفتاة قد تخلت عنه.’
أو لعله يرفض تصديق ذلك، ويتمسك بآماله.
لكن من الواضح للجميع أنه قد هُجر.
ورغم ذلك، لم يستطع ليكالدو أن يطلب منه مواجهة الحقيقة، لأنه يعلم جيدًا ما الذي يمرّ به ثيو.
“ لا تقلق كثيرًا. لا بد أنها بخير.”
كذب كذبة بيضاء.
“ ربما سمعت بأن الحرب على وشك الانتهاء، فانشغلت بالتحضير لاستقبالك.”
ورغم أنه يعلم أن الحقيقة التي تنتظره ستكون قاسية، لم يكن يرغب أن يكون هو من يحطم أمله.
* * *
أما بيلا، فكانت قد غادرت منطقة كوم ووصلت إلى قصر المركيز ماكا.
كان يقع بين كوم والعاصمة، ويمكن الوصول إليه خلال عدة أيام على ظهر الحصان، وهنا ساعدتها مهارتها في الفروسية التي اكتسبتها في حياتها السابقة.
لكن بعد كل هذا العناء، رُفض دخولها من البوابة الرئيسية.
“ عذرًا، لا يُسمح بالدخول لمن لم يحجز موعدًا مسبقًا.”
“ أنا لا أطلب مقابلة المركيز، فقط لقاء بسيط مع كبير الخدم… أليس هناك مجال؟“
كانت تتوقع هذا الرفض، فجمعت يديها بإحكام وتظاهرت بالبؤس.
وقد أفادها كثيرًا ما اكتسبته من مهارات التمثيل أثناء حياتها السابقة بين النبلاء.
للحظة، بدا أن البواب قد تردد، لكن سرعان ما تمالك نفسه وقال بحزم:
“ كبير الخدم أيضًا ليس شخصًا متفرغًا يستقبل من يشاء. عودي بعد أن تحددي موعدًا.”
لم تطلب الكثير، فقط مقابلة كبير الخدم، ومع ذلك قوبلت بالرفض دون حتى شرح أو استماع.
توقفت قليلاً لتفكر، ثم أرخَت كتفيها وتابعت تمثيلها:
“ رئيسة دار الأيتام قالت لي إنني سأجده هنا… فقط كنت أتّبع تعليماتها…”
كلماتها تلك جعلت البواب يقطب حاجبيه قليلًا، كما توقّعت.
وحين رأت ذلك، أسرعت تضيف الخاتمة الحاسمة:
“ إن لم أتمكن من مقابلته، فماذا عن التبرعات… ؟“
وأخذت ترتجف كتفها مثل زهرة ترتعد تحت المطر.
وحين أضافت هذا الأداء المقنع، بدا أن البواب بدأ يتزعزع.
ترجمة : سـنو
واتباد :
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 5"