لن أخدع مرتين [ 27 ]
كانت النظرات التي شعرت بها لزجة ومزعجة.
وعندما حركت عينيها قليلاً نحو الجانب، لم تُفاجأ لرؤيته… كان فايتشي يراقبها.
وما إن التقت أعينهما، حتى ابتسم لها ابتسامة خفيفة، قد يراها الغريب ودودة، لكنها بالنسبة إلى إيزابيلا كانت تُثير الغثيان.
‘ لا تحضري حفل اليوم.’
ارتدّ إلى ذهنها كلام كارتر.
أظنني بدأت أُخمِّن ما الذي يحاول فعله…
رغم ذلك، قابلته إيزابيلا بابتسامة بريئة مصطنعة. أما داخلها فكان يغلي.
هيا، جرّب ما تريد فعله…
ستفشل فشلًا ذريعًا.
“ وبهذا، نُعلن ولادة كونتٍ جديد وأربعة نبلاء من طبقة البارون في الإمبراطورية!”
بهذا الإعلان، انطلقت رسميًا فعاليات الحفل، بينما كلٌ من إيزابيلا وفايتشي يُخفي خلف ابتسامته نوايا مختلفة.
***
ما إن بدأ الحفل، حتى تحلّق الناس حول ثيو.
“ مبروك يا كونت لامارت، ما رأيك أن نقيم احتفالًا صغيرًا في بيتنا الريفي؟ إنه مكان رائع جدًا.”
بعكس الأربعة الذين مُنحوا لقب بارون، فإن لقب الكونت كان كافيًا ليُتيح لصاحبه تأسيس نفوذه الخاص.
“ ابني كان يقيم بالقرب من وحدتك، ويقول إنه رآك عدة مرات… هل تتذكّره؟“
حاولوا جاهدين افتعال أي رابط بينه وبينهم، حتى وإن كان تافهًا، بهدف التقرّب منه.
لكن ثيو كان مدركًا تمامًا أنهم لا يسعون إليه كشخص، بل يرغبون بالوصول إلى عائلة الماركيز ماكا من خلاله.
فالكل يعرف أنه، بصفته نائب قائد وحدة ماكا، يتمتع بعلاقة وطيدة مع الشاب ليكاردو، وريث العائلة.
لذا كانوا يتوددون إليه، طمعًا بأن يكونوا مقبولين في أعين العائلة.
وثيو الذي فهم ذلك كله، لم يكن مرتاحًا لاهتمامهم به.
بل إنهم، رغم اعترافهم بمكانته الجديدة، ما زالوا يعاملونه على أنه مجرد عامي ارتقى بمحض الصدفة.
كان كل شيء في تصرفاتهم يبعث على الضيق.
لكن لم يكن بإمكانه التصرف بوقاحة أو طردهم علنًا.
“ أقدّر كلماتكم، لكني لا أنوي إقامة احتفال خاص.”
ردّ عليهم بلباقة، بينما كان بصره متجهًا إلى الجانب الآخر من القاعة، حيث تقف إيزابيلا.
رغم المسافة، كانت تبرز بين الحشود.
بدت رائعة كعادتها.
كانت تتحدث مع ليكاردو، وتبدو عليهما علامات الانسجام.
كان ثيو يتوق إلى أن يذهب إليها فورًا.
لكن الحشود المحيطة به كانت تمنعه، وجعلته يكرههم أكثر.
“ كونت لامارت، من أين حصلت على سيفك؟“
“ هل تحب النبيذ؟ لديّ زجاجة نادرة في القبو، حان وقت فتحها…”
وبينما كانوا يتحدثون بحماسة، لم يدركوا أنهم يزيدون من نفور ثيو منهم.
***
من جهة أخرى، لم تتمكن إيزابيلا من الاقتراب من ثيو بسبب الزحام من حوله مع بداية الحفل.
ولم ترغب بإزعاجه وهو محاط بكل هؤلاء الناس.
كانت تتابعه من بعيد بابتسامة راضية، ثم علّقت على الأمر وهي تتحدث إلى ليكاردو:
“ حتى من هذا البُعد، يلفت النظر بسهولة.”
فأجابها ليكاردو ممازحًا:
“ طبعًا، ذاك الفتى طويل القامة.”
ثم أضاف ساخرًا وهو يراقب تعبيرات وجه ثيو:
“ يبدو عليه الانزعاج الشديد، أليس كذلك؟“
من لا يعرف ثيو جيدًا قد يظنه بارد المشاعر، لكن من خالطه يدرك أن له طيفًا واسعًا من التعابير والعواطف.
“ منذ صغره وهو لا يحب التعرّف على أناس جدد.”
فحتى لو اقترب منه أحد بحسن نية، كان يتعامل معه بحذر وريبة.
“ هذه مشكلة فعلًا. الآن بعد أن أصبح كونتًا، لا مهرب من المناسبات الاجتماعية.”
“ سيكتفي بالتواصل معك، على ما يبدو.”
“ بصراحة، منذ أن علمت بحصوله على اللقب، انتابني بعض القلق حيال ذلك.”
اتسقت كلماتهما بسلاسة، بفضل الموضوع المشترك الذي يجمعهما ثيو.
“ والآن، بعد أن أصبحتِ رسميًا روحانية تحت رعاية عائلتنا، سيأتي هذا الفتى إلينا أكثر من ذي قبل.”
“ ربما من الأفضل أن تعرضوا عليه الانتقال للعيش هنا.”
“ هاها! فكرة ممتازة.”
كان كلاهما يعرف ثيو جيدًا.
وبينما تبادلا الحديث مازحين، تصافحت كؤوس الشمبانيا بينهما.
“ أوه، صحيح… تذكّرت شيئًا.”
قالها ليكاردو فجأة، مشيرًا إلى صدره الأيسر.
كان هناك شارة أنيقة تحمل شعار العائلة مثبتة على سترته الرسمية.
“ ما رأيك؟“
سألها بعينين تتوسلان الثناء، فغلبت على إيزابيلا الضحكة.
بدا لها كطفل صغير يتفاخر بهدية أُعطيت له.
“ تليق بك كثيرًا. فهل هناك شيء لا يليق بمظهرك يا سيدي الشاب؟“
قالتها مازحة، لكنها أصابت نقطة حساسة لدى ليكاردو الذي بدا متوترًا لوهلة.
وما إن لمح ابتسامتها المشاكسة حتى فهم أنها كانت تمازحه.
“ حتى الآن، لا مجال لكسب نقاط عندك؟ لا أمل؟“
قالها ليكاردو محرجًا، فزادته هي إحراجًا بسؤالها المشاكس:
“ هل تحاول كسب نقاط عندي الآن؟ للأسف، لا أعتقد أن هناك أي احتمال لأن أراك بنظرة مختلفة!”
وبينما كانت تكرر كلماته القديمة، تذكّر ليكاردو بوضوح كيف كان يسيء الظن بها في الماضي.
“ لو كنت تحاول كسب إعجابي الآن، فكفّ عن ذلك. فلن أنظر إليك أبدًا نظرة جيدة.”
كانت تلك كلماته السابقة، حين حكم عليها ظُلمًا دون أن يعرفها.
همّ أن يبرر موقفه، لكنه توقف فجأة وأطلق تنهيدة طويلة.
“ أنا آسف حقًا… لقد ظلمتك.”
لقد مر وقت طويل، لكنه لم يعتذر لها كما ينبغي.
وحين تفاجأت بنبرة الجدية في صوته، اتسعت عينا إيزابيلا.
“ إن كنت ستصبح بهذه الجدية فسأشعر بالحرج من مزاحي!”
فقال ليكاردو بابتسامة محرجة:
“ الاعتذار يبقى واجبًا، حتى لو جاء متأخرًا.”
لقد أساء الحكم عليها، وتصرّف بقسوة غير مبررة.
والأسوأ أنه تصرّف بدافع عاطفي، دون عقلانية.
حينها قالت إيزابيلا بنبرة فيها بعض التلميح:
“ حسنًا… إن كنت حقًا تشعر بالأسف، فربما…”
كانت إيزابيلا تأمل أن يتمكن ليكاردو من التخلّص من شعور الذنب الذي أثقله.
فما حدث لم يكن سوى سوء فهمٍ يمكن لأي شخص أن يقع فيه، بل إنها في حياتها السابقة ارتكبت ما هو أسوأ بسبب هذا الوهم، إذ خانت ثيو نفسه.
لذا، لم يكن ليكاردو مخطئًا تمامًا.
لكن مهما قالت له إنها لا تلومه، فلن يتوقف عن الشعور بالأسف.
فقررت أن تقترح عليه حلاً بسيطًا:
“ حقق لي أمنية واحدة.”
“ أمنية؟ وما هي؟ قولي.”
“ اشترِ لي حصانًا.”
كان بذلك سيُخفف عن نفسه الشعور بالذنب، وهي ستحصل على ما تحتاجه، فكان مكسبًا للطرفين.
“ حصان؟“
“ نعم، حصان.”
فكرت إيزابيلا أنها ستتنقل كثيرًا لاحقًا، وفكرة الاعتماد على عربة في كل مرة بدت مرهقة لها منذ الآن.
“ هل تعلمين الفروسية؟“
“ لست خبيرة في الاستعراضات على صهوته، لكني واثقة من أنني لن أسقط أثناء الجري.”
“ ثيو أيضًا، ذلك الفتى كان يجيد ركوب الخيل.”
كان من النادر أن يجيد العامة الفروسية إلا من كان يعمل في مهنة ذات صلة، لذلك تعجبت إيزابيلا.
في حياتها السابقة، تعلمت الفروسية بأمر من فايتشي الذي أراد الاستفادة منها بطرق شتّى، ولهذا أجبرها على التعلم.
لكنها لم تكن تعرف أن ثيو يجيد الفروسية.
“ ثيو؟ حقًا؟“
“ كنت سأعلّمه، لأنني سمعت أن أغلب العامة لا يعرفون ركوب الخيل، لكنني فوجئت بأنه يجيدها مسبقًا.”
تذكّر ليكاردو اللحظة التي رأى فيها ثيو يركب الخيل لأول مرة.
“ في البداية بدا عليه بعض التردد، كأنه لم يفعلها منذ زمن، لكن سرعان ما تفوّق عليّ في الركوب، لدرجة أدهشتني.”
قطبت إيزابيلا حاجبيها بقلق:
“ حقًا؟“
لطالما ظنت أن ثيو تعلّم الفروسية في ساحة المعارك، لكنها الآن أدركت أنه كان يجيدها من قبل.
متى تعلّم إذًا؟
لو كان تعلمها وهو في دار الأيتام، لكانت عرفت.
إذن، لم يبقَ سوى احتمال واحد:
هل كان يعرف الفروسية قبل أن يدخل الدار؟
لكنه لم يكن حينها قد تجاوز الثامنة!
وفي هذا السن، لا يتعلم الفروسية إلا أبناء النبلاء أو فرقة بهلوانية.
وفجأة، تذكّرت إيزابيلا كلامًا قاله فايتشي في الماضي:
‘ لقد خاطر بفضح نسبه القذر كي يحميك.’
وقتها لم تدرك المعنى الحقيقي لتلك الكلمات.
نسبه القذر؟ فضحه؟
ما الذي يخفيه عني ثيو… ؟
شيء ما كان مريبًا.
فطوال فترة معرفتهما، لم يتحدث ثيو أبدًا عن ماضيه.
كانت تعتقد أن ماضيه في دار الأيتام مؤلم ولا يحب التطرق إليه، لذا لم تسأله.
هل عليّ أن أسأله الآن؟
لكن الحديث عن الماضي ظل من المواضيع المحظورة غير المكتوبة بين أبناء دار ايتام كوم.
وهي بدورها لم تخبره بشيء عن ماضيها قبل دخولها الدار.
عادت إلى الواقع حين قاطعها صوت ليكاردو:
“ ربما وُلد بموهبة في ركوب الخيل.”
فأوقفت تفكيرها، وقررت تأجيل كل تساؤلاتها.
سواء بحثت بنفسها أو سألته لاحقًا، الآن ليس الوقت المناسب.
فركّزت مجددًا في حديثها مع ريكاردو.
“ ثيو يجيد كل ما يتعلّق بالحركة والمهارات البدنية.”
“ أتفق معك. رغم أنه لم يتلقَّ تدريبًا رسميًا على السيف، إلا أنه خصم لا يُستهان به بالنسبة لي.”
“ ومع ذلك، لا أحد يمكنه التفوق على مهاراتك يا سيدي الصغير.”
أطلقت كلماتها بمرح، وكان فيها شيء من الدلال المقصود.
ضحك ليكاردو بهدوء، وقد أدرك أنها تتعمد ممازحته رغم ما قاله سابقًا بأنها لن تراه أبدًا بنظرة مختلفة.
“ حسنًا، سأشتري لك الحصان. وسأحرص أن يكون من أفضل السلالات.”
بالتأكيد، كان بإمكانها شراء حصان من السوق العادي، لكن ذلك لم يكن كافيًا.
فالخيول المميزة تُباع فقط عبر تجار خاصين يتعاملون مع النبلاء.
“ شكرًا لك. أنا متحمسة جدًا بالفعل.”
حين رأى تعبيرها المبتهج، شعر ليكاردو أن حمله من الذنب بدأ يخف.
“ حين تحصلين عليه… ما رأيك أن نذهب معًا إلى—”
كان ينوي دعوتها إلى رحلة صيد أو ما شابه، لكن صوته انقطع فجأة.
فقد قاطعه صوت ناعم ومتملق:
“ مر وقت طويل، يا سيد ليكاردو.”
كان صاحب الصوت فايتشي، وعيونه الحمراء بدت لامعة بشكل غير طبيعي تحت أضواء الحفل.
—–
ترجمة : سنو
الحسابات صارت تنحذف من الواتباد ، وإذا مالقيتو حسابي لا تلوموني فهذول الكوريين يحذفونها ، فمنشان هيك تعو تيليجرام عامله جروب انشر فيه الروايات ملفات وإذا انحذف حسابي مراح ارجع له.
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل : https://t.me/snowestellee
واتباد : punnychanehe
واتباد احتياطي : punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 27"