كانت قد تابعت جدالهما وهي تضرب الأرض بقدميها من القلق، وما زال وجهها مرتبكًا.
“ليس بسببي، صحيح؟ لا، صحيح، إن سموّ الدوق قال بنفسه إنه لا يسيء الظن بي… نعم، هذا مجرد شعور مبالغ فيه.”
كانت تطرح السؤال ثم تجيب عنه بنفسها، ملوّحة برأسها كمن يطرد أفكارًا سخيفة.
ويبدو أنّ هذه عادتها، فقد كانت تُظهر ذلك أحيانًا حتى أثناء الدرس.
“هذا… هل نُنهي الدرس عند هذا الحد اليوم؟”
“هذا أفضل. أما موعد الدرس القادم…”
ترك ثيو عبارته معلّقة، وبدا وجهه قاتمًا كأنه متردّد في تحديد موعد جديد.
فقالت مدرّبة الرقص بلهجة مطمئنة:
“لا بأس، خذ راحتك. يمكنك أن تجد شخصًا آخر، أو حتى أن تتوقف نهائيًّا إن أردت.”
وبما أنها شهدت ما جرى قبل قليل، فقد كان من الطبيعي أن يتفهّم المرء لو قرر هو التوقف عن الدروس.
اكتفى ثيو بإيماءة قصيرة، ثم غادر أولًا.
حين عاد إلى غرفته، تكدّست الأفكار في رأسه.
كان يعلم أن المشهد الذي وقع يمكن أن يُساء فهمه بسهولة، لكنه لم يكن سوى صدفة.
كل ما حدث كان نتيجة تراكم سلسلة من “من يدري…؟” التي اجتمعت في لحظة واحدة فحوّلت كل شيء إلى فوضى.
فلم يكن ليتخيّل أن مدرّبة الرقص التي وعدت بالمجيء خلال الأسبوع ستصل بهذه السرعة.
صحيح أنه حين رآها لم يستطع منع نفسه من التفكير في إيزابيلا.
فهو يعرف طباعها: ما كان لها أن تتحمّل الطريقة المزعجة التي افترقا بها بالأمس. لو كان لديها وقت فراغ، لجاءت مسرعة إلى الدوقية هذا الصباح.
لكنها في الآونة الأخيرة كانت مشغولة دائمًا، تلغي مواعيدها باستمرار. ولم يتوقّع أبدًا أن تنتهي من اجتماعها الصباحي وتأتي لرؤيته قبل الظهر.
وفوق ذلك، لم يكن يظن أن رقصات الحفل صعبة إلى هذا الحد.
لقد كان واثقًا من نفسه فيما يخصّ أي نشاط جسدي، لكنه لم يتخيّل قط أنه سيكون أخرقًا في الرقص.
وهكذا تراكمت سلسلة الصدف، وانتهى الأمر بتلك المواجهة.
لهذا السبب تفهّم غضب إيزابيلا المفاجئ، وحاول أن يشرح لها على الفور.
صحيح أن انكشاف أمر استعانته بمدرّبة الرقص بدافع القلق من أن ترقص مع الأمير موفيو كان محرجًا.
لكن ذلك أهون بكثير من أن يدعها تسيء الفهم وتظن أنه يخونها.
غير أن التوضيح لم يكن ضروريًا.
‘أعرف أكثر من أي أحد أنك لا يمكن أن تفعلها وأنت في كامل وعيك. لست من أولئك الذين يخونون.’
لقد بادرت هي نفسها لتؤكد أنها لا تظن به ذلك.
فما الذي جعلها إذن تتنهّد بتلك الجديّة؟
حين سمِع كلماتها التالية، كاد قلبه يتوقّف.
لقد وقعت في سوء فهم آخر مختلف تمامًا.
الصدفة وتتابع الظروف جعلتها تظن أن كل ما جرى كان مخطّطًا منه أو جزءًا من انتقام.
أمور لم تخطر له على بال قط.
والأدهى أن سوء الفهم هذا انتهى إلى جملة طعنته في أعماقه:
‘إذا كان كل هذا لعبة انتقامية صبيانية، فقط كُن صريحًا. لا تقل لي مثل تلك العبارات المكررة: ‘سأحتمل لأنكِ تريدين’، ‘لا بأس لأنكِ تريدين’.’
تلك العبارات التي قالها ظنًّا منه أنها بدافع مراعاة شعورها، لم تكن إلا قشرة تخفي ما بداخله. وهي بدورها كانت تعلم ذلك منذ البداية.
ولأنها تعرف، لم تسأله عن الحقيقة مباشرة، بل اكتفت بشكره على مراعاته ومضت معه في الطريق.
ولعلها هي أيضًا مثلما كان هو يفعل، حاولت أن تردّ مراعاته بمراعاة أخرى، حتى استحالت حياتهما إلى سلسلة من التحمّل المتبادل.
وكما يُضطر الكاذب إلى اختراع أكاذيب أخرى كي يغطي كذبته الأولى، تحوّل تظاهرهما بالاهتمام إلى قيد لا يمكن الخلاص منه.
وقد استمرّ ذلك أربع سنوات كاملة.
‘حتى ما حدث بالأمس مع الأمير موفيو… ربما كان انفجارًا لتلك التراكمات.’
تذكّر كيف شعر بسخف وغيرة لأنها كانت تتواصل مع أخيها عبر أداة الاتصال السحرية بينما لم تكلّف نفسها عناء أن تفعل الأمر نفسه معه.
وكيف لم يستطع أن يخفي امتعاضه كطفل مدلّل حين رآها تتحدّث مع أمير دولة أخرى في وقت كان يفترض فيه أن يكون بالغ الحذر.
بل إنه منذ البداية لم يكن منزعجًا من وجود الأمير في أراضيه بقدر ما كان غيظه منصبًّا على هديته لإيزابيلا.
كل هذا أظهر كم كان شيء ما في داخله منحرفًا عن مساره.
“…لا أظن أن الاعتذار سيحلّ الأمر.”
كان يعلم أن الاعتذار لن يزيد الوضع إلا امتدادًا وتعقيدًا، وكأنه يكرّر المراعاة نفسها.
لكن في المقابل، أن يقول كل شيء بصدق جعله يشعر بمرارة في فمه.
“…أخفيت عنها أكثر مما تظن.”
كثير من الكلمات التي امتنع عنها باسم المراعاة، وكثير من الأفعال التي كبَحها، لن تكون على علم بها أبدًا.
أما أن يطلب منها الآن أن يقول لها الحقيقة بعد كل هذا الوقت، فذلك أشبه بطعن بالون ممتلئ بالماء قضى أربع سنوات وهو ينتفخ.
فحجمه صار أكبر مما يمكن احتماله.
“هاه…”
أطلق ثيو تنهيدة طويلة، ثم نزل إلى ساحة التدريب.
أخذ يركض فيها مرارًا وتكرارًا حتى فرغ رأسه من كل تعقيداته.
ويُقال إنّ ممر الركض في ساحة التدريب، الذي استخدمه الفرسان من بعدهم جيلاً تلو جيل، كانت بدايته في ذلك اليوم بالذات.
***
الفصل الجانبي 4 – كل شيء يتوقف على التوقيت
“أيُّ حماقةٍ هذه بالضبط؟”
ارتفع صوت إيزابيلا الممتلئ بالسخط.
لم يكن من المعتاد أن تُظهر مثل هذا الانفعال.
“الأمير الثالث هو من أرسل الهدية، فهل كان ذلك بسببي؟ ولقائي به صدفةً في الدوقية لم يكن خطئي كذلك.”
“…….”
“لكن أن يعتبر هذا سببًا لينتقم مني بهذه الطريقة؟ أليس هذا محض نزق؟ لا يمكنني أن أتهرّب من أشخاص ألتقي بهم بحكم العمل.”
أطلقت كلماتها دفعةً واحدة دون أن تترك لنفسها مجالًا لالتقاط الأنفاس.
والتي استمعت إليها لم تكن سوى كاساندرا.
كانت تحدّق في الأوراق وتدوّن بقلمها بوجه خالٍ من الاكتراث، بالكاد تُبدي اهتمامًا.
“شان، هل تسمعينني؟”
“أجل.”
“إذن قولي شيئًا على الأقل.”
“أخطر ما في العلاقات أن تطلبي رأي طرف ثالث لا علاقة له بالأمر.”
“لكنه ليس بلا علاقة. أنت تعرفين جيدًا أن ثيو ليس من النوع الذي يقوم بمثل هذه الأفعال الصبيانية.”
في نظر إيزابيلا، لم يكن هذا سلوكًا يليق بثيو ولهذا كانت أكثر اضطرابًا.
في ذلك اليوم، وقد ضاقت بها الحال وفاض صدرها، أفرغت كل ما كتمته طويلًا.
لكن بعد أن عادت إلى القصر، وأمضت ليالي متتابعة وهي تفكر، ثم هدأ ذهنها قليلًا في طريق عودتها إلى العاصمة، لم يبق الغضب مسيطرًا عليها، بل حلّ محله الحيرة.
“لو كان إفراطه في المراعاة هو ما يخنقني، لكان مفهومًا، لكن أن يجرّ طرفًا آخر إلى مثل هذه الحماقة… هذا لا يشبهه أبدًا. أليس كذلك؟ فلماذا فعلها إذن؟”
ولأنها لم تجد جوابًا، قصدت كاساندرا.
“آه… أنا شريكة عمل، لست مستشارة علاقات.”
تنهدت كاساندرا بعدما أنصتت قرابة الساعة كاملة.
ومع ذلك وبما أن الأمر يخص صديقتها، لم تستطع أن تتجاهله كليًا.
وضعت القلم جانبًا ورفعت رأسها وأسندت ذقنها بيدها وهي تنظر إلى إيزابيلا الجالسة على الأريكة في الجهة المقابلة، وملامحها لا تزال متوترة.
“لماذا تسألينني وأنتِ تملكين الجواب أصلًا؟”
“جواب؟ أنا؟”
هزّت كاساندرا رأسها بالإيجاب.
وعندما تجهّمت إيزابيلا كمن لم يفهم، أضافت:
“أعيدي آخر ما قلتِ لي بهدوء.”
“قلتُ إنه ليس من النوع الذي يرتكب مثل هذه الحماقات.”
أومأت كاساندرا وأدارت إصبعها في الهواء، إشارةً إلى أن تكمل.
“وأنه… إن كان شيء يضايقني، فهو إفراطه في المراعاة…”
لكن كلمات إيزابيلا تلاشت تدريجيًا.
عندها صفّقت كاساندرا بيديها.
“ها قد حصلنا على الجواب.”
“أيّ جوابٍ هذا؟”
سألت إيزابيلا وقد علتها الحيرة.
ارتدّت كاساندرا إلى الخلف وأسندت ظهرها وهي عاقدةً ذراعيها.
“قولي لي، هل ذلك الرجل أصلًا يملك من الدهاء ما يمكّنه من تنفيذ مثل هذه الخطة؟”
“هذا…”
“هو ليس مثل جوشوا ذلك الثعلب الماكر. ثيو رجل غليظ بسيط، فكيف لعقله أن يبتكر خطة كهذه؟”
أن يتوقّع خطواتك، ويُعدّ خادمًا في الموعد، ويُحضّر امرأة أخرى عمدًا؟
“على الأقل ثيو الذي أعرفه أنا لا يستطيع ذلك.”
أما الرجل الذي تعرفه كاساندرا، فلم يكن يملك أصلًا تلك القدرة، وحتى لو لقّنه أحدهم الفكرة في رأسه، فلن يعرف كيف ينفّذها.
“لكن هذا أمر أنتِ أدرى به مني.”
فلا أحد في هذا العالم يعرف ثيو أكثر منك.
عند كلماتها المضافة بخفوت، التزمت إيزابيلا الصمت وأطبقت شفتيها.
كانت كل كلمة قالتها كاساندرا صائبة.
“كما أنكِ على ثقة بأنه لن يلتفت إلى امرأة أخرى غيرك، فأنتِ تعرفين تمامًا أنه ليس من النوع الذي يلجأ إلى مثل هذه الحماقات السخيفة.”
“…أعرف.”
خفضت إيزابيلا رأسها، وعضّت شفتها السفلى.
ومع ذلك، تابعت كاساندرا قولها دون أن تتوقف:
“ألم يقل لكِ بنفسه إنها مجرد سوء فهم؟ إذن انتهى الأمر. فثيو من بين كل من أعرفهم، هو الرجل الأقل قدرة على الكذب.”
رجل لا يعرف الكذب، وبالتالي لا يعرف التمثيل أيضًا.
****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام كملفات، وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات