رفعت إيزابيلا ذراعيها إلى السماء بكل امتداد، ثم توقفت فجأة.
حدّقت فيه للحظةٍ مذهولة.
“اشربي.”
هذه هي المرة الثانية التي تسمع منه تلك الكلمة.
كلمة لا تحمل في ظاهرها أي معنى عميق، غير أنها اجتاحت قلبها بفيض من المشاعر.
حين سمعتها أول مرة، كان كل شيء مختلفاً،
جوّ مثقل بالحرج، وضع متوتر على شفا الخطر…
ليكاردو آنذاك وهو يساعدها على الفرار كان بائس النظرات يواجهها بازدراء ظاهر.
أما الآن، فالأمر مغاير تماماً.
عيناه صافيتان وهو يناولها حقيبه الماء الجلدية من جديد، بينما يمسح قطرات الماء عن شفتيه بظاهر يده.
عندها فقط أدركت إيزابيلا.
ذلك الماضي المظلم لم يعد له وجود هنا.
لا علاقة مشوّهة، لا حياة منهارة.
بل حياة جديدة، تبدأ من هذه اللحظة.
ومن يدري؟ ربما مجرد حقيبه ماء جعلتها تستوعب كل هذا.
نسيم عليل تسلّل فوق التل وأحاط بها، حاملاً معه شتات مشاعر الماضي العالقة.
إحساس بالذنب على اختيارات خاطئة،
انكسار أمام العجز.
كل ذلك لم يعد له مكان هنا.
ذلك العالم القديم غير هذا.
وشمس مشرقة فوق رأسها بدت وكأنها تستقبلها إلى الحاضر.
“إيزابيلا؟!”
أهو انفعال؟ أم راحة؟
“أ.. أتبكين؟”
انحدرت دمعة على خدها.
ارتبك ليكاردو وهو يرى السائل الشفاف يتساقط من عينيها.
ترك حقيبه الماء وراءه وتقدّم نحوها بخطوات واسعة، لكنه لم يجرؤ على أكثر من ذلك.
لم يواجه في حياته امرأة تبكي.
في ساحة القتال نعم، شهد دموع الجنود، دموع خوف أو ألم أو فقدان رفاق…
دموع مفهومة، يمكن مواساتها.
لكن هذه الدموع المفاجئة؟ لم يعرف كيف يتعامل معها.
أما النساء اللواتي عرفهن؟
كاساندرا لا تعرف البكاء بل الغضب.
وأمه أندريا؟ لم تكن ممن يذرفن دمعة، بل كمن لا يسيل منها دم حتى لو طُعنت.
فكيف له إذن أن يعرف كيف يواسي باكية؟
“آسف… هل أردتِ أن تفوزي؟”
لم يخطر بباله سبب آخر لبكائها.
“حقاً آسف. لم أدرك ذلك، ركضت بكل ما أملك من قوة.”
كان عليه أن يخسر لها.
لم يتوقع أن يضع سباق بدأ كمزاح كل هذه المشاعر في قلبها.
“اللعنة، خرجتُ بملابس خفيفة ولا حتى منديل عندي.”
راح يفتّش عبثاً في جيوبه الفارغة وهو يخطو بتوتر.
“حقاً أنا آسف. فلنعد المحاولة. في المرة القادمة ستفوزين أنتِ. أنا من بدأ، أتعرفين؟ كنت أركض أصلاً ثم انطلقتِ خلفي. لو بدأنا معاً من الصفر وانتهى بنا الفارق الضئيل نفسه… فأنتِ المنتصرة حقاً. أنا من غشّ لذا هذا السباق لاغٍ، لاغٍ تماماً.”
أطلق كلماته مسرعاً وهو يتخبّط في ارتباكه.
فضحكت إيزابيلا، ضحكة ساخرة من شكله ومن غرابة الموقف نفسه.
لكن العجيب أن تلك الضحكة لم تمنع دموعها، بل زادتها انهماراً.
شعور غريب…
ليست دموع حزن، ولا يبدو أنها دموع فرح كذلك.
هي نفسها لم تستطع أن تحدد ما تشعر به.
فقط… بكت.
“ها… هاها…”
خرج صوتها بين البكاء والضحك.
“هـ… هاها…”
وكلما حاولت أن تكتمه، انفجر من جديد.
لا تعرف ما هذا الإحساس، لكن لا سبيل لكبحه.
كالسد حين ينهار، اجتاحت العواطف المكنونة قلبها دفعة واحدة.
فأخفضت رأسها وبكت بحرقة.
ليكاردو وقد أعياه الكلام، لجأ إلى آخر ما يستطيع فعله:
“صدقيني… أنا آسف. في المرة القادمة سنعيدها كما يجب، اتفقنا؟”
قدّم لها كتفه بصمت، وهي أسندت جبينها عليه، تبكي طويلاً.
مهما حاولت أن تكتم أنينها بيديها، ظل يتسرّب ويتردّد فوق الحقول بهدوء.
وكان ذلك في يوم مشرق صافٍ.
***
مؤخراً كانت إيزابيلا في مزاج حسن.
فبعد أن أفرغت ما في صدرها من دموع، شعرت كأنها وُلدت من جديد.
لقد تخلّصت من كل الأثقال التي كبّلت قدميها من غير أن تدري منذ عودتها بالزمن.
غير أنّ الدنيا وكأنها تغار من سعادتها بادرت إلى بذر بذور القلق.
“مهلاً، إلى أين قلتي إنه ذهب؟”
سألت إيزابيلا وهي على مائدة العشاء مع الماركيزة ماكا، وقد أرادت أن تتأكد من الخبر الذي سمعته تواً.
فقد اعتادت أن تجتمع مرة كل أسبوع على مائدة واحدة مع ليكاردو والماركيزة أندريا ماكا. وكان هذا اليوم أحد تلك الأيام.
وكانت إيزابيلا قد استغربت سلفاً غياب ليكاردو، فجاء الخبر ليجعل قلبها يهبط من مكانه.
“إلى المنجم الواقع جنوب غربي المقاطعة. حدثت فيه مشكلة صغيرة، ولم تكفِ الرسائل لشرحها. بدا أن الأمر يحتاج إلى معاينة مباشرة، فذهب ليكاردو.”
“مشكلة؟ أهي… صدع؟”
“آه، إذن بلغك الخبر؟ أجل، ذاك الصبي لا يترك شاردة ولا واردة من شؤون بيتنا إلا حدّث بها رفاقه.”
لم يكن مصدرها رفاقه، غير أنّ إيزابيلا لم تجد داعياً لتوضيح الأمر.
“نعم، صَدع قد اكتُشف. ويُقال إنّ العمال أحسّوا بهزّة أثناء العمل، مع أنّ زلزالاً لم يُسجَّل بالمنطقة، وهذا ما يثير العجب.”
حكت أندريا الأمر باستخفاف، لكن وجه إيزابيلا كان قد تصلّب.
ضحكت أندريا برفق أمام تعابيرها وقالت:
“لا داعي للقلق. لا بد أنه مجرّد وهم. فحدوث تصدّعات ليس بالأمر الجديد.”
كانت تقارير الشقوق في الجدران ترد مرة كل شهرين أو ثلاثة، وغالباً ما تكون غير مهمّة.
لذلك لم تُعر الأمر بالاً، بل أرسلت ابنها لأنه هو نفسه أصرّ على الذهاب.
خُيِّل لها أنه ضاق بالبقاء حبيس المنزل بعد أن قضى عامين في أتون الحرب، فسمحت له.
“لن يطول الأمر. شهر واحد، شهران على أبعد تقدير، وسيعود.”
قالتها تهدّئ من قلق إيزابيلا، لكن وجه إيزابيلا لم يزل متجمّداً.
منجم بيت ماكا… وتصدّع؟
ذكريات قديمة طفت على السطح.
‘انفجار بسبب الإهمال الإداري.’
حادث ضخم خلّف عشرات القتلى.
حادثة تعرفها حق المعرفة.
لأنها وقعت في حياتها السابقة أيضاً.
لكن… الموعد كان مبكراً هذه المرة.
‘كان من المفترض أن يحدث بعد عام كامل من انتهاء الحرب…’
لقد كان ذلك الحدث هو الضربة التي قصمت ظهر بيت ماكا، لذلك بقي محفوراً في ذاكرتها.
‘هل من الممكن أن يكون فايتشي قد استعجل خططه بسببي؟’
وهي تعلم أنّ ما جرى لم يكن وليد الصدفة، بل مؤامرة دبّرها فايتشي.
فعضّت على شفتيها ندماً.
‘لقد قصّرت في التفكير بعواقب وجودي كعنصر جديد في هذا الزمن…’
فوجود روحاني رفيع في بيت ماكا كان كفيلاً بأن يُحدث سلسلة من التغييرات الكبرى.
كانت غافلة حين افترضت أن فايتشي سيتحرك بالطريقة ذاتها كما في حياتها الماضية.
“مولاتي، اسمحي لي بالذهاب أيضاً.”
لم تكن لتقف مكتوفة اليدين أمام شبح كارثة يتربّص بسكينها في هدوئها.
***
وانطلقت إيزابيلا تعدو.
لم تكن قد جرّبت كثيراً أن تضبط أنفاسها على إيقاع جوادها، لكنهما انسجما على نحوٍ مدهش، لا سيما وأنه من الأرواح التي تحمل في جسدها طاقة الأرض الوفيرة.
ركضت بكل ما تملك، ساعية للحاق بليكاردو الذي كان قد غادر قبلها بخمسة أيام كاملة.
وما إن تجاوزت مشارف العاصمة حتى شعرت بأن التعويذة التي كانت قد ألصقتها بسارا ارتدت إليها؛ لقد تجاوزت حدود المسافة المسموح بها للاستدعاء.
لكنها لم تكترث لذلك الآن.
فالوقت لم يكن في صالحها إن صحّت مخاوفها.
‘إنهم يستهدفون الوريث.’
كان فايتشي يضع ليكاردو في نصب عينيه.
فما إن يدخل بنفسه إلى المنجم ليُعاين الصدع حتى ينهار كل شيء فوق رأسه.
الغاية لم تكن بيت ماكا بحد ذاته، بل زعزعة ولي العهد.
في حياتها السابقة، حين وقع الانفجار، نجا ليكاردو بأعجوبة بعدما التفّ العمال حوله ليحمونه بأجسادهم.
لكن العشرات قُتلوا وجُرحوا.
وإن لم يَمُت، فقد ترك الحادث ندبة عميقة فيه.
غرق في كآبة طويلة، وغابت ضحكته المرِحة، وأصبح ولي العهد صديقه القديم مكسور الخاطر بسببه.
بعد ثلاث سنوات تغيّر كل شيء حين عاد ليستدعي الأرواح من جديد، وانتعش بيت ماكا، وعاد النصر ليهُبّ في صف ولي العهد.
لكن كل ذلك لا يزال بعيداً.
أما الآن، فلم يملأ عقل إيزابيلا سوى صور المنجم وهو ينهار على رؤوس العمال.
كان لا بد لها أن تمنع وقوع المأساة، مهما كلفها الأمر.
—
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات