لأنها لم تكن تستطيع التصرف بروح ثيو كما تشاء، أخفتها في جيبها.
وأخذت تتحرك وهي تتفقد ما حولها بحذر.
ففي أوساط العامة لم يكن وجه إيزابيلا معروفاً بعد، أما النبلاء فكانوا يعرفونه جيداً.
ولذلك، فمن المؤكد أن الجواسيس الذين كانوا يترصدون في محيط بيت الماركيز قد لحقوا بها.
تظاهرت إيزابيلا بعدم الاكتراث، وأخذت تتجول في السوق.
‘واحد… اثنان… ثلاثة…؟’
كانت تتعمد التوجه إلى سوق مكتظ يتحرك فيه الناس في كل اتجاه، لتجذبهم إلى هناك.
ففي الأماكن المزدحمة مثل السوق، يسهل عليها كثيراً التمييز بين المارة العابرين وبين من يلاحقونها.
وكان هذا ممكناً لأنها روحانية عليا قادرة على الإحساس بكل خطوات الأشخاص ضمن نطاق معين حولها.
‘وبينهم ذلك الذي يتنقل بمهارة عبر الأسطح، يصبح عددهم خمسة.’
فالأسطح في نهاية الأمر ليست سوى تراب وخشب متصل بالأرض، لذا لم يكن بإمكانهم الإفلات من رادارها.
‘عددهم أقل مما توقعت.’
كانت تتوقع على الأقل واحداً من جهة فايتشي وآخر من جهة الكونت موتكان.
بالإضافة إلى توقعها أن ينضم إليهم ثلاثة أو أربعة آخرون.
لكن بالمقارنة مع حياتها السابقة حين كان يلاحقها قرابة عشرة أو أكثر، فالعدد هذه المرة أقل.
‘هذا يعني أن العيون المراقبة لفايتشي كانت أكثر بكثير.’
فكونها مستحضرة أرواح عليا في بيت الماركيز ماكا، لم يكن هناك مكسب حقيقي من مراقبتها، كما أن مهاجمتها خفية لن تجلب سوى الهزيمة للمهاجم.
أما عندما كانت روحانية من الدرجة الدنيا عند فايتشي فقد كان الوضع مختلفًا؛ إذ كان التخلص منها أمرًا ممكنًا بسهولة، كما أن تعقبها كان كفيلًا بكشف تحركات فايتشي، بل إن فايتشي نفسه لم يكن يثق بها وكان يرسل من يراقبها.
أما الماركيزة ماكا، فقد أطلقت يدها مانحة إياها ثقةً مفادها أنها ستعرف ما تفعل.
بعد أن أحصت عدد المتعقبين، بدأت تقضي بعض شؤونها.
‘لنرى إن كانوا سيتبعونني حتى هنا…’
غادرت المنطقة التجارية المزدحمة ومرت بأحياء الفقراء.
وبسبب ثيابها النظيفة والأنيقة، تجمّع حولها الكثير من الأطفال لكنها، لكونها كانت يتيمة وعاشت كعامية، عرفت كيف تتعامل معهم بسهولة، فتارة تداعبهم وتارة تتخلص من الملاحقين حتى خرجت من المنطقة.
‘تخلصت من ثلاثة حتى الآن…’
وكما توقعت، كان من السهل الإفلات من بعض الملاحقين، فمهما حاولوا التستر، فإن عيون أطفال الأحياء الفقيرة الجائعة لا تخطئ، كما أن جواسيس النبلاء، حتى لو لم ينتموا لعائلات كبرى، لا بد أن تبدو عليهم علامات النظافة والهيئة المترفة.
بقي في النهاية اثنان، أحدهما كان يتبعها عبر الأسطح، والآخر هو من كانت تتوقعه.
ترددت لحظة بين أن تواصل السير تاركةً واحدًا منهم خلفها، أو أن تحاول التخلص منه، لكن التردد لم يطل…
تحطّم… دوّي!
“أوه…”
لم يحتمل سقف أحد البيوت المتداعية وزن الرجل الذي قفز من سطح لآخر، فانكسر وسقط على من في الداخل.
“آه! ما هذا؟!”
“يا إلهي! لصّ!”
اختلط الساقط بأهل البيت في فوضى عارمة، فاستغلت إيزابيلا الموقف لتبتعد مسرعة.
‘آخ…من الصعب أن ينعم المرء بحريته.’
التقطت أنفاسها واتجهت أخيرًا نحو وجهتها الحقيقية، محتفظة بظل واحد يتعقبها.
‘كنت أظنها مجرد شكوك، لكن اتضح أنه أرسل أقرب معاونيه فعلاً.’
ذلك الظل كان من النوع الذي تريد أن تتبعه إيزابيلا.
‘حسناً… لم يكن لدى فايتشي أحد غيره يثق به.’
كانت خطواته مألوفة لها من حياتها السابقة، فهي خطوات رجل استطاع اجتياز هذه المنطقة دون أن تحاصره عصابات الأطفال، ما أكد لها هويته.
استحضرت ما جمعته كاساندرا من معلومات وابتسمت بمرارة.
‘كارتر…’
الرجل الذي طالما أثار فضولها، وكان أكثرهم غموضًا وصعوبة في الفهم، لكنها أدركت الآن أنه في الحقيقة كان الأسهل فهمًا.
طَرق… طَرق.
“عذرًا…”
وصلت إيزابيلا إلى بيت مهجور أشبه بالخراب، وطرقت بابه الخشبي الهش الذي قد يتحطم إذا أساءت الطرق عليه.
كان المكان في زاوية منسية حتى أن أطفال الفقراء لا يصلون إليه.
“هل من أحد هنا؟”
عاد صوت الحراك من الداخل، وفي تلك اللحظة تسارعت خطوات الظل الهادئ الذي كان يتبعها، متخليًا عن مهمته في التخفي، وكاشفًا عن نفسه.
“ما الذي تفعلينه الآن…!”
وفي اللحظة نفسها التي أمسك فيها بمعصمها قبل أن تصل إلى مقبض الباب، انفتح الباب بصرير.
“من…؟”
عند مستوى المقبض، أطلت برأسها فتاة صغيرة هزيلة شاحبة الملامح لكن عينيها كانتا صافيتين لامعتين.
نظرت بخوف إلى إيزابيلا، ثم وقعت عيناها على كارتر الواقف بجوارها.
“أبي؟”
اختفى الخوف من وجهها في الحال.
“أبي!”
فتحت الباب ومدّت يديها نحوه، لكنها لم تستطع أن ترتمي في حضنه، إذ كانت جالسة على كرسي خشبي بسيط مزوّد بعجلات يمكن تحريكه لكن بصعوبة، وذراعاها النحيلتان بالكاد تستطيعان دفع جسدها.
رغم أن الفتاة مدت ذراعيها، لم يتمكن كارتر من احتضانها على الفور.
بل تردّد ونظر إليّ متحسّبًا، وعلى وجهه ملامح من وقع في مأزق.
قلت له ببرود:
“ما الذي تفعله؟ ابنتك تطلب أن تضمّها.”
وأومأت للصغيرة بغير اكتراث، لكن كارتَر ظل متردّدًا، وكأن انكشاف أمره أمامي أمر يبعث في نفسه اليأس.
كان واضحًا أنه يفكّر في الإنكار، لكن الوقت فات لذلك.
لو كان ينوي الإنكار، لما كشف وجهه أصلًا.
منذ اللحظة التي أمسك فيها بمعصمي، كانت النتيجة قد حُسمت.
انحنيت قليلًا وجلست القرفصاء أمام الطفلة، باسمة، وفتحت ذراعيّ:
“يبدو أن والدك يشعر بألم في ذراعه، أتريدين أن تعانقك الخالة بدلًا منه؟”
نظرت إليّ الصغيرة بتردّد.
“ومن أنتِ؟”
“أنا صديقة أبيكِ.”
أجبت بسهولة أكبر بكثير مما يفعل كارتَر في الكذب.
“صديقة أبي…؟”
وألقت نظرة خاطفة على كارتَر الذي اكتفى بالصمت وملامح الحيرة تعلو وجهه.
سألتها بلطف مصطنع:
“هل لا تحبّين أن تحمِلك الخالة؟”
وبمجرد أن أظهرت ملامح حزينة، مدّت الصغيرة ذراعيها نحوي بلا تردّد.
كان حذرها قد زال، لا لشيء سوى أني صديقة أبيها، وأنني امرأة، وفوق ذلك أنني أخت جميلة كما تقول المربيات.
رفعتها بين ذراعي بسهولة.
“أأنتِ فعلًا صديقة أبي؟”
سألت مجددًا وهي بين حضني.
“بالطبع، لقد طلب مني أبوك أن آتي لألعب مع سارة حتى لا تشعري بالملل وأنتِ وحدكِ.”
وبخبرة من اعتاد العناية بالأطفال، أمسكتها بيد وبالأخرى دفعت كرسيها الخشبي.
كنت في دار الأيتام قد ربيت بين أطفال في أعمار مختلفة، وكان من الطبيعي أن يرعى الأكبر سنًا الأصغر، لذا لم أجد الأمر غريبًا.
سألتها:
“هل تناولتِ غداءكِ يا سارا؟”
“نعم، أكلتُ ذاك.”
وأشارت إلى نصف قطعة خبز طويل يشبه الباغيت.
“خبز فقط؟”
“نعم.”
“إذن سبقَتِني، مع أني أحضرت شيئًا خصيصًا لأتناوله معكِ.”
وأخرجت الحساء الذي كنت قد أوصيت كبير طهاة بيت الماركيز أن يُعدّه خصيصًا لطفلة مريضة، خفيفًا يسهل ابتلاعه وهضمه.
رغم أنه برد قليلًا في الطريق، إلا أنه ما زال دافئًا.
تعمّدت أن أضعه أمامها ببطء:
“هذا طعمه رائع جدًّا…”
كان حساءً خفيف القوام، أُعدّ من الفطر والكريمة، وتفوح منه رائحة شهية دافئة.
رأيتها تبتلع ريقها بصمت، فسألتها مبتسمة:
“ألا تشاركين الخالة في تناوله؟ سيكون كثيرًا عليّ وحدي.”
“أيمكن…؟”
هزّت رأسها موافقة، فأجلستها إلى الطاولة، وسرعان ما رتّبت الأطباق الخشبية والملاعق بعد غسلها على عجل، وجلست معها إلى مائدة صغيرة بالكاد تكفي لثلاثة.
جلست على الأرض بجانبها حتى يتساوى ارتفاعي معها، ثم أخرجت خبزًا طريًّا يناسب الحساء:
“انظري، أحضرت خبزًا لذيذًا لنأكله معًا.”
بدأت الصغيرة تأكل بنهم، فابتسمت في سري:
‘الأطفال يجب أن يأكلوا جيدًا، لا يعقل أن تكون في سنّ النمو وتبدو بهذا النحول.’
لمّا اطمأننت أنها تأكل، أخذت قطعة من الخبز وغمسْتُها في الحساء، فوجدت الطعم أطيب مما توقعت.
‘حقًّا، الطاهي في بيت الماركيز لا يخيب.’
رفعت بصري إلى كارتَر الذي ظل واقفًا حائرًا، أصابع يده تنقبض وتنبسط كمن لا يعرف ماذا يفعل.
“ألم تتناول غداءك بعد؟ أمّا أن تجلس وتأكل معنا، فقد أحضرت ما يكفي لخمسة أشخاص.”
ودفعت إليه طبقًا من الحساء.
هتفت الصغيرة وهي تطرق على الكرسي الفارغ بجانبها:
“أبي! هذا لذيذ! تعال وكُل!”
ظل بصره يتنقّل بين الكرسي وركبتيّ الملامستين للأرض، ثم نطق بصوت خافت:
“كيف…عرفتِ بالأمر؟”
ــــ
ترجمة : سنو
حسابات المترجمين في الواتباد في خطر ويمكن ينحظر في اي وقت، جروب التيليجرام حيث كل رواياتي موجوده ملفات والنشر هناك اول
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 39"