لن أخدع مرتين [ الفصل 19 ]
بينما كان جوشوا يتحدث، ضاقت عيناه قليلاً.
وعلى الرغم من أن ابتسامته حجبت ملامح وجهه، إلا أن نظراته كانت تراقب إيزابيلا عن كثب.
ورغم أن تلك النظرة قد تكون مزعجة للبعض، فإن إيزابيلا وعلى نحو غير متوقع احمرّ وجهها بشدة حين سمعت عبارة “ المرأة الذي وعدها بالمستقبل.”
“ قال… ثيو هذا الكلام؟“
ثيو الذي لا يحسن التعبير ولا يجيد قول الأمور المحرجة، إن قال ذلك فعلًا، فلا بد أنه يعنيه بصدق.
بل لعلّه لا يراه أمرًا محرجًا، بل شيئًا بديهيًّا لا يستدعي الخجل، لذلك قاله أمام الآخرين بكل بساطة.
لكن تلك الحقيقة الهادئة حرّكت شيئًا عميقًا في قلب إيزابيلا.
‘ ترى، أي حماقة اقترفتها في حياتي السابقة لأضيّع رجلًا كهذا؟‘
شعور بالامتنان والأسى عقد حلقها.
خشية أن تغلبها الدموع، أدارت وجهها بعيدًا، وربتت بخفة على خدّيها بظاهر كفها وهي تشهق بخفة من تأثرها.
“ أين هو… ثيو؟“
سألت وهي تلمح المبنى الكبير خلفهم بعينين متطلعتين.
رغم أنها تعلم أنه غير موجود هناك، لم تستطع كبح أملها الطفيف بأن يظهر فجأة.
“ ثيو ذهب إلى القصر بعد أن استدعاه جلالة الإمبراطور إثر مراسم النصر.”
وما إن قال جوشوا ذلك، حتى استدارت إيزابيلا وغادرت على الفور.
“ شكرًا لك.”
ولم تنس أن تترك له كلمات امتنانها.
“ حسنًا، إلى لقاء آخر.”
“ يا هذا، لمَ تخبرها بذلك…!”
“شش .”
حاول إيدوارد أن يقاطع تحية جوشوا، لكنه قوبل بكلمة حاسمة منه.
“ أنت تعلم جيدًا ما فعلته تلك المرأة بثيو! كم انتظر رسائلها بقلق…!”
“ لكننا لا نعرف ما الذي حدث حقًّا، ولا الحقيقة الكاملة خلف كل شيء.”
“ كانت سترفضه، لكنها طمعت فجأة حين علمت أنه سيُمنَح لقبًا نبيلاً، أليس واضحًا؟!”
استمرت مشادة جوشوا وإيدوارد، لكن إيزابيلا كانت قد ابتعدت عنهم كثيرًا بالفعل.
***
وصلت إيزابيلا إلى القصر الإمبراطوري في وقت وجيز.
كان مدخل القصر المزدان للاحتفال بالنص، يبدو أكثر بهرجة من المعتاد.
‘ كنت أعلم أن الإمبراطور يستدعي أبطال الحرب شخصيًا… لكن لم أكن أعلم أن ذلك يتم مباشرة بعد المراسم.’
لقد حدث هذا في حياتها السابقة أيضًا، لكنها لم تكن تذكر توقيته بالتحديد.
توقفت إيزابيلا حين أصبح بوّابة القصر بمرمى بصرها، وترددت.
فالقصر هو مقر وجود فايتشي، ولم يكن مكانًا ترغب في التواجد فيه.
رغم أن احتمال لقائه ضئيل، فإنها لم تشأ حتى أن تمر به صدفة.
فوضعت القبعة ذات القَب الذي أعطتها إياها آنا بعمق على رأسها، ثم تسللت إلى أحد الأزقة الجانبية.
“ نووم.”
أخرجت نووم من جيبها، وقد كان نائمًا فرفع رأسه فجأة.
كان متخفيًا باستخدام السحر.
“ هل يمكنك مساعدتي في البحث عنه؟“
لم يسبق لنووم أن التقى بثيو شخصيًا، لكنه يمتلك قدرة تعاطف قوية تمكّنه من التقاط صورته الذهنية منها.
أومأ نووم بحماسة، ثم غاص في الأرض واختفى.
وما إن غاب، حتى ازدادت لهفة إيزابيلا أكثر.
رؤيتها له من بعيد في مراسم النصر جعلت شوقها له يزداد أكثر.
وكأنها تذوقت قطعة شوكولاتة ولم يُسمَح لها بابتلاعها.
فأخذت تنتظر بقلق بالغ.
***
كان خمسة من أبطال الحرب من أصحاب القدرات الروحانية يغادرون القصر بعد لقائهم بالإمبراطور.
“ حقًا سيمنحنا ألقابًا نَبيلة؟! لم أكن أتوقع ذلك صراحة.”
كان من المقرر أن تتم مراسم منح الألقاب رسميًا خلال الحفل الذي سيقام احتفالًا بالنصر.
وقد استُدعوا مسبقًا ليُبلَّغوا بذلك ويُهنّأوا شخصيًا.
“ حالته الصحية تبدو مقلقة جدًا.”
“ أجل… قيل إنه لن يتمكن حتى من حضور الحفل.”
في الواقع، كانت صحة الإمبراطور هي الدافع الأهم وراء هذا اللقاء المبكر.
رغم رغبته في لقاء أبطال الحرب بنفسه، فإن وضعه لم يعد يسمح له حتى بالنزول من سريره.
لقد كان يعاني من مرض مزمن لأكثر من عشر سنوات، وازداد سوءًا مؤخرًا.
“ هاها! أما أنت يا ثيو، فقد حصلت على لقب كونت!”
“ كونه روحانيًّا من الرتبة العليا، فهذا أمر طبيعي. مبارك لك!”
بينما مُنِح الأربعة الآخرون ألقابًا من رتبة فيكونت، كان ثيو الوحيد الذي نال رتبة كونت.
فهو ليس فقط الروحاني الأعلى رتبة بينهم، بل الوحيد بينهم الذي يمتلك تلك القوة.
“ سنعود جميعًا إلى مقارّنا، صحيح؟“
توقفوا قليلاً عند بوّابة القصر، وقد بدت مشاعرهم مختلطة.
هؤلاء الخمسة الذين خاضوا الحرب معًا وكانوا جميعًا من أصول بسيطة، جمعتهم رابطة صداقة قوية.
لكنهم جميعًا يعلمون…
أن هذه الأيام لن تدوم.
فكلٌّ منهم ينتمي الآن إلى فصيل نبيل مختلف، وسيأتي اليوم الذي يقفون فيه على طرفي نقيض، بسبب التحزّب السياسي والانتماء الأسري.
“ قبل أن نذهب… ما رأيكم بكأس نحتسيه سويًّا؟ لن نستطيع الاجتماع بسهولة بعد اليوم.”
“ فكرة رائعة.”
كانوا يرغبون في الاستمتاع بهذه اللحظات، طالما أنها لا تزال ممكنة.
وبينما تبادلوا الأحاديث عن الحانات الشهيرة في العاصمة، انسحب ثيو جانبًا.
“ عذرًا، هل تسمحون لي بالانسحاب الآن؟“
“ هاي، ثيو! أنت مركزنا، كيف تنسحب الآن؟!”
“ عندي أمر بالغ الأهمية عليّ إنجازه.”
“ همم، هل هو أمر طارئ؟“
“ جداً.”
“ إذًا… لا بأس. إن انتهيت مبكرًا، لا تتردد في اللحاق بنا!”
أومأ له الأربعة بوداعٍ ودّي، ورحلوا وهم يشعرون ببعض الأسى.
وبقي ثيو وحده خارج بوّابة القصر، يدعك جبينه بانزعاج.
ما يشغله الآن أهمّ بكثير من التهاني أو الشراب.
‘ بيلا…’
في مراسم النصر، كان فرحُه برؤيتها طاغيًا، فلم يجد وقتًا ليفكر جيدًا.
‘ ما الذي تفعله في العاصمة؟‘
‘ المقاعد في الطابق الثاني… أليست مخصصة للنبلاء؟‘
وفوق هذا كله، فإن المكان الذي كانت فيه إيزابيلا، كلما تذكّره ثيو الآن بدا له غريبًا للغاية.
لم يستطع ثيو كبحَ ظنٍّ خطر له.
‘ هل يُعقل أنها أصبحت روحانية؟‘
كان يعلم منذ زمن أن لإيزابيلا ميلًا فطريًا نحو الأرواح؛ فهي كانت ترى الأرواح المتخفية، وهذا لا يحدث إلا لمن يملكون تلك القدرة.
لكن ثيو لم يكن يريد لها أبدًا أن تصبح روحانية.
لذلك لم يخبرها أن رؤيتها للأرواح الشفافة تعني امتلاكها لتلك الموهبة.
‘ كنتُ أتمنى أن تعيش عمرها من دون أن تدري بذلك.’
لكن يبدو أن تلك الأمنية لم يكن لها أن تتحقق.
“هاه …”
تنهد بعمق، وقد اختلطت مشاعره بالقلق والانزعاج.
أن تعيش كروحانية في الإمبراطورية يعني الانخراط في المجتمع الأرستقراطي، وذلك عالم شاق ومليء بالمخاطر.
وثيو الذي خبر ذلك منذ صغره، كان يُخفي قوّته دومًا.
كان يحلم بأن يختبئ بعيدًا في الريف برفقة إيزابيلا متخفيًا هو وهي عن العالم بكل ما فيه من تعقيد.
لكن كل ذلك انهار حين اندلعت الحرب.
حتى في خضم المعارك، حاول ثيو إخفاء هويته كروحاني، لكن عند اقترابه من الموت، أفصحت الأرواح عن وجودها دون إذنه.
والآن وقد أصبحت هي الأخرى روحانية، لم يعد هناك مجال للهروب.
وضع ثيو يده على كتفه حيث توجد ندبته.
‘ لا بد أن ذلك كان يؤلمها…’
تذكّر كيف كانت تنظر إلى كتفه في الحلم بعينين حزينتين.
‘ آه… لأي بيت أصبحتِ تابعة كروحانية؟‘
أن تكون في طابق النبلاء خلال مراسم النصر لا يعني إلا شيئًا واحدًا:
أن أحدهم قد اكتشف موهبتها وأخذها إلى جانبه.
في تلك اللحظة الفوضوية، لم يرَ ثيو سوى إيزابيلا نفسها، ولم يلحظ لمن تعود المقصورة التي كانت فيها.
هل كان اليسار من نصيب ولي العهد؟ أم اليمين؟
لم يكن مركزًا كفاية خلال الحفل ليعرف ذلك.
‘ ليت الأمر كان مع ولي العهد.’
كان كل ما يرجوه ثيو ألا تكون قد ذهبت إلى أحد الفصائل المعارضة لأسرة الماركيز ماكا.
فلو أصبحت خصمًا له في ساحة السياسة أو الصراع، لكان ذلك أشد قسوة عليه من الموت نفسه.
فهي الأمل الوحيد الذي تبقى له بعد أن خسر كل شيء.
‘ لا بد من زيارة نقابة المعلومات.’
ففي عالم كهذا، ظهور روحاني جديد يعد دائمًا حدثًا يستحق المتابعة.
ولدى نقابة المعلومات القدرة بالتأكيد على معرفة إلى أي بيت نبيل انضم هذا الروحاني الجديد.
لكن قبل أن يهمّ بالتحرك…
بيييك—!
صدر صوت غريب، وشعر بشيء يشدّ طرف سرواله بقوة.
“…؟ “
انحنى ثيو، فإذا به يرى هامسترًا صغيرًا.
‘ روح؟‘
بما أنه روحاني من المستوى الأعلى، كان ثيو يميز بسهولة طاقة الأرواح، فعرف أن ما يراه هو نووم.
رغم أن نووم كان متخفيًا، إلا أن ثيو استطاع رؤيته دون عناء لأنه روحاني المستوى الأعلى، والأرواح من الدرجات الدنيا لا تُخفي طاقتها عنه.
‘ روح يبدو أنه في عقد…’
وما إن جذب انتباه ثيو، حتى انطلق نوم مسرعًا باتجاه مكانٍ ما وهو يلمع فرحًا.
لكنه لم يبتعد كثيرًا وتوقف.
ثم عاد يركض نحو ثيو من جديد، وشدّ بنطاله مرة أخرى.
بعدها أسرع بالركض مجددًا إلى الأمام.
لكن ثيو بقي واقفًا، يراقبه في صمت.
وإذ لم يفهم ثيو مغزى تصرّفه، بدأ نوم يصدر أصواتًا غاضبة “ تشيك! تشيك!” ، ثم ركض نحوه مجددًا وجذب بنطاله بشيء من القوة.
حتى أن ساق ثيو تحركت قليلًا.
‘ ما الذي يريده؟‘
عندها، قرر ثيو أن يتبعه.
كان نووم يلتفت إليه كل بضع خطوات ليطمئن أنه لا يزال يلحق به، ويتجه نحو مكانٍ محدد.
ثيو الذي يعرف طبيعة الأرواح جيدًا، أدرك أن نووم لا ينوي أذيته.
فلو كان ينوي ذلك حقًا، لما جذبه بهذه القوة الضعيفة، بل لكان رفعه ودوّره في الهواء.
وتصرّفه هذا، مع وجهه المنتفخ غيظًا، يعني أن صاحبه أرسله إليه بنية طيبة.
وهذا وحده كان كافيًا ليثق ويلاحقه.
فليس من السهل خداع روحاني من مستواه.
هكذا، وصل إلى زقاق غير بعيد عن بوّابة القصر الملكي.
وفي نهاية الزقاق المظلم، كان هناك شخص ما يستند إلى الحائط.
وبمجرد أن لمح ثيو خيال ذلك الجسد، بدأ قلبه بالخفقان بقوة.
كما لو أن حدسه أخبره مَن تكون.
قفز نووم بخفة إلى كتف الشخص الذي كان يعتمر قلنسوة تغطي رأسه بالكامل.
وما إن فعل، حتى استدارت تلك الشخصيّة نحوه.
ثم التقت أعينهما تحت ظلّ القلنسوة.
ولم تمنحه الفرصة ليتفاجأ، إذ ركضت نحوه على الفور.
وارتمت في حضنه، لتسقط القلنسوة عن رأسها، وتنطلق خصلات شعرها المجعّدة.
“تيو !”
ــــــــ
ترجمة : سنو
الحسابات صارت تنحذف من الواتباد ، وإذا مالقيتو حسابي لا تلوموني فهذول الكوريين يحذفونها ، فمنشان هيك تعو تيليجرام عامله جروب انشر فيه الروايات ملفات وإذا انحذف حسابي مراح ارجع له.
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل : https://t.me/snowestellee
واتباد : punnychanehe
واتباد احتياطي : punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 19"