لن أخدع مرتين [ الفصل 17 ]
رغم أن الفتاة ذكية، إلا أنها تبدو شديدة التأثر بعواطفها.
“ نعم، لا بأس.”
أجابت إيزابيلا بعينين مليئتين بالتطلّع والأمل.
وذلك البريق الطفولي في عينيها جعل أندريا يبتسم بصمت، ثم آثر ألا يقول المزيد.
صعد الاثنان إلى موضعهما المخصص.
أماكن النبلاء لم تكن على الأرض، بل كانت على منصة ثنائية الطابق أُقيمت خصيصًا لهذا الحدث.
وما إن وصلا إلى الأعلى، حتى اتّضح مدى ضخامة الحشد الذي ملأ الشوارع.
كما بدت ملامح نبلاء آخرين متربعين على منصات مشابهة، يرمقون إيزابيلا بنظرات خاطفة منذ لحظة ظهورها برفقة مركيز ماكا.
“ لابد أنها هي.”
“ حقًا؟ أهذه هي مستدعِية الأرواح الجديدة؟ لا يبدو أن لها أية قوة.”
تناهت إلى سمعها همسات متناثرة.
“ على الأرجح من المستوى الأدنى، أليس كذلك؟“
“ لا يمكن الجزم. ألم يظهر في السابق بعض النادرين من المستوى المتوسط بين الأستثناءات؟“
“ لكنهم كانوا واحدًا من كل عشرة بالكاد. إن كانت متوسطة، فهذا يعني أن ماركيز ماكا حالفه الحظ هذه المرة. فهم بحاجة ماسة حتى لأضعف مستدعٍ.”
“ هل ستتمكن من الصمود؟ لا أظن أن الأمير سيقبل بوجود مستدعٍ للأرواح في عائلة ماكا.”
“ غالبًا ما سيُنتزع منهم قريبًا، أو… يحدث كما في المرة الماضية.”
هنا، خفتت أصواتهم فجأة.
فقد سبق أن ظهر مستدعٍ للأرواح لدى ماركيز ماكا من قبل، عُثر عليه في أحد دور الأيتام التي كانوا يدعمونها.
ولكن لم يمضِ وقت طويل حتى وُجد جثة هامدة.
قيل إنه انتحر تحت وطأة ضغوط النبلاء، بينما لم تُستبعد أيضًا فرضية القتل، رغم عدم وجود دليل.
ولم يُفصح أحد بذلك صراحة، لكن جميعهم اشتبهوا بأن الأمير فايتشي كان خلف الحادثة.
“ لا تعيريهم اهتمامًا.”
قال أندريا بصوت منخفض، خشيَ أن تتأثر إيزابيلا بما سمعت.
“ وضعت حولك نخبة من الحراس.”
طمأنها.
“ أنا بخير.”
أجابت إيزابيلا بابتسامة هادئة، وقد استشعرت قلقه.
“ أعرف جيدًا أن كلام من يهوون الثرثرة لا يُؤخذ على محمل الجد.”
بعبارة لبقة، أشارت إلى أن ما يُقال عنهم ليس إلا ثرثرة فارغة.
ضحك أندريا بخفة من فطنتها.
وفي تلك اللحظة، سُمِع صوت سخرية قصيرة من المنصة المجاورة.
“كيك .”
نظرت إيزابيلا، لترى كاساندرا جالسة هناك.
عائلة باتوكا التي تنتمي إليها كاساندرا هي الحليف الأقوى لعائلة ماركيز ماكا، لذا كانت منصتهم قريبة جدًا.
كانت ترتدي سروالًا يخالف ما ترتديه بنات النبلاء، متربعة على المقعد وقد رفعت ساقيها فوق الحاجز دون اكتراث.
“ الفتاة هناك… تفهم الأمور جيدًا.”
قالت كاساندرا وكأنها ترى إيزابيلا لأول مرة.
“ وأنتِ تسيرين الآن، فلا حاجة للالتفات إلى نباح الكلاب الضالة التي لا تملك رأيًا خاصًا.”
فاشتعلت وجوه أولئك الذين كانوا يتهامسون، غضبًا وخجلًا.
“ يا لها من فتاة فظة!”
احتجوا، لكن احتجاجهم لم يُجدِ.
فمهما قالوا، كانت كاساندرا تعتبر كلامهم نباحًا لا أكثر.
تلاقى نظر إيزابيلا وكاساندرا للحظة.
ابتسمت إيزابيلا وغمزت لها امتنانًا، لكن كاساندرا أظهرت ذهولًا مبالغًا فيه وأدارت وجهها بعيدًا.
غير أن أذنيها المحمرّتين خانتها.
***
رغم أن الهمسات ما زالت تتردد في الخلفية، وأن عيونًا كثيرة كانت تراقبها، تجاهلت إيزابيلا كل ذلك.
ثبتت بصرها على الطريق الممهّد لموكب النصر.
وفجأة، دوى صوت هتاف بعيد:
“ واااه!”
استدارت سريعًا.
بدأت طلائع الموكب تظهر عند طرف الطريق الكبير.
كان الجنود يسيرون بشموخ، حاملين راية الوطن عالية.
تردد صوت الطبول “ دوم، دوم” يقترب شيئًا فشيئًا.
وامتزجت حوافر الخيول بصليل الدروع، لكن أصوات الهتاف غطّت كل شيء.
خفق قلبها بشدة، وارتجفت أصابعها.
أطبقت يديها محاولة تهدئة نفسها، وأخذت تبحث بعينيها عن راية عائلة ليكاردو، فهي تعلم أن ثيو كان ضمن كتيبته بل يُعد يده اليمنى.
فور رؤية الراية، ستتمكن من تحديد مكانه.
لكن الرايات كانت كثيرة أكثر مما توقعت، وتحديدها بدقة صعب.
‘ ماذا لو لم أره ومرّ دون أن أعرف؟‘
صحيح أنها ستلتقيه مساءً في مأدبة العشاء، لكن قلبها لا يطاوعها على الانتظار.
أرادت أن تراه، ولو من بعيد.
أن توصل له أنها موجودة هنا.
‘ في حياتي السابقة، لم أحضر هذا الموكب أصلًا، فكيف كنت سأراه؟‘
وما إن تسلل إليها القلق، حتى تلاشى تمامًا.
فمن بين آلاف مؤلفة من الحضور، وقعت عيناها عليه مباشرة.
لم تكن الراية من دلّها عليه، بل هي التي عثرت عليه بعينها مباشرة.
لم يكن في مقدّمة الموكب كما ظنت، ولا يمتطي حصانًا مميزًا، بل حتى زيه لم يختلف عن باقي القادة.
ومع ذلك، كان وحده من ملأ مجال رؤيتها بالكامل.
وكأنه وُجد فقط لتراه هي.
اختفى كل شيء آخر من حولها، الهتافات، الجموع، حتى الزمن.
لم يبقَ إلا هي وهو.
ثيو…
رغم المسافة، رأته بوضوح مذهل.
في حين كان الآخرون يلوحون ويبتسمون، ظل هو يركب حصانه بوجه خالٍ من التعابير.
كمن يقف على جزيرة معزولة، غير آبه بالهتافات.
وقفته كانت شامخة، وكتفاه العريضان ينضحان مهابة.
‘ كيف لي أن أتخلى عنك؟‘
لقد بدا مختلفًا كثيرًا عن ثيو الذي كان، في حياته السابقة، يبذل روحه لإنقاذها.
نعم، هو رجل رائع بهذا الشكل.
أنت عالمي كله، فكيف لي أن أهجرك؟
أنا من أسقطته…
إلى الهاوية.
ثم إلى الموت.
مرّت أمامها مشاهد من حياتها الماضية، بل وتذكرت وعده القديم:
‘ سأعود حيًّا، أعدك.’
وقد وفى.
في الماضي، كما في الحاضر.
صمد وسط الجحيم، وعاد.
عاد إليها.
‘ نعم… سأكون بانتظارك.’
ذلك الوعد الذي ضاع في الحياة السابقة، أعيد نسجه أخيرًا ولو بعد طول دوران.
كل ما فاتها وكل اعتذاراتها الصامتة اجتمعت معًا في صدرها.
ارتعش أنفاسها، وفاضت مشاعرها حتى لم تعد تحتمل، فنهضت واقفة دون وعي.
تقدّمت نحو الشرفة، وصاحت بأعلى صوتها:
“ ثيـــــو!”
لم تكن تتوقع أن يسمعها وسط هذا الزحام.
لكن، على نحو لا يُصدّق، رفع ثيو رأسه.
نعم، نظر مباشرة إليها.
تلاقت أعينهما.
تسمرت عيناه، وبدت عليه الصدمة.
نبض قلبها تسارع، وعيناها امتلأتا بالدموع.
لم يكن ذاك الثيو المتألم الذي رأته من بعيد، بل ثيو الذي يعرفها، الذي لطالما كان في صفّها.
الشخص الذي اشتاقت إليه حدّ الجنون، دون أن تستطيع البوح بذلك.
رأته يحرك شفتيه.
لم تسمع صوته، لكنها أيقنت أنه قال “ بيلا.”
تلك الكلمة وحدها كانت كفيلة بملء صدرها دفئًا.
ابتسمت… ابتسامة مرتجفة، مفعمة بالشوق، ولكن أيضًا بالسعادة.
ورأته، رأته يُنزل كتفيه المرتفعين، كأن التوتر كله قد زال.
تبادل النظرات وحده كان كافيًا لتبديد كل قلقه.
نظرت إليه بعينين يغمرهما الحب، لكنها سمعت صوت أحدهم يناديه بجواره.
فحرّك حصانه من جديد.
وتحرّك معه الموكب الذي كان قد توقف دون قصد.
ظلت تتابعه ببصرها حتى ابتلعته الحشود.
وظلت واقفة في مكانها حتى أُغلق باب القصر الإمبراطوري إيذانًا بانتهاء الموكب.
ولم تغادر.
فقط… وقفت هناك، تحدّق في المكان الذي اختفى فيه، مكتفية بالسعادة التي منحتها لها تلك اللحظة.
***
وما إن دخلوا العاصمة حتى استقبلهم هدير الجماهير.
رفع الناس رؤوسهم ينظرون إليه، بينما نظر النبلاء إليه من فوق.
وهو… يقف في المنتصف، ليس نبيلًا ولا من العامة.
مرة كان في أعلى القمم، ثم سقط للحضيض.
ثم عاد بطريقة غريبة إلى هذا الموضع الرمادي بسبب الحرب.
كم هي ساخرة هذه الحياة.
كان يريد أن يختفي من العيون، لكن الحرب أجبرته على الظهور مجددًا.
إنه لا يعرف أبدًا ما سيحدث لاحقًا.
الجماهير كانت تهتف، لكن عقله كان خاليًا.
بل مثقلًا فقط بأفكار مرهقة عن المستقبل.
ماذا لو تعرّف عليه أحد النبلاء؟
قد يتمكن من النجاة بنفسه، لكن إن صار ذلك سببًا في أذية إيزابيلا… ؟
مجرد التفكير جعل صدره يثقل أكثر.
لم تصل إليه أية أخبار عنها حتى الآن.
كأن هناك من يتعمّد أن يحجبها عن ناظريه وأذنيه.
وفوق كل ذلك… ذلك الحلم.
ذاك الحلم العجيب جعله أشد ارتباكًا.
إيزابيلا في الحلم كانت كما يتذكّرها.
بل أدق، كأنها قد كبرت عامين فقط منذ آخر مرة رآها.
جميلة وساحرة، تمامًا كما كانت.
ظن أنه مجرد حلم، وهم صنعه الحنين.
لكن …
‘ هذا… مجرد حلم، أليس كذلك؟‘
عندما سمعها تقول ذلك في الحلم، تسلّل إليه الاضطراب.
ثم… استيقظ.
———
ترجمة : سنو
الحسابات صارت تنحذف من الواتباد ، وإذا مالقيتو حسابي لا تلوموني فهذول الكوريين يحذفونها ، فمنشان هيك تعو تيليجرام عامله جروب انشر فيه الروايات ملفات وإذا انحذف حسابي مراح ارجع له.
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل : https://t.me/snowestellee
واتباد : punnychanehe
واتباد احتياطي : punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 17"