“آه… ظننت أن هذا هو الفرع الثاني. لا عجب أن الطريق كان طويلاً من الساحة!”
لقد تركت الفرع الثاني الذي لا يبعد سوى عشر دقائق سيراً من الساحة حيث التقيا، وبدلاً من ذلك مشت أكثر من أربعين دقيقة إلى الطرف الآخر من المدينة حيث يقع الفرع الثالث.
“وكأن المقاهي السحرية لا تكاد تعد ولا تحصى…”
حاولت أن تجد لنفسها عذراً بأن الفروع كثيرة ومتشابهة، لكنها في النهاية لم تستطع إنكار أن الخطأ خطؤها.
“أنا آسفة… جعلتك تمشي كل هذه المسافة بلا داعٍ.”
ابتسم ثيو وهو يمسك بمعصميها وينزل يديها قائلاً:
“لا بأس. أنت تعلمين أني أحب السير معك.”
كان وجهها وقد أوشكت الدموع أن تغمره جميلاً للغاية، حتى كاد أن ينفجر ضاحكاً لكنه كبح نفسه.
“لكنني كنت أريد أن نمشي في الحديقة لاحقاً، لا أن نقوم بجولة سياحية من طرف العاصمة إلى طرفها الآخر…”
تنهدت إيزابيلا بعمق وهي تلوم نفسها من جديد:
“كان عليّ أن أستنتج أن الفرع بجانب الحديقة هو المقصود… حقاً ما أغباني.”
لم يتركها ثيو تغرق في تأنيب الذات أكثر من ذلك، وقال بلطف:
“على الأقل استمتعنا برؤية أماكن جميلة في الطريق، أليس كذلك؟”
“أ… أجل؟”
أفاقت إيزابيلا قليلاً على كلماته، وتذكرت أن أمامهما ما زال الكثير من الوقت ليقضيانه معاً، فلا يليق أن تفسد الموعد كله بهذه الكآبة.
“إن كان الأمر كذلك… فهذا يبعث على الارتياح.”
“قلتِ إن المحطة التالية هي الحديقة؟ ما رأيك أن نغيّر الطريق قليلاً بدل العودة من نفس المسار؟”
“موافقة! فقط… ألن تتعب قدماك؟”
سألت بحذر، إذ ما زالت تشعر بالذنب.
“لا على الإطلاق.”
فهو أقوى منها جسداً بما لا يقاس.
“وأنتِ يا بيلا؟ هل أحملك على ظهري؟”
“ماذا تقول؟! ومعصمك ما زال يؤلمك؟”
“قلت لكِ إنني بخير.”
“كلا، أنا التي لن أرتاح إن رأيتك ترهق نفسك. وإن أعيتني الطريق فسنطلب مساعدة كلاي.”
“صحيح…”
لم يصرّ أكثر، وإن كان في سره آسفاً لأنه أضاع فرصة لحملها. لكنه سرعان ما وجد عزاءه، فقد أمسكت بذراعه تشبكها إلى جانبها بعزم كي لا تؤلمه معصمه.
ظلّا يتحدثان ويضحكان حتى عادا إلى الساحة التي انطلقا منها.
“كل هذا مشي، والآن صارت الرابعة والنصف.”
تنهدت إيزابيلا وهي تحدق في نافورة الساحة. فقد أضاعا ساعة ونصفاً كاملة بسبب خطأ في الفرع.
الجانب الوحيد المريح أنها بذلك منحت كاساندرا متسعاً من الوقت لترتيب الأمور. غير أن ذلك بدا الآن بلا طائل.
“بعد أن طُفنا على العاصمة كلها، أليس غريباً أن نذهب لنمشي في الحديقة أيضاً؟”
سألت بتردد.
كان في نيتها أن كل شيء سيكون معداً هناك:
الإضاءة، الأجواء… لكن فكرة السير ساعة أخرى بدت وكأنها تدريب إجباري أكثر من كونه موعداً.
“إن كان لا يزعجك، فأنا…”
غرغرت معدتها فجأة فقطعت كلام ثيو.
فوجئ هو، فيما أحنت هي رأسها خجلاً واحمرت أذناها.
“الأمر أنني… لم أتناول الغداء.”
“ماذا؟”
“بعد أن عدت إلى القصر مرتبكة لم أستطع الجلوس في مكاني، وظللت أتنقل حتى قررت تقديم موعدنا من الغد إلى اليوم على عجل. فارتديت ثوبي وخرجت… ولم أجد وقتاً للأكل.”
ظل ثيو صامتاً لحظة وهو يراها تعبث بأطراف فستانها، ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة لا يستطيع كتمانها.
“حقاً… لقد جُننتِ بي.”
كم بدت له جميلة الآن.
“كان عليكِ أن تخبريني. فأنا أيضاً لم أتناول الغداء.”
رفعت رأسها بسرعة وسألته بقلق:
“لم تأكل؟! لماذا؟”
“كنت… أتمرن.”
لم يجرؤ أن يقول الحقيقة: أنه فقد شهيته لأنه لم يستطع الاقتراب منها صباحاً. لكنه لم يستطع أيضاً أن يخدعها.
“لا تقل إن السبب أنا؟”
حدقت في وجهه، ولمّا تأخر عن الجواب وابتسم ابتسامة مترددة، أدركت أن حدسها كان صائباً.
“يا إلهي… سامحني!”
“لا عليك. كان اختياري.”
“أقسم أنني لو استطعت العودة للوراء لكنت صفعت نفسي هذا الصباح. كل خططي المثالية هذه لم تجلب إلا الخراب.”
هزت رأسها بمرارة.
“لو علمت أنك لم تأكل، لذهبت بك إلى مطعم لا إلى مقهى.”
بدا أن خطتها كلها انهارت، والموعد الذي رتّبته بعناية صار أشبه بفوضى مرتجلة.
“أنا بخير. لكن بما أنكِ جائعة، فلنأكل شيئاً.”
“لا، لست…”
غير أن بطنها أطلق صوتاً مدوياً مرة أخرى، ليكون أبلغ من كلامها.
فانفجر ثيو ضاحكاً فيما احمرّ وجهها كحبة كرز.
أمسك يدها بلطف وجذبها قائلاً:
“هيا نشتري بعض الدجاج المشوي بالفحم والفراولة.”
“حسناً…”
وافقت وهي تخفي وجهها، وتركته يقودها إلى شارع المأكولات.
لم يمض وقت طويل حتى التهمت إيزابيلا الدجاج المشوي، ثم شطيرة فلافل، ثم بطاطا مقلية، وحتى نقانق ساخنة.
“ستُصَابين بعسر هضم.”
قالها ثيو وهو يكتفي بسيخ دجاج واحد، يناولها المناديل وزجاجة ماء.
“ألم تأكل غير هذا؟ أشعر أنني التهمت كل شيء وحدي.”
سألته بعد أن أنهت وجبتها بثمرات فراولة وعصير رمان. فأجاب مبتسماً:
“أكلت ما يكفيني.”
“لكنّك قلت إنك لم تتغدَّ.”
“صحيح… لكنني لا أشعر بالجوع.”
هل تدري يا ترى أن مجرد مشاهدته لها وهي تستمتع بالطعام ملأ قلبه وشبعه أكثر من أي وجبة؟
في الحقيقة، كل ما جرى اليوم كان هكذا.
لقد اعتذرت لأنها أخطأت في الفرع وأرهقته بالمشي، لكن بالنسبة له كان ذلك أجمل وقت مشى فيه معها بلا قلق على الوقت.
اهتمامها بجرحه وحرصها ألا ترهقه ذكّراه بأيام الطفولة في دار الايتام، حيث كانت توبخه بنفس الطريقة.
وحتى قولها إنها نسيت الغداء لأنها كانت منشغلة بالتزين للقائه… كان يريد أن يخبرها أنه لا داعي لكل ذلك، لكنه مع ذلك سعد به غاية السعادة.
وكان يعرف جيداً ما تحاول إيزابيلا فعله.
ذلك “الموعد المخطط بدقة”، وتلك “الخطوات المتقنة”… كلها لم تكن سوى وسيلة لتقديم اعتذار مثالي عن سوء الفهم.
لقد كان واضحاً جداً أنها تسعى جاهدة لتنال مسامحته.
لكن ما لم تدركه هو أن قلبه كان قد لان منذ اللحظة التي التقاها في الساحة.
فقد أمضى الأيام الماضية يثقل صدره بالهمّ: كيف سيشرح ما حدث مع الأمير موفيو؟ وكيف سيعتذر لها؟
غير أنه حين رآها وعرف أنها هي الأخرى تؤرقها فكرة الاعتذار، شعر وكأن كل ذلك الثقل قد تبدّد.
بل وأكثر من ذلك…
أنها قضت أياماً وهي تخطط بعناء لموعدهما هذا، وتحزن لأنه لم يجرِ كما أرادت.
كان ذلك الاعتذار بذاته، وكان في الوقت نفسه عزاءً له.
فما أقلقه طيلة الفترة الماضية هو شعوره بأنه تراجع في سلّم أولوياتها، وأنه لم يعد يحتل المكانة التي كان يشغلها في قلبها من قبل.
وكان يختنق من فكرة أنه لم يعد يعني لها الكثير كما مضى.
بل وراوده خوفٌ مبطن من أن يبتعدا شيئاً فشيئاً حتى ينقطعا تماماً.
لم يكن ذلك شبيهاً بالقلق الذي خبره في ساحة الحرب، بل قلقاً من نوع آخر لم يعرف كيف يتعامل معه، فتاه في دوّامته.
لكن حين رآها اليوم، تبدّد كل شيء.
أدرك أن هواجسه لم تكن سوى سراب، تماماً كما ظلّ المحيطون به يقولون له لا داعي للقلق.
فهي أيضاً كانت قلقة وخائفة مثله تماماً.
وعندما تذكّر الكلمات التي تفجّرت من فمها يوم لقائهما في قصر الدوق، أدرك أنها لم تكن إلا انعكاساً لتلك المخاوف والاضطرابات التي شعرت بها هي أيضاً من التباين الطفيف الذي دبّ بينهما.
ولمّا علم أن مشاعره لم تكن من طرف واحد، وأنها كانت تحمل القلق ذاته، ذاب ذلك الخوف داخله كما يذوب الثلج تحت أشعة الشمس.
ومنذ أن بدأ يسير معها في هذا اليوم، شعر أن صدره قد انشرح وأن قلبه استراح تماماً.
كل ما صدر عنها بعد ذلك لم يزدها إلا جمالاً في عينيه.
كان كل لحظة يمضيها معها كاملة في نظره ومثالية لا تشوبها شائبة.
“الموعد هذا من أجلك أنت، فلا يليق أن أستمتع أنا وحدي. هيا بنا، المرة القادمة سيكون شيئاً سيعجبك أنت أيضاً! أعدك بذلك!”
لكن إيزابيلا التي لم تكن تدري بما في قلبه، واصلت جهدها المحموم بحثاً عن وسيلة تسعده وتردّ له اعتباره.
وثيو لم يحاول أن يوقفها.
فهذا الوجه المحبّب، المليء بالبراءة والاجتهاد، أراد أن يظل يراه لأطول وقت ممكن.
****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام كملفات، وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 153"