لن أخدع مرتين [ الفصل 20 ]
ملأ الصوت الرقيق أرجاء الزقاق، وانهمر عبير مألوف وعزيز على ثيو، يغمره دفعة واحدة.
ذلك الدفء الذي كان يشعر به دومًا، ولا يملّ منه، لكن حرمانه منه لعامين كاملين كان على وشك أن يدفعه للجنون.
“أنت هنا …!”
تفاجأ ثيو للحظة من وجودها المفاجئ، فأبعدها عنه وهو يمسك بكتفيها.
نعم، كانت هي فعلاً.
نظرت إليه بعينين تغمرهما الدموع، ترفع وجهها نحوه.
“بيلا …؟ “
“نعم .”
كانت هي بلا شك.
الفتاة التي كان لا يعرف من أين يبدأ للعثور عليها، ها هي تقف أمامه الآن.
كيف وصلت إلى هنا؟ كيف علمت بمكانه؟
هل انتظرته في هذا الزقاق وحدها، بكل ما فيه من خطر؟
أسئلة كثيرة مرّت في رأسه، لكنه أسقطها جميعًا، وضمّها إليه بعنف لا يخلو من الحنين.
“بيلا …!”
عانق جسدها الصغير بقوة.
“بيلا … بيلا …”
ترددت أنفاسه الساخنة عند أذنها وعنقها، يناديها بحرارة ولهفة.
يا لهذا الدفء، كم اشتاق إليه.
كم اشتاق إلى هذا النبض، إلى هذا الصوت، إلى هذا الكيان الذي يعيده للحياة.
هي وحدها كانت سبب استمراره، وها هي بين ذراعيه من جديد.
“ ثيو، اشتقت إليك كثيرًا.”
قالتها بصوت يقطر حبًّا، بكلمات عذبة لا تملّ.
أسلمت إيزابيلا نفسها بين ذراعيه رغم شدّته ورغم ضيق أنفاسها، لكنها شعرت من خلاله كم كان متلهفًا، فزادها ذلك سعادة وطمأنينة.
“ اشتقت إليك أكثر مما تتصور.”
همست بها، تحمل في طيّاتها مشاعر من عمرٍ مضى.
هو لا يعلم كم كانت الأيام ثقيلة من دونه.
لا يعلم كم من الطرق سلكت، وكم من الأوجاع تحملت لتعود إلى هذا الحضن.
لكنه لا يحتاج أن يعلم.
فقد عاد وبسلام، وهذا يكفيها.
“ثيو …”
دفعت صدره قليلًا لتتراجع، رغم أنه بدا وكأنه لن يتركها أبدًا، لكنه استجاب لها بهدوء.
وعندما رفعت رأسها، وجدت عينيه تنظران إليها بشوق لا يوصف.
نظرة أذابتها كقطعة زبدة على مقلاة ساخنة.
أمسكت بيده الكبيرة ورفعتها لتلامس وجهها.
أحبت هذا الشعور.
أن تلمسها يداه بحرية، بعد حياةٍ سابقة لم يكن ذلك فيها ممكنًا.
وكأنها بذلك تؤكد لنفسها أن هذه الحياة مختلفة.
وكأنه كان يفهمها دون أن تنطق، بدأ يمسح على وجنتيها وشعرها بحنان، يداه القاسيتان من الحرب تتحركان بلطف بالغ.
“ ثيو، هناك شيء يجب أن تسترده.”
قالتها وهي تشير إلى شفتيها بأناملها تنقرها بخفة.
اهتزت عيناه بشدة، وانعوج أنفه قليلاً بتأثر.
مشاعر معقدة انفجرت فيه.
سعادة غامرة وحنين وألم خافت.
‘ لقد عادت… أوفت بوعدها… وانتظرتني فعلًا…’
مزيج من حبٍ وراحة.
رفع وجهها الصغير بيديه وأقرّها أمامه.
أغمضت عينيها حين اقترب.
ثم التقت شفاههما بانسجامٍ تام.
اجتاحتهما رعشة لذيذة، كأنّ تيارًا كهربائيًا تسلل من عموده الفقري حتى أسفل ظهره.
كان شعورًا يربك الأعصاب من شدّة عذوبته.
وكما حدث يوم فراقهما، لم يدم التقبيل طويلًا.
ما إن افترقت شفاههما بصوت خافت حتى اندفع كلٌ منهما يعانق الآخر مجددًا بقوة.
قبلة واحدة لم تكن كافية، ولا يمكن اختزال الشوق فيها.
كانا في عمر صغير جدًا حين افترقا ولم يعرفا اللذة، أما الآن فقد بلغا النضج، وأصبح كل شيء مختلفًا.
شعر ثيز أن الرغبة تكاد تنفجر في داخله.
لو لم يضبط نفسه، لأغرقها في شدة مشاعره حدّ الاختناق.
بينما هو يحاول المقاومة، لم تحاول هي.
“ فقط… لحظة أخرى.”
همست وهي تشده نحوها.
تشابكت شفاههما من جديد، وهذه المرة، كانت المبادرة منها.
ارتعشت رغبة ثيو بعنف مع هذا الاتصال البسيط، وسرعان ما لفّ خصرها بين ذراعيه وسحبها إليه بقوة.
هذا… هذا هو السبب الذي جعله يصمد.
لا في النصر، ولا في المديح، ولا في التكريم، شعر بمثل هذا الامتلاء.
‘ أنا في الانتظار…’
نعم، لقد كنت أصمد لأجل هذه اللحظة لأجل العودة إليك.
كانت أجمل من شمسٍ اخترقت غيوم العاصفة، ومن نجمةٍ سقطت وسط ظلمة الليل.
‘ كيف يمكن لإنسانة أن تكون بهذا الجمال؟‘
تلك الرموش المرتجفة، تلك اليدان الصغيرتان المتشبثتان به بكل ما فيها من رجاء.
هي وحدها كانت سبب وجوده.
معنى حياته.
خلاصه.
امتلأ بها كليًّا.
أنفاسهما امتزجت، ودفؤهما تداخل شيئًا فشيئًا كأنهما كيانٌ واحد.
هل هي نشوة؟ أم حرارة؟ أم شوق؟ لم يعد يميز.
ما كان بينهما في تلك اللحظة لم يكن سوى شوق متبادل، يفيض ويشتدّ حتى يوشك أن يلتهم كل شيء.
“هاه …”
ما إن انفصلت شفاههما، بعد لحظات طويلة من الغرق في دفء بعضهما، حتى خرجت من أنفاس إيزابيلا زفرة ساخنة.
عيناه الزرقاوان، اللتان لا تنطفئ فيهما جذوة الشوق، كانت تتأملانها بنهم.
تحوّل الحنين العميق إلى رغبة ملحّة، شدّتهما معًا بقوة لا تُقاوم.
‘ نعم… هذا هو مكاني الحقيقي.’
كيف لم تدرك ذلك من قبل؟
ها هي إيزابيلا تدرك الآن كم كانت غافلة وساذجة في حياتها السابقة.
كل ما كانت تدور فيه من دوائر الماضي، بدأ أخيرًا يعود إلى موضعه الصحيح.
“ ثيو… شكرًا لأنك عدت سالمًا.”
همست بها بشفتيها الرقيقتين.
كلماتها العذبة جعلت ملامح ثيو تتغير مجددًا، فقد انعقد حاجباه تأثرًا.
تلك الملامح التي لا تظهر منه إلا حين تفيض مشاعره، ظهرت أكثر من مرة في لحظة قصيرة.
“ كيف لي أن أعود من دونك؟“
“ثيو …”
ثم ما لبث أن طبع قبلة أخرى على شفتيها.
قبلة طويلة في زقاق خالٍ من الناس، احتشدت فيها كل مشاعر الشوق.
***
“ التقيا؟ ليس هذا فحسب، بل من دون حتى ذرة تردد؟!”
كان فايتشي قد تلقى تقريرًا عن لقاء إيزابيلا وثيو، فانفجر ضاحكًا بسخريةزغير مصدق.
“ ألم يكن من المفترض أن يكون عشاء بيت ماكا غدًا؟“
“ ظننا أن انقطاع الرسائل أحدث شرخًا بينهما، ولم نتوقع أنهما سيلتقيان قبل ذلك بهذا الشكل… أعتذر.”
“ وهل ينفع الاعتذار؟ الخطأ قد وقع بالفعل!”
نقر فايتشي لسانه بضيق.
من المعتاد أن تقيم بيوت النبلاء مآدب شكر لقواتها قبل حفل النصر، وقد تأكد أن عشاء بيت ماكا سيكون مساء الغد.
وكان فايتشي ينوي لقاء إيزابيلا قبل ذلكزمجددًا وبطريقة تبدو عفوية كما في المرة السابقة، فأمر أحد رجاله بمراقبتها.
لكن المفاجأة أن ما عاد به الرجل كان مشهد لقائها مع ثيو.
“ وكان بيت ماكا بالتحديد؟ كان علي أن أتوقع هذا منذ أن رأيت علاقتها بـ باتوكا.”
الضيق أخذ يتسلل إلى صوته.
بعد وقت قصير من لقائه بها في السوق، بدأت تنتشر إشاعة أن بيت ماكا قد ضمّ روحانية جديدة.
حين ظهرت في المقصورة الخاصة بذلك البيت خلال حفل النصر، تأكدت شكوكه.
“ تشير التحقيقات إلى أنها ذهبت إليهم أولاً.”
“ اكتشفت أنها روحانية، فذهبت إليهم تطلب الدعم؟“
“ يبدو كذلك.”
“ ولمَ بيت ماكا تحديدًا؟“
“ ربما لأنها تعرف أن ثيو ينتمي إلى وحدتهم، من خلال المراسلات التي دامت عامين.”
تنهد فايتشي وهو يسند ظهره إلى المقعد، مستاءً من تحليلات كارتر.
“ إذا انقطعت الرسائل، ألا يُفترض أن تظن أنه تخلّى عنها؟“
“…….”
“ ومع ذلك، تهرع إلى بيت النبيل الذي ينتمي إليه، وتطلب أن تصبح روحانية فيه، بل وتسبقه إلى اللقاء دون انتظار العشاء الرسمي؟ هل بإمكانك استيعاب هذا؟“
انقطعت الرسائل تحديدًا في الوقت الذي بدأت فيه الصحف تتحدث عن ثيو كبطل حرب مرشح لنيل لقب نبيل.
أي شخص عاقل كان سيظن أن طموحه ابتلعه، وأنه تخلّى عنها.
حتى لو لم تشعر بالخيانة، كان عليها أن تشكّ على الأقل.
“ لو أنها فعلت ذلك بدافع الانتقام، لكان الأمر مفهومًا.”
لكن تصرفاتها لا تشبه من يسعى للانتقام.
فمن يسعى للثأر لا يرتمي في حضن من خانه.
“ ثم إن قصدها بيت ماكا للانتقام سيكون تصرفًا غريبًا.”
الأجدر بها أن تتجه نحو الطرف المعارض، أي فايتشي نفسه.
“ فتاة من العامة، كم يمكن أن تعرف عن تعقيدات القوى السياسية؟ ذهبت إلى أول بيت تعرفه، لا أكثر.”
فتاة بسيطة وساذجة من الريف، ليس إلا.
“ ولهذا أيضًا تأثرت بتلك المرأة باتوكا.”
لم يكن لديها عقل يحسب التفاصيل.
لكن… ما هذا الشعور المزعج؟
‘ أنا لا أعرف هذا الرجل، هذه أول مرة أراه.’
تذكّر كيف تجاهلت وجوده تمامًا، واختارت أن تشكو لباتوكا كأنها لا تدري أنها تتحدث أمام أمير.
رغم كل ما يحيط بها من هيبة العاصمة والنبلاء، لم يظهر عليها أثر الارتباك.
هي بالتأكيد فتاة ريفية، لكن…
هناك شيء لا يبعث على الراحة.
“ خروج الأمور عن الخطة أمر لا أطيقه…”
وكان فايتشي يثق بحدسه.
وما شعر به من قلق تجاهها، لم يكن ليسمح له بتجاهله.
“ سيتضح كل شيء في حفل النصر.”
في ذلك الحفل، سيتأكد من حقيقتها، ويقرر مصيرها.
“ وإن كانت قد تلوّثت كثيرًا بروح بيت ماكا بحيث لا يمكن ضمها إليّ، فسأُسقطها تمامًا.”
ليست ذات قيمة تجعله يتكلف عناء تطهيرها وإعادة تشكيلها.
“ لكنها على الأقل روحانية من المستوى المتوسط.”
“ ولهذا السبب تحديدًا، لا يجب أن أتركها بين يدي بيت ماكا.”
قد يكون التخلي عنها مؤلمًا، لكنه لن يسمح لقوة كهذه أن تعزز جناح ولي العهد.
“ أبلغ الكونت موتكان أن يستعد جيدًا لحفل النصر.”
وعند ذكر اسم موتكان، أدرك كارتر ما الذي يدبّره فايتشي.
مرّت في ذهنه لحظة إحساس أن ما يخطط له قذر للغاية.
لكنه لم يكن في موقع يسمح له برفض الأوامر.
“…أمرك .”
ـــــــ
ترجمة : سنو
الحسابات صارت تنحذف من الواتباد ، وإذا مالقيتو حسابي لا تلوموني فهذول الكوريين يحذفونها ، فمنشان هيك تعو تيليجرام عامله جروب انشر فيه الروايات ملفات وإذا انحذف حسابي مراح ارجع له.
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل : https://t.me/snowestellee
واتباد : punnychanehe
واتباد احتياطي : punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 20"