لن أخدع مرتين [ 12 الجانبي ]
لم يكن الأمر أن إيزابيلا وثيو لم يختلفا من قبل، لكن هذه المرة كان هناك شعور مختلف.
شعور لم يستطع أن يحدده.
وبينما أثقل صدره الضيق، غرق في التفكير العميق وأخذ يعيد تفكيك كل تصرفاته وكلماتها واحدًا تلو الآخر.
وهكذا بدأ يلحظ التغييرات التي طرأت عليه.
وكلما اكتشف وجهًا جديدًا له، تسللت إلى ذهنه فكرة: أيمكن أن تلك التغييرات هي ما لم يرق لإيزابيلا؟
أيمكن أن انشغالها المستمر بالأكاديمية لم يكن إلا ذريعة؟
أيمكن أن ما في الحقيقة أصابها الضجر منه؟
وبالنهاية، هل صار مظهره الجديد هو ما أبغضته؟
لقد تكاثرت الأفكار بلا جدوى، بينما ظلّت المشكلة بلا حل.
“……لابد أنها عرفت أنني وصلت.”
ترك ثيو مائدته من دون أن يُكمل الطعام، وأخذ كأس الخمر في يده واتجه نحو النافذة.
ارتشف جرعة من النبيذ الأحمر وهو يتأمل الحديقة المضيئة بالأنوار البهيّة.
لم يكن يفهم كثيرًا في طعم النبيذ، لكنه شعر أن لا شيء سواه قد يروي عطشه الغريب ذاك.
كان متأكدًا أن خبر وصوله إلى العاصمة قد بلغ مسامع إيزابيلا منذ زمن.
فحتى النبلاء الذين يعرفون جدول أعماله سارعوا بطلب مقابلته، فكيف بها هي أن تجهل؟
بل إن الأرواح التي نشرتها في أنحاء العاصمة أكثر من أن تُحصى، فلا يُعقل أن تفوتها تلك اللحظة.
ومع ذلك، لم يصدر عنها أي رد.
رفع ثيو بصره نحو بوابة القصر البعيدة.
لو كان أحد أرواحها هناك، لكانت قد أخبرتها بمجرد أن وطأت قدماه أسوار العاصمة.
ولو كانت إيزابيلا كما يعرفها، لكانت هرعت إليه في الحال.
لكن البوابة ظلت موصدة.
وقد مضى من الوقت ما يكفي لأن يستحم ويجلس إلى مائدته.
“……هل يجب أن أذهب وأعتذر بنفسي؟”
لكنه كان يرى أن مجرد اعتذار لن يُصلح الجوهر. تمامًا كما أن جرح السيف لا يشفى بلا علاج، حتى لو وضعت فوقه ضمادة.
ولذلك فضّل أن يمنحها الوقت لتصفّي أفكارها.
“آه…….”
إلا أن شعور القلق في قلبه كان يتضخم أكثر فأكثر.
وكان يزداد انزعاجًا من عجزه عن اتخاذ قرار.
فهو الذي اعتاد أن يحسم أوراق الدوقية في لحظات، ويُخمد النزاعات في الاجتماعات بكلمة يجد نفسه مشلولًا أمام أمرٍ يخصّ إيزابيلا.
لقد كانت دومًا أبسط موضوع وأكثرها تعقيدًا في حياته. ولعل ذلك ما جعله عاجزًا عن تركها.
“الأفضل أن أذهب وألقاها.”
وبعد تفكير طويل، حسم أمره: مع طلوع شمس الغد سيذهب إليها.
فحتى إن لم تكن قد رتّبت أفكارها بعد، فالمواجهة خير من الانتظار بلا طائل.
ولم يدرك ثيو أن ذلك التفكير بالذات كان يشبه إيزابيلا أيما شبه.
وأنه على عكس ما ظنّ، لم يتغير إلا ليزداد شبهًا بها يومًا بعد يوم.
ومع طول سنين ارتباطهما، كان لا يزال بينهما متسع للتغير والتشابه أكثر فأكثر.
✦
مع انبلاج الصبح، قصد ثيو قصر إلادور، فاستقبلته هناك مفاجأة.
“ليست في القصر؟”
“نعم، نعتذر يا سيدي.”
كان ذلك جواب سكرتير إيزابيلا الذي قال أن آنسته غير موجودة.
“……أتعرف إلى أين ذهبت؟”
سأل ثيو وهو يحدّق في وجهه، فارتبك السكرتير وأجاب بابتسامة متكلفة وهز رأسه.
“أعتذر.”
كان الجواب غامضًا؛ هل يعرف لكنه لا يجرؤ على البوح؟ أم أنه يجهل حقًا؟
لكن ثيو لم يعنِه التفسير. لم يكن ذا قيمة.
“حسنًا.”
إذ كان يعلم أن لا جدوى من الاستجواب، استدار ليغادر.
لكنه سلّم الرجل شيئًا قبل أن يخطو خارجًا.
“هذا يمكن أن أتركه هنا، أليس كذلك؟”
“أتقصد أن أوصله لآنستي الدوقة؟”
تناول السكرتير الظرف من يده.
وأومأ ثيو إيماءة قصيرة، ثم ألقى بنظره إلى نافذة مغلقة خلفها ستارة تتحرك بخفة.
ظل يحدق فيها لحظة طويلة، ثم واصل طريقه مبتعدًا.
وما إن ابتعد، مسح السكرتير عرقًا باردا من جبينه، ثم رفع بصره إلى تلك النافذة ذاتها.
وإذا بوجه آنسته يطل قليلًا من وراء الستار، بعد أن كانت قد اختبأت حين نظر ثيو.
‘لماذا تكلفني بسرد أكاذيب مكشوفة كهذه……؟’
ابتلع تذمّره بصمت، وسار حاملًا كيسًا ورقيًّا تنبعث منه رائحة الشوكولا العذبة، عاقدًا العزم على تسليمه بسرعة.
أما ثيو وقد ابتعد عن القصر بما يكفي، فقد رفع يده ليضغط على جبهته.
“لا يمكن أن تظن أنني لم أكتشف.”
“كيوو-“
كان ذلك رد ناياس وهو يطل من جيب معطفه.
فمن المستحيل ألا يشعر ثيو بوجود روحها إلى جانبه.
بل إنه فور وصوله إلى العاصمة، أرسل بنفسه واحدًا من ناياس لتكون بقربها.
فكيف لا تعلم؟
كانت في القصر، ومع ذلك ادّعت غير ذلك.
وأيّ تعبير أوضح من هذا لرفض مقابلته؟
“هاه…….”
زفر ثيو زفرة عميقة وضغط على عينيه.
ورأى أن الحلّ الأمثل هو أن يخرج ليتدرّب، فيغسل أفكاره وقلقه بالعرق.
“الأفضل أن أؤجل موعد الغد.”
وقرر أن يؤجل وليمة الغداء التي كان من المفترض أن يجتمع فيها مع ليكاردو.
***
“لا! لا، لا يمكن!”
بعد ساعات قليلة شهقت إيزابيلا وهي تعتصر شعرها بين أصابعها حين وصلها خبر من ليكاردو.
“الأساس كله كان أن يظهر ثيو بحجة الموعد معك! إذا أُلغي ذلك الموعد فخطّتي ستنهار تمامًا!”
“لكن ماذا نفعل؟ الرجل يقول إنه مريض ولا يستطيع.”
“مريض؟ ثيو مريض؟! ماذا أصابه؟ أين؟ كيف؟!”
“……إن كان يهمكِ لهذه الدرجة، فاذهبي بنفسك واسأليه.”
“لا يمكن! هذا مستحيل……!”
كانت قد خططت لهذا الموعد بعناية لتكسب وُده مجددًا وتضع خططًا لمستقبلهما.
لو التقته قبلها فحسب، لانقلبت الخطة كلها رأسًا على عقب، ولكان ما فكرت فيه ذهب هباءً.
“لقد جعلته يرجع هذا الصباح وهو جاء خصيصًا لرؤيتي، كل ذلك لأجل أن نلتقي غدًا!”
“ماذا؟ رجّعته من عندك؟ حتى لا تريه قبل الموعد؟”
اعترفت إيزابيلا وهي تكاد تقتلع شعرها:
“لكنني نسيت أمر ناياس! لقد كان بجانبي طول الوقت، فلا شك أنه عرف أنني في القصر!”
انشغلت بالاختباء حتى غفلت عن أن روحه الصغيرة كانت تلهو إلى جانبها. فكيف لا يعرف ثيو مكانها إذن؟
“ما العمل؟ مصيبة! ألن يظن أنني رفضت رؤيته عمداً؟!”
كل شيء بات فوضى.
“ماذا أفعل الآن؟”
بينما كانت تدور في مكانها قلقًا، جاء صوت ليكاردو هادئًا:
“أولاً، خذي نفسًا عميقًا.”
لكن صوتًا آخر قاطع المحادثة:
“وهل تراها في حالة تسمح بالتنفس أصلاً؟”
كانت كاساندرا بصوتها اللاذع المعهود.
“أيتها الشريكة الحمقاء، ألا ترين أنك خلطت الأولويات؟”
وبنبرة قاسية عبر أداة التواصل، قالت:
“أنسيتِ الهدف من هذا الموعد؟”
“الهدف كان أن نتصالح…….”
“وهكذا رددتِ الرجل الذي جاء إليك للتصالح؟”
“فوجئت في تلك اللحظة ولم أفكر…….”
“المهم، ما فات قد فات. الآن استمعي جيدًا أيتها الشريكة البطيئة. ارتدي معطفك حالًا.”
“معطف؟ لماذا؟”
“واتجهي إلى ساحة النافورة.”
“ساحة النافورة؟ لماذا؟”
“لماذا غير واضح؟ لأن الموعد الذي أجلتِه للغد سيجري اليوم!”
“ه-هذا مستحيل! الحجز في المطعم لليوم التالي، والهدية لن تجهز إلا غدًا!”
حتى أنها رتبت الإضاءة الخاصة في الحديقة وحجزت فرقة موسيقية عند النافورة، كل ذلك متزامنًا مع ساعة الغروب!
“وما قيمة كل ذلك الآن؟! لو استمريتِ في إضاعة الوقت من أجل غدٍ مثالي فلن تحصلي لا على موعد ولا على مصالحة. لا تنسي الأهم!”
هذا الصباح جاء ليصلح الأمر، لكنها استقبلته بأسوأ طريقة ممكنة.
خططت لاعتذار كامل ومصالحة مثالية، فانتهى بها الأمر لتزيد الموقف سوءًا.
“اذهبي إلى النافورة حالًا.”
“لكن ثيو قال إنه مريض ولا شيء جاهز……!”
احتجّت إيزابيلا وهي تدور في مكانها.
كل شيء انقلب إلى فوضى، حتى إنها لم تعد تفكر بوضوح.
رغم طول سنوات علاقتهما، بدت وكأنها تخوض تجربة حبها الأولى.
“إن كان مريضًا حقًا، فهل كانت لناياس لتظل هنا بجانبنا تلعب وتنام؟”
فثيو لم يترك روحًا واحدة مع إيزابيلا فحسب، بل حتى مع ليكاردو وكاساندرا ودايفيد كان قد أرسل أرواحه لتكون دائمًا إلى جانبهم.
وها هي ناياس تنام بسلام بجانب روح ليكاردو.
لا وجود لروح تهمل سيدها وهو يتألم.
“إن كان يتألم، فذلك من طعنتكِ صباح اليوم لا غير.”
“…….”
كلمات كاساندرا أصابت إيزابيلا في الصميم، فلم تجد ما ترد به.
“هيا اخرجي الآن. سأهتم أنا بالباقي.”
“ش-شان…….”
“أكاد أفكر بفتح مكتب لإدارة شؤون الحب من كثرة ما أنقذك.”
وبعد أن أطلقت كاساندرا تنهيدة وضربة لسان، انقطع الاتصال.
بقيت إيزابيلا تحدق بالجهاز لحظة، ثم انتفضت واقفة.
“الملابس……! هاتوا لي الثوب الذي كنت أعدّه لغد! بسرعة!”
فإن كانت ستخرج حالا إلى الساحة بـ معطف فحسب، فالوقت يداهمها.
*****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات لهذا الفصل " 151"