لن أخدع مرتين [ 40 ]
كان كارتر يدرك جيدًا أنّ فايتشي يمسك بخناقه عبر نقطة ضعفه الوحيدة وهي سارا.
لكن لم يكن في وسعه أن يفلت من قبضته، ولم يكن يتوهّم لحظة أن فايتشي رجل وفاء أو مروءة قد يحميه يومًا.
وحتى أقرب المقرّبين إلى فايتشي ما كانوا ليعينوه؛ فلو أمسكوا هم أيضًا بضعفه لاستغلوه، لا ليدافعوا عنه.
لهذا أخفى وجود سارا بكل ما أوتي من حيلة.
ما دام في جوار فايتشي فهو عُرضة للخطر في أي لحظة، لذا حرص على إبقائها طيّ الكتمان، حتى لو اضطر إلى الاستعانة بنفوذ فايتشي نفسه لتحقيق ذلك.
لكن حتى هذا لم يَصمد أمام قوة المعلومات التي تملكها نقابة باتوكا.
قالت إيزابيلا:
“لو عجزتُ عن معرفة أمر كهذا، لكان عليّ أن أُسحب من منصبي كـ روحانية بيت الماركيز.”
“ماذا…؟”
ابتلع كارتر بقيّة كلماته بحذر، يعيد التفكير في كل لفظ قبل أن ينطق به.
كان في موقف بالغ السوء وقد انكشف ضعفه تمامًا.
بدأ ذهنه يعجّ بالأسئلة:
ماذا تريد هذه المرأة؟
لماذا تفعل هذا؟
هل يمكنه الخروج من هذه الورطة؟
وبعد طول تردّد، فتح شفتيه المرتجفتين قائلًا:
“ما الذي تطلبينه بالضبط؟”
لم يبقَ أمامه سوى المواجهة المباشرة.
فما دام قد وصل الأمر إلى هنا، فلا جدوى من المراوغة، وهو الأضعف بلا شك.
على الأقل، هي ليست فايتشي…
فهو يعرف قسوة ذلك الرجل أكثر من أي شخص، ويكاد يجزم أن لا يمكن أن يضاهيه أحد في القسوة.
إذن، لعل هذه المرأة على الأقل شخص يمكن التفاهم معه.
تذكّر كلماتها قبل الحفل:
“يؤسفني أنني لن أستطيع الاستماع إلى نصيحتك اليوم يا سير كارتر، لكن أشكرك حقًا لقدومك.”
تعلّق بذلك الخيط من الأمل، شعور لم يعرفه منذ أن انحدر إلى أن يكون كلب فايتشي ينفّذ له الأعمال القذرة.
قال بحذر:
“سأفعل كل ما أستطيع فعله في حدود قدرتي… أرجوكِ، سارا…”
فقاطعته إيزابيلا وهي تلتفت إلى الطفلة:
“سارا، يبدو أن أباكِ لا يريد أن يتناول الغداء معكِ، فهو واقف يثرثر بدلًا من الجلوس.”
لم تكن تقاطعه ازدراءً، بل لتذكيره بأن ابنته موجودة.
لم يكن يطيق أن ترى سارا والدها في هيئة متذلّلة.
ثم إن إيزابيلا كانت قد زعمت أمام الطفلة أنها صديقة والدها، فلم يكن من اللائق أن تهدم ذلك أمامها.
قالت سارا بانكسار:
“لكنني أردت أن أتناول الطعام مع أبي بعد غياب طويل…”
أدرك كارتر مقصد إيزابيلا، فسارع إلى الجلوس بجانب ابنته التي انحنت كتفاها:
“لا يا حبيبتي، أنا أيضًا أريد أن أتناول الطعام معكِ.”
راح يطمئنها بخبرة من اعتاد ملاطفتها، وأخرج منديلًا يمسح به آثار الحساء عن فمها.
“هيا، كُل يا أبي.”
“لا بأس يا سارا، أنتِ كُلي أكثر.”
“لكنني سأأكل، وأنتَ أيضًا كُل معي.”
كانت إيزابيلا تراقب هذا المشهد بين الأب وابنته وهي تشعر بمزيج معقّد من المشاعر.
فبالنسبة لها، كان كارتر دومًا رجلًا مخيفًا وصعب المراس، ذاك الذي كثيرًا ما زجّ بها في مواقف حرجة، ينفّذ الأوامر القاسية بلا تردّد، ثم يعاني بصمت.
والآن، باتت تعرف السبب الكامن خلف ذلك كله.
فكما أخبرتها كاساندرا وهي تسلّمها تقرير التحقيق:
“الطفلة مصابة بمرض عضال… لو كانت ابنة أسرة نبيلة لتلقّت العلاج اللازم مع أطباء دائمين وأدوية وفيرة.”
لكن بالنسبة لمرتزق يعيش يومًا بيوم، كان ثمن الدواء فوق طاقته.
وحينها ظهر فايتشي عارضًا مالًا ضخمًا يكفي لشراء الدواء مقابل تنفيذ مهام سرية عالية الخطورة.
ولم يكن أمام كارتر خيار آخر.
قالت كاساندرا بغضب وهي تشير إلى التقرير:
“انظري، هو لا يمنحها علاجًا يكفي للشفاء، بل يقدّم ما يكفي فقط لتوقف تدهور حالتها حتى يظل ممسكًا بخناق والدها طوال حياته.”
هزّت إيزابيلا رأسها بأسى:
‘حقًا إنه أمر لا يفعله إلا ذلك الأمير الخبيث… كما أمسكتُ أنا بزمام ثيـو في حياتي السابقة.’
وكلما تكشّفت أمامها حقائق الماضي، أحست بوخز مؤلم في قلبها.
كم من الأرواح المعذبة تركها هذا الأمير الطمّاع وراءه؟
قطع صوت الطفلة أفكارها:
“إيزو، ألا تأكلين؟”
“لقد شبعت، هذا لكِ.”
دفعت لها طبق الحساء، فأقبلت سارا عليه مسرورة.
ظلّت إيزابيلا تتأملها وهي تأكل بشهية، تتساءل كم من الأشياء تشتهي هذه الصغيرة، وكم تودّ أن تركض وتلعب بلا قيد… لكن جسدها ومرضها يحولان دون ذلك.
ومع صورة أطفال الميتم في ذاكرتها، ازداد قلبها ثِقَلًا.
ابتسمت ابتسامة غير معتادة على وجهها، ربما شعور بالشفقة ألقى بظلاله عليها.
قالت:
“لا بأس، تَناوَل طعامك بهدوء.”
انشغلت بإعجابها بالطفلة اللطيفة لدرجة أنها لم تلاحظ أن كارتر يراقبها بصمت.
***
بعد الانتهاء من الطعام، قضت إيزابيلا وقتًا طويلًا مع سارا تلعب معها وتشاركها ألعاب الورق التي أحضرتها، وتقرأ لها القصص.
كانت تعرف تمامًا ما يحبّه الأطفال في هذا العمر.
بعد فترة ممتعة من اللعب، غلب النعاس على سارا، فاحتضنت دُمية الفيل التي جلبتها إيزابيلا، بينما غطّاها كارتر بالبطانية.
وعندما خرجت، كانت إيزابيلا تقف عند مدخل المنزل، حاملة حقيبتها التي أصبحت أخف وزنًا على كتف واحد، كأنها تنتظر كارتر.
تحت ضوء القمر المتسلل من نهاية الزقاق، بدا منظرها ساحرًا، وكأنها كائن من عالم الأرواح خرج لتوه من الخيال.
حين التقت أعينهما، ابتسمت ابتسامة خفيفة.
سأل كارتر بتردد:
“لماذا… تفعلين ذلك؟”
قالت ضاحكة:
“أحقًا هذه أول كلماتك؟”
تبعها صمت، ثم قالت:
“لقد قضيت نصف اليوم ألعب مع الطفلة، أليس كذلك؟”
أومأ كارتر برأسه متحسرًا:
“أعتذر.”
ردت إيزابيلا بابتسامة هادئة:
“لا بأس، ليس هذا ما أعنيه.”
كان رجلاً كثيرًا ما يشعر بالذنب، لكن قليلًا ما عرف معنى الامتنان.
قال بصوت متلعثم:
“ش-شكرًا لك.”
ابتسامتها اتسعت قليلًا عند سماع هذه الكلمة.
ثم فتح فمه مرة أخرى، لكنه سرعان ما أغلقه، مترددًا حتى في توجيه سؤال آخر.
ظلّت أفكاره تتشابك:
‘ماذا تريد؟ ماذا تأمل أن تحصل مني؟ هل يتعلق الأمر بمعلومات عن فايتشي؟’
وإن أعطاها ما تريد، فهل ستترك سارا وشأنها؟
توالت الأفكار في رأسه، كل فكرة تتبع أختها.
كان يمكن قراءة توتر كارتر من قبضتيه اللتين كان يضمهما ويفكهما مرارًا.
وبينما كان غارقًا وحده في دوامة من الهواجس، حدّقت فيه إيزابيلا قليلًا قبل أن تبدأ الحديث ببطء:
“سألتني عمّا أريده، أليس كذلك؟”
نظر إليها كارتر بوجه يعلوه التوتر الشديد.
“لا شيء.”
“عفوًا؟”
ابتسمت إيزابيلا بخفة وهي تضيف إلى ارتباكه:
“نعم، صحيح. بما أنك الذراع اليمنى لفايتشي، فقد أجريتُ بعض التحريات عنك لأعرف من خلالك المزيد عنه.”
توقفت لحظة، ثم تابعت:
“كنت أتساءل إن كان بإمكاني استخدامك لزعزعة فايتشي، تمامًا كما استخدم هو إيصالا لزعزعة ثيو… لكن بعدما عرفت ظروفك وجئت إلى هنا، قررت أن أتوقف.”
“……”
“أنت بالفعل تمر بوقت عصيب، فهل من العدل أن أزيدك همًّا فوق همّك؟”
لم يستطع كارتر أن يحوّل نظره عنها.
كان مزيج من الشك، والتأثر، والحيرة، والارتياح، والقلق، يتصارع في عينيه.
“ألستَ تكره الشفقة؟”
“……”
“إن كان كلامي قد أزعجك فأنا أعتذر، لستُ في موقع من يحق له أن يشفق على أحد، ومع ذلك تصرفتُ بغطرسة.”
“لا، ليس الأمر كذلك.”
جاء رده سريعًا على غير وعي منه وهو يراها تعتذر.
“لا أكرهها…”
“حقًا؟”
“إنها فقط غريبة علي.”
أطرق كارتر برأسه قبل أن يقول:
“كما لا بد أنكِ عرفتِ من خلال تحرياتك، حين كانت طفلتي في الثانية من عمرها شُخّصت بمرض عضال، ثم فقدت زوجتي في حادث عندما كانت سارا في الرابعة.”
روى قصته بصوت خافت يملؤه الاستسلام.
“حينها صادف أن عُرضت علي مهمة سرّية من قِبل سموّ الأمير، لم أكن أعلم أنها بتوجيه منه، كل ما قيل لي إنها مهمة بمقابل ضخم.”
بدأ بنقل أدوية غير مشروعة، وأحيانًا حراسة مواقع الصفقات.
هكذا كانت البداية، بشكل طبيعي.
“ثم أخذت الأعمال تتسع شيئًا فشيئًا حتى جاء يوم طُلبت مني مهمة اغتيال، فترددت.”
هل يمكن أن أنحدر إلى هذا الحد؟
لكن القدر لم يرحمه…
ففي تلك اللحظة بالذات، تدهورت حالة سارا.
“ومنذ أن قبلتُ بذلك…”
لم يتمكن كارتر من إكمال الجملة، واكتفى بابتسامة مريرة.
لقد كانت تلك نقطة الانكسار… اللحظة التي انهارت فيها أخلاقه ومبادئه تمامًا.
—–
ترجمة : سنو
حسابات المترجمين في الواتباد في خطر ويمكن ينحظر في اي وقت، جروب التيليجرام حيث كل رواياتي موجوده ملفات والنشر هناك اول
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
واتباد : punnychanehe
واتباد احتياطي : punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 40"