مضت أربع سنوات منذ إعدام وليّ العهد الثاني المخلوع فايتشي، وشهدت إمبراطورية دويتشلان تغيّرات كثيرة.
فبعد إعدام الأمير الخائن، تنحّى الإمبراطور عن العرش، معلناً أنّه يتحمّل مسؤولية ما جرى: إذ اختار امرأةً غير صالحة لتكون إمبراطورة، وربّى وليّ عهدٍ أضاع البلاد وجرّها إلى الخطر.
وكانت صحته المتدهورة تحول بينه وبين الجلوس طويلاً على العرش، كما أنّ وليّ العهد هارسيز كان قد تولّى زمام الحكم لفترة طويلة، فصار أقدر منه على الإحاطة بأحوال الدولة.
وجرت مراسم تتويج هارسيز في احتفالٍ مهيب.
فقد كان هارسيز يرغب في أن يكون الاحتفال بسيطاً، لكن الإمبراطور أوصاه بل أمره أن يكون كبيراً.
فقد رأى أنّ الخيانة التي ارتكبها الأمير، والحرب التي اندلعت، وعودة نفوذ بيت الدوق، وتحويل بعض الممالك إلى دوقيات… كلّها أحداث غيّرت موازين الإمبراطورية، وكان لا بدّ أن يُثقل التاج من جديد ليثبت هيبة العرش.
وبعد أن سلّم العرش بأمان، قضى الإمبراطور السابق أيّامه الأخيرة في هدوء. وأكثر ما كان يفعله أن يستدعي إيزابيلا ليجتمع بها وبـهارسيز على مائدة الطعام.
“كأنني أضعت الكثير من الوقت يا بُني.”
كان يأسف دوماً أنّه بسبب أخطائه لم يجد وقتاً لتعليم هارسيز حقّ التعليم، ولا شهد نشأة إيزابيلا عن قرب. ومع ذلك، كان تبادل اللحظات الضائعة متعةً تداوي الأسى. لكن تلك اللحظات لم تدم طويلاً.
فما لبثت العلّة أن غلبت الإمبراطور، فمات بعد أشهر قليلة.
دخلت الإمبراطورية في حداد قصير على رحيله، لكن السياسة لم تتغيّر، إذ كان هارسيز قد ثبّت عرشه بالفعل.
أما التغييرات الكبيرة فكانت تتولّد في مكانٍ آخر…
***
“إذن، لستم راضين عن شروط العقد؟”
سألت إيزابيلا وهي جالسة على الأريكة واضعة ساقاً فوق الأخرى، مطلقةً تنهيدة خفيفة. عندها تغيّرت ملامح السحرة الجالسين أمامها.
“لم نقصد ذلك.”
ألقوا نظرة سريعة على الأوراق الموضوعة على الطاولة، ثم عادوا ببصرهم إلى إيزابيلا الجالسة إلى جانب جوشوا.
“بل نسأل لماذا تُعرضين علينا نحن بالذات مثل هذه المقترحات؟”
كانت نبراتهم حذرة مشوبة بالريبة.
عضّت إيزابيلا شفتها وهي تقرأ في وجوههم الحيرة، بينما اكتفى جوشوا بابتسامة صغيرة وكأنه كان يتوقع ردّهم.
“أظنني شرحت الأمر من قبل.”
قالت إيزابيلا وهي تغيّر وضع ساقيها المتشابكتين.
“هل أحتاج أن أشرحه مجدداً؟”
كان صوتها يحمل مسحة من الإلزام.
“فالسحرة ومُستحضروا الأرواح إذا ظلّوا في صراع دائم، فلن يعود ذلك بالنفع على أيّ طرف.”
“……”
تضيّقت أعينهم وكأنهم يحاولون التحقق من صدق كلماتها.
“لقد رأينا قوة السحرة في مملكة هيليبـور. الأمير نفسه استخدم السحر، وفي القصر كانت كل زاوية مرصودة بتعاويذ لمنع اقتراب المستحضرين.
كان عدواً لنا، لكن قدراته كانت مثيرة للإعجاب.”
ولم يكن ذلك وحده. فحين سمح لها هارسيز بدخول أرشيف دويتشيلان، أدركت إيزابيلا القيمة الحقيقية للسحرة. ومنذ ذلك الحين، صارت ترى العلاقة بين السحرة والمستحضرين علاقةً مؤسفة.
لو اتحد الطرفان، لولّد تآزرهم قوة لا يستهان بها.
لكن الإمبراطورية ما انفكّت تكبت السحرة، والممالك اضطهدت المستحضرين. كان ذلك أشبه بالانشغال بصغائر الأمور عن النظر إلى الصورة الكبرى.
لهذا عاهدت نفسها حين منحت دوقية إلادور أن تصلح هذا الخلل. وبعد طول تفكير وتخطيط، اهتدت إلى طريقة تحقق ذلك.
“لكن لو كان التعايش سهلاً إلى هذا الحد، لما وُجد في الدنيا أعداء أصلاً.”
فالكبار أنفسهم يصرّون على الشجار، ومن عسير منعهم بالقوة.
“ومن هنا جاء مقترحي.”
فالأفضل أن يُمنحوا ساحةً واضحة للصراع، ساحة تجلب النفع للطرفين معاً.
“بما أنّ القتال حتمي، فليكن تنافساً علمياً.”
دفعت إيزابيلا بالأوراق الموضوعة على الطاولة نحوهم بابتسامة.
“تفوّقاً دراسياً… في الأكاديمية.”
كانت تلك الأوراق عقود عمل لأساتذة الأكاديمية، محشوّة ببنود دقيقة صغيرة الخط.
***
اهتمام إيزابيلا بإنشاء الأكاديمية لم يكن وليد اللحظة.
“إذن وصلت بك الأمور إلى أن تفكّري بفتح أكاديمية؟ ما هذا الجنون؟”
قالتها كاساندرا بعد عامٍ تقريباً من وفاة الإمبراطور، حين زارت العاصمة والتقت إيزابيلا بعد طول غياب.
“كنت أعلم منذ عرفتك أنّك لستِ عادية، لكن لم أتخيّل أنّك ستذهبين إلى هذا الحد.”
“وهل إنشاء أكاديمية أمر غير معقول إلى هذه الدرجة؟”
سألتها إيزابيلا بقلق وهي تعبث بفنجانها، إذ بدا لها أنّ ردّة فعل كاساندرا أضخم مما توقعت.
لكن تلك البراءة لم تزد كاساندرا إلا ضيقاً.
“طبعاً. أتعلمين لماذا لم يُقم أحدٌ أكاديمية حتى الآن؟ ليس لأن الأباطرة لم تخطر لهم الفكرة، ولا لأن المال غير متوفّر.”
تنهّدت إيزابيلا وهي تهمس:
“لأنها لن تكون مجرّد مكانٍ للتعليم.”
أومأت كاساندرا وسرّحت شعرها القصير بيدها وهي تجلس بغير اكتراث.
“تماماً. بل ستغدو صالوناً اجتماعياً ضخماً، فهل تفكّرتِ بما قد يجلبه ذلك من عواصف سياسية في هذا الظرف الدقيق؟”
فالمجالس والصالونات وحفلات الشاي، وما يُعرف عموماً بـ “الصالونات الأرستقراطية”، لم تكن مجرد أماكن للتسلية والثرثرة، بل ساحات لتبادل النفوذ ورسم التكتلات، ومهداً للتحالفات أو حتى للاحتجاجات.
ومن يشارك في تلك الأحاديث يمتلك قوةً على إدارة دفة الإمبراطورية، ومن يُستبعد منها يتقهقر ويفقد نفوذه.
ولهذا كانت دعوة واحدة لحفلٍ كهذا قد تفصل بين مجدٍ وانكسار، وتُهدر لأجلها أموال طائلة وأوقات طويلة.
“ألم تري ما حدث في حفل تتويج جلالة الإمبراطور الأخير؟”
فذلك التتويج كان فرصة نادرة للنبلاء في الأطراف كي يدخلوا أروقة الصالونات من جديد.
وبينما بدا للعامة مهرجاناً بهيجاً باذخاً، كان في جوهره ساحة صراع سياسي فوضوي.
“على الأقل هذه المرة كان الأمر مقصوداً من الإمبراطور الراحل نفسه، لذا يمكن التغاضي عنه…”
ذلك بالضبط كان سبب إصرار الإمبراطور على أن يُقام حفل تتويج هارسيز على نطاق واسع. فقد رأى أنّه من الضروري قبل أن يرحل أن يرسّخ هارسيز مكانته ويثبّت عرشه.
ولأن الإمبراطور الراحل كان مدركاً تمام الإدراك ما جلبته أيامه الأخيرة من سوءٍ وكثرة ما وقع من أحداث مؤسفة، فقد أراد أن يُظهر للناس أنّ هارسيز مختلف.
“لكن، أتريدين أن تفتحي ساحةً دائمة لذلك العبث السياسي؟”
غير أنّ الأكاديمية كانت شيئاً آخر.
أكاديميةٌ لتعليم رعايا الإمبراطورية. والاسم اسم تعليم، لكنها ستتحول في النتيجة إلى ساحةٍ اجتماعية جديدة.
“أعلم أنّ دافعك في إنشاء الأكاديمية نقيّ، لكن هل ترين أنّ الأمر ممكن في هذا الجوّ الملبّد؟”
كان اعتراضاً صريحاً.
“حتى حفلُ تتويجٍ واحد انتهى بتلك الفوضى.”
“أليس ذلك في الحقيقة ميزة؟”
عندها لمعت عينا إيزابيلا.
“الأمر يختلف عن حفلات الرقص. فنحن نتعامل هنا مع فتيان وفتيات ما زالوا أبرياء.”
“أبرياء؟ هل تدركين كم هم خطِرون؟ إنهم قنابل موقوتة بأفكارٍ لم تكتمل بعد.”
“ولهذا بالذات علينا أن نصقل تلك القنابل.”
“هاه… يا شريكتي.”
تنهدت كاساندرا بضيق، لكن إيزابيلا لم تكن لتتراجع.
“أما ترين أنّ هذا التوقيت المضطرب بالذات هو الفرصة المثلى لافتتاح الأكاديمية؟”
لقد تفتّتت قوة فايتشي وزالت المملكة. ذاك الخطر الذي كان يثير القلق بجوارهم، سواء كان تهديداً أو وداً، فقد اختفى.
أما السحرة فقد ضعفت نفوذهم وسقط برج السحر في القصر الإمبراطوري، بينما نهض بيت الدوق لويد الذي كان موسوماً بالخيانة.
وما كاد الناس يظنون أنّ بيت ماكـا سيزول حتى عاد لينهض ببريقٍ باهر، بل وظهرت أميرة لم يكن أحد يعرف بوجودها. ورغم أنّها لم تُعلن رسمياً، إلا أنّ الجميع كان يعلم.
لقد تهدمت الأسس التي اعتاد الناس أن يؤمنوا بها في التاريخ والسياسة، حتى قيل إن الدنيا انقلبت رأساً على عقب.
“إذن تريدين أن تضربي ضربتك بينما الجميع في دوامة؟”
“بالضبط.”
“أأنتِ مجنونة؟”
“فكّري قليلاً يا شان. نحن نعيد بناء دوقية أشبه بالخراب من الصفر. لا شيء لدينا، وهذا يمنحنا الحرية لنمضي في أي اتجاه نشاء.”
“أتقصدين أنّ أساس الدوقية سيكون الأكاديمية؟”
“نعم. ثم إنّ هذا عمل لا يمكن لأحدٍ سواي أن يقوم به.”
أميرةٌ، لكنها ليست أميرة.
قائدة دوقية تمسك بزمام القوة، لكنها لا تمثّل تهديداً على العاهل هارسيز.
امرأة أطاحت بمملكة هيليبـور، فاكتسبت ودّ الممالك المجاورة وخشيتها في الوقت نفسه.
خطوتها القادمة…
“كل شيء ينطبق كما لو كان أحجية أُتقن تركيبها.”
أطلقت كاساندرا تأوهاً وضغطت على ما بين حاجبيها وقد أصابها الصداع من كلام إيزابيلا.
“الدوقية ليست بيتاً ريفياً صيفياً.”
فالمرأة المجنونة أمامها تتحدث عن تأسيس أكاديمية كما لو كانت تفكر في تسمية كلبٍ صغير، وهو ما جعل رأسها يوجعها.
“آه… لكن لماذا أشعر أنني أنجذب إلى فكرتك؟”
فكلما سمعت كلامها، وجدت نفسها تقتنع، وكأنها تتذوّق طعاماً شديد الإدمان لا يمكنها أن تتوقف عنه.
“لقد أنهيتُ حديثي مع شقيقي.”
وفوق ذلك، فإنّ الإمبراطور هارسيز نفسه وعدها شفهياً بالدعم والموافقة. لذا فإنّ معارضتها الآن تعني تفويت فرصة ثمينة.
“كان يجب أن أدرك الأمر منذ أشهر حين قلتِ فجأة إنك ستخترعين جهازاً لقياس التوافق الروحي. لم أتوقع أنك تخفين وراءه خطة بهذه الضخامة.”
حينها لم تفهم كاساندرا لِمَ جاءت إيزابيلا إلى تاجرة لتبحث معها عن إمكانية تنفيذ جهازٍ كهذا بدلاً من أن تلجأ إلى جمعية المستحضرين، لكنها الآن أدركت السبب.
“لذلك يا شان…”
قالت إيزابيلا وهي تضم كفيها متوسلة بنبرة ملؤها الرجاء العميق:
“ساعديني.”
****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام كملفات، وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 140"