لن أخدع مرتين [ الفصل 18 ]
مهما فكّر بالأمر، فلا مبرّر لأن تسأله تلك الفتاة في الحلم إن كان ما يجري مجرد حلم.
“هاه …”
صار يشعر بالخوف والضيق كلما فكّر في إيزابيلا.
وفيما كان صدره يضيق مجددًا بالقلق والاضطراب، إذا بصوت نسائي يخترق الضوضاء من حوله، كان حادًّا وواضحًا:
“ ثيــو!!”
صوتٌ يعرفه جيدًا.
هل يتخيل ذلك من شدة اشتياقه؟
أم أن تكرار ذاك الحلم العجيب بدأ يتلاعب بعقله؟
لا، لم يكن مخطئًا. لقد كان صوتها حقًّا.
رفع ثيّو رأسه كمن أُسِر بلحظة،
فرآها…
رآها بوضوح وسط آلاف الحشود.
كأنها وحدها كانت تتلألأ هناك، تمامًا كما في ذلك اليوم قبل عامين حين رحلت بخطوات ثقيلة.
وتمامًا كما ظهرت له في الحلم… أكثر نضجًا، وأكثر جمالًا يأخذ الأنفاس.
“لقد نجت …”
لقد نجت… كانت بخير.
أحسّ ثيّو بأن كل الخوف الذي كان يملأ كيانه قد تبخّر دفعة واحدة.
ومنذ انقطعت رسائلها، ظلّ جسده متصلّبًا وكأنّه قد تجمّد، لكنّه الآن بدأ يسترخي ببطء.
“بيلا …”
إيزابيلا الحبيبة…
اختفى ضجيج الجماهير والمراسم والتعقيدات التي تنتظره…
لم يبقَ في عالمه سواها.
“ يقولون إن خطيبة سام من الفيلق المجاور خانته، ويبدو أنه انفصل عنها.”
“ حتى ثيّو لم يسلم من الفراق على ما يبدو.”
“ سنتان كفيلتان بأن تغيّر أيّ إنسان.”
هكذا كانوا يتهامسون من حوله يوم توقّفت رسائلها.
كان من المستحيل ألّا يتأثّر بكلامهم، حتى لو كان واثقًا أن إيزابيلا ليست من هذا النوع.
فالقلق، حين يتمكّن من القلب، لا يتركه بسهولة.
لكن ما إن رآها، ما إن ابتسمت له بتلك الابتسامة المشرقة، شُفي كل شيء.
ترى… هل كانت تعرف إلى أيّ حدّ جفّ روحه خلال الأشهر الأربعة الماضية دون رسائلها؟
ومع ذلك، لم يشعر تجاهها بأيّ عتاب.
لأنها إن قصّرت، فلا بدّ أن لها عذرًا وجيهًا.
فهو يثق بها بلا تردّد.
ابتسمت له إيزابيلا… ابتسامة ساطعة تخجل منها الشمس.
وإذا بقلبه الذي صار صحراء يُروى بمطرها.
“ ثيّو! أنا حقًا أحبك!”
كانت دائمًا هناك…
“ عندما أكبر، سأتزوج ثيّو!”
كانت من أعاد له معنى الحياة حين فقد كل شيء.
“ ثيّو! أنا هنا!”
وما زالت خلاصه الوحيد.
“ ثيّو.”
استفاق ثيّو من شروده على صوت ليكاردو يناديه.
“ ما بك؟“
توقّف ثيّو دون أن يشعر، مما أوقف الموكب خلفه وأثار استغراب الجميع.
“ أعتذر.”
فدفع الحصان مجددًا، واستأنف السير.
وعادت المسيرة إلى هدوئها، وكأن شيئًا لم يكن.
لكن ابتسامة صغيرة ظلّت مرتسمة على شفتي ثيّو، لا يستطيع أن يخفيها.
***
“ ماذا؟! غير موجود؟“
وصلت إيزابيلا إلى قصر عائلة الماركيز وطلبت من أحد الجنود أن يستدعي ثيّو.
كان من المقرّر أن تُقام هذه الليلة مأدبة احتفالًا بالنصر، تُكرَّم فيها الجنود.
وبما أنّ ثيّو من مرافقي ليكاردو، فحضوره كان أمرًا متوقّعًا.
لكن إيزابيلا لم تكن تملك صبرًا لتنتظره حتى الليل.
لقد انتظرت الحرب لعامين، وإن حسبنا حياتها السابقة، فقد انتظرته لأكثر من عشر سنوات.
بالنسبة للآخرين، قد لا تعني تلك الساعات القليلة شيئًا، لكنها بالنسبة لها كانت عمرًا.
تحمّلت كل ذلك، تحبّه لكنها لا تستطيع التعبير عن حبّها، كانت على شفا الانهيار.
مجرد رؤيته للحظة في موكب النصر، أشعرها بالطمأنينة.
فكيف سيكون شعورها إن رأته عن قرب؟
رأته في الأحلام صحيح، لكن المشاعر تختلف.
والآن وقد صارت لا تعرف حتى معنى تلك الأحلام، صار كل ما تريده أن تراه بعينيها.
“ نعم، ليس موجودًا الآن.”
أجابها الجندي بانحناءة متأسّفة.
أشاحت إيزابيلا بيدها، لكن وجهها ظلّ متجهّمًا.
‘ أين ذهب إذًا… ؟‘
كان من المفترض أن يبقى الفيلق في القصر حتى موعد العشاء.
فكيف يكون تيّو قد غادر؟
وفي تلك اللحظة، تدخّل صوت هادئ في الحديث:
“ إذا كنتِ تبحثين عن القائد المساعد ثيّو، فهو الآن في القصر الإمبراطوري.”
“ هاي! من تظن نفسك لتتحدّث بهذا الشكل؟!”
“ لا تقلق، لسنا في ساحة معركة، وما موقع ثيّو بسرّ عسكري يستحق الإخفاء؟“
كان الصوتان المتجادلان لرَفيقَي ثيّو.
تفاجأت إيزابيلا عند رؤيتهما، لكنها شعرت بألفة غريبة رغم أنها لا تعرفهما حقًّا.
“ هل نسيت أننا يجب أن نكون دائمًا حذرين؟ أحمق! تظن أن المدينة آمنة؟“
“ اهدأ، هنا ليست أرض حرب. لا يجوز أن نثير المشاكل أو نشهر السلاح.”
أحدهما كان عابس الوجه غاضبًا، والآخر هادئًا يحاول تهدئته.
أما الثالث، فكان يراقبهما بصمت.
الثلاثة، الذين يُعرفون بأنهم لا يفترقون أبدًا، كانوا رفاق ثيّو المقرّبين.
بل إنهم كانوا من أرادت إيزابيلا أن تهديهم بعض الهدايا حين كانت تجهّز مفاجأتها للعودة.
“ أنتِ! من تكونين؟ ولماذا تبحثين عن ثيّو؟!”
صرخ أحدهم، شعره مجعّد وطويل يتدلّى على وجهه، ويكاد يخفي أثر حرق في جبينه.
“أنا …”
“ وجه جميل وتبحثين عن ثيّو؟! هاه! هل جاءك الطمع بعدما صار من أصحاب الألقاب؟ تعتقدين أن ماضيكِ كعامية يتيح لكِ الاقتراب منه؟“
“ماذا …؟ “
تجمّدت الكلمات على شفتي إيزابيلا، مصدومة من سوء الفهم.
“ لا، أنا لست…”
“ تظنين أننا لم نرَ مثل هذا من قبل؟ ثيّو طيب، لذلك أمثالكِ يلتصقون به! لكنني لن أتركك…”
“ كفى يا إيد. هذا يكفي.”
قاطع أحدهم ذلك الغاضب، ومنعه من الاسترسال.
كان شابًا بشعر أزرق سماوي، يعكس طيفًا من الهدوء والوداعة، وقد ربط خصلاته الطويلة بخيط رفيع.
“ لا أعتقد أنها من هذا النوع.”
“ وماذا عن الألوان على وجهها إذًا؟!”
صرخ إيد غاضبًا غير مقتنع، بينما التفت صاحب الشعر السماوي إلى إيزابيلا بابتسامة لطيفة:
“ أعتذر نيابة عنه.”
كان صوته هادئًا، دافئًا إلى أبعد حد.
“ هذا الفتى لا يُجيد اختيار كلماته أحيانًا، لكنه لا يقصد السوء. كل ما هناك أنه يقلق على رفيقنا ثيّو.”
ومع لطف كلماته وابتسامته التي بدت وكأنها خرجت من قصة خيالية، بدا مختلفًا تمامًا عن إيد.
بفضله، تمكّنت إيزابيلا أخيرًا من إرخاء كتفيها المشدودَين.
“ أعلم ذلك… أعلم كم تحبّون ثيّو وتخافون عليه.”
ارتفعت حواجب الرجال الثلاثة قليلًا عند ردّها، ونظروا إليها بنظرات أكثر تدقيقًا وتمعّنًا.
“ كان يحدثني كثيرًا عنكم في رسائله.”
“ رسائل… ؟“
“ هاه؟ رسائل؟ مهلاً، إذا كانت رسائل، فهذا يعني أنكِ…”
“ الشاب ذو الشعر الأزرق السماوي، المجعّد قليلاً، لا بد أنك جوشوا؟! وذاك صاحب الصوت المرتفع، أنت إيدوارد، أليس كذلك؟“
كانت قد قرأت في رسائل ثيّو أن اسم إيدوارد لا يشبه شخصيته أبدًا.
فهو اسم أرستقراطي أنيق، لكن صاحبه كان أشبه بجندي صلب خشن، كلامه حاد وأفعاله فظّة.
والآن بعد أن رأته بنفسها، تأكّدت من وصف ثيّو.
‘ في حياتي السابقة، لم تتح لي حتى فرصة رؤيتهم عن قرب، أما الآن، فأنا أتحدث معهم!’
أحست بفيض من المشاعر المتداخلة.
حين رأتهم، لم تستطع منع نفسها من التوتر.
ففي حياتها السابقة، كانوا يكرهونها.
كانوا يرمقونها بنظرات احتقار حتى إن مرّت بهم من بعيد.
فهم الذين شهدوا عن كثب حجم الألم الذي تسبّبت فيه لثيّو.
لكنها بسبب تلك الذكريات، شعرت بالهيبة منهم وفي الوقت نفسه… قدّرتهم أكثر.
لكن… أحد هؤلاء الثلاثة خائن.
حتى هي نفسها لم تصدّق الأمر، فهل كان ليكاردو وثيّو ليصدّقاه لو علما؟
وبينما بدأت تلك الذكريات تطفو على سطح قلبها، قطع جوشوا أفكارها بابتسامة أخرى:
“ تبدين مطّلعة جيدًا.”
“ بالطبع. رسائل ثيّو كانت مليئة بذكركم. كان يعتبركم رفاقًا أعزاء ويقدّركم كثيرًا.”
قالت ذلك وهي تراقب تعابير وجوههم، محاولة أن تلتقط أيّ تلميح يمكن أن يدلّ على الخائن بينهم.
لكن كما توقّعت، لم يكن من السهل تمييز الخائن بهذه البساطة.
“ والشخص الواقف خلفكم… لا بد أنك اللورد دايفيد باتوكا؟“
“ ناديني فقط دايفيد.”
كان ذلك أول ما ينطق به منذ ظهوره، وردّ بكلمات مقتضبة.
هو شقيق كاساندرا باتوكا، والابن الأكبر لعائلة باتوكا النبيلة.
شعره الزهري كان مطابقًا لشعر كاساندرا، وحتى قامته الطويلة تشبهها، لكن خلافًا لها، كان دايفيد روحانيًا متوسط الرتبة، يستطيع التواصل مع أرواح الرياح.
كانت تظن أنه سيعود إلى منزل عائلته، لكنه بقي في القصر مع رفاق ثيّو، ما يدل على متانة العلاقة التي تجمعهم.
“ تشرفت بلقائكم جميعًا. أنا إيزابيلا.”
“ إذًا كنتِ أنتِ! صاحبة الرسائل!”
هتف إسدوارد بصخب، بينما تجاهله جوشوا وأجاب بابتسامة وهو يتلقّى تحيتها:
“ سمعنا عنكِ كثيرًا يا آنسة إيزابيلا. كان ثيو دائمًا يقول إنكِ المرأة التي وعدها بالمستقبل.”
———–
ترجمة : سنو
الحسابات صارت تنحذف من الواتباد ، وإذا مالقيتو حسابي لا تلوموني فهذول الكوريين يحذفونها ، فمنشان هيك تعو تيليجرام عامله جروب انشر فيه الروايات ملفات وإذا انحذف حسابي مراح ارجع له.
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل : https://t.me/snowestellee
واتباد : punnychanehe
واتباد احتياطي : punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 18"