لن أخدع مرتين [ الفصل 139 والخاتمة ]
على خلاف ما كان يُتوقّع من إقامة حفل نصرٍ عظيم، لم يُفتَح في القصر الإمبراطوري أيّ حفل رقص.
كان ذلك خيار الإمبراطور نفسه.
فمهما وُصِم بالخيانة، إلا أنّه كان في يومٍ ما أميراً، وكان لا بدّ من إنزال العقوبة به.
اختار الإمبراطور أن يتمّ ذلك بهدوء، مراعاةً لما يُسمّى “آخر مظاهر الاحترام”. غير أنّ الجدل استمرّ:
أهو احترامٌ أخير؟ أم محاولة لإخفاء عار العائلة الإمبراطورية؟
على أيّ حال، رآه الإمبراطور أمراً لا يليق أن يُحتفل به بكؤوسٍ وولائم.
لكنّه في الوقت ذاته، لم يُرِد أن تغدو أجواء الإمبراطورية قاتمة، فأمر بإقامة مهرجانٍ في العاصمة بدلاً من حفل الرقص.
النبلاء تذمّروا، لكن الشعب فرح، إذ تقاسموا جميعاً بهجة الانتصار الكبير.
وسرعان ما عمّ المهرجان أرجاء الإمبراطورية كلّها، بما فيها إقليم الماركيز ماكا.
إيزابيلا ورفاقها قرروا الاستمتاع بالمهرجان هناك، لا في العاصمة.
“ادفع ثمن الشراب أيها الوغد!”
“ولِمَ تصرخين عليّ وحدي! البقية أيضاً يشربون!”
“لكنهم لا يلتهمون مثلك!”
وكالعادة، كان الشجار على أشدّه بين كاساندرا وإدوارد.
“سمعت أنّك ستبدأ عملاً جديداً في باتوكا؟ أيّ عملٍ هو؟”
“سؤالك جاء في وقته. كنتُ أريد أن أعرض عليك أن تشاركني.”
أما دايفيد وجوشوا فقد تجاهلا الضوضاء ببرودٍ وتبادلا الحديث كالمعتاد.
“يا للعجب، أرسلنا ممثلة عن بيت ماكا إلى الحرب، فإذا بها تعود دوقة عظيمة.”
“صدقني، لم أكن أتخيّل أن ينتهي الأمر بي هكذا.”
أما ليكاردو وإيزابيلا فحديثهما دار كعادته على نغمةٍ ممزوجة بالاستغراب والمرارة.
“ألستِ تنوين قبول منصب الأميرة حقاً؟”
“كلا.”
“مع أنّ منصب الأميرة أو منصب الدوقة كليهما شرف. يبدو أنّ جلالته يحبّ العبث.”
“أليس كذلك؟”
زفرت إيزابيلا، فقال ثيو هامساً:
“برأيي إنها هدية لا بأس بها.”
“هدية؟! أيّ هدية تلك! لا أدري من أين أبدأ حتى أصف حجمها.”
هزّت رأسها، فأيّدها ايكاردو قائلاً:
“بل أشعر أنّه ألقى على عاتقك عبئاً ثقيلاً عمداً.”
“أترى؟ حتى ليكاردو يوافقني.”
قال ثيو معترضاً:
“لكنّك كنتِ سعيدة حين تحدّثنا عن إقامة بيت لُويد، فلماذا تُثقل كاهلك فكرة الدوقية؟”
فعقّب ايكاردو بامتعاض:
“بيت لُويد شيء، والدوقية شيء آخر. مساحة الأرض وحدها تكفي لتبيان الفرق.”
ثم أضاف:
“وفوق ذلك، نظرة الناس مختلفة.”
“بالضبط!”
صفّقت إيزابيلا موافقة بحماسة:
“أجل، لا أحد يفهم قلبي مثلك يا ايكاردو.”
لكنّ كلماتها لم تكد تخرج حتى أحاط ثيو خصرها بذراعه.
فرأى ليكاردو ذلك وعلق ساخطاً:
“إيزابيلا، انتبهي لما تقولين. لو كان يمكن للعين أن تقتل، لكان هذا الرجل مجرماً متسلسلاً بالفعل.”
التفتت إيزابيلا على عجل لتقرأ ملامح ثيو، لكنّه كان قد بدّلها بابتسامة بريئة. ارتبكت قليلاً، إذ لم يكن من طبيعته أن يبدو غاضباً.
“على كلّ حال…… هل ستذهبين؟”
“إلى حفل الإعدام؟”
“نعم.”
تنهدت إيزابيلا طويلاً:
“لا أرغب في رؤيته، ومع ذلك أشعر بحاجة إلى التأكّد بعيني.”
لم تكن قد حسمت قرارها.
كانت خصومة طويلة ومريرة، فهل يكون من الصواب أن ترى نهايته بعينها؟
هل ستشعر بالراحة؟ أم بالضيق؟
في الحقيقة، كانت قد أنهت الأمر بالفعل في كوم.
رأت سقوطه بأمّ عينها، وانتزعت منه كلّ شيء.
حتى أنّها ورثت قوته وصارت تتحكم بنار الارواح، أمراً لم يعلم به أحد.
ولم تشأ أن يفشي أحد سرّها إن ظهرت مجدداً أمامه.
خواطر شتى تداخلت في ذهنها.
قال لها ليكاردو:
“فكّري جيّداً، واختاري ما يجعلكِ أقلّ ندمًا لاحقاً.”
وما كاد يُنهي كلامه حتى جاء صوت إدوارد وكاساندرا من بعيد يناديانه:
“قائد! تعال وأوقفها!”
“ماذا؟! أنا؟ بل أنت الذي تثير الشغب! ثمّ هذا المكان متجري أنا!”
فقال ليكاردو وهو ينهض:
“أُفضّل أن أذهب لأفصل بينهما.”
تركهما، فبقيت إيزابيلا وثيو وحدهما.
كانت تعبث بكأسها الفارغ حين مال ثيو برأسه يستند إلى كتفها.
“هل نخرج قليلاً؟”
“نعم.”
ولأنها رغبت في استنشاق الهواء، لم ترفض اقتراحه.
الجميع كانوا سكارى منشغلين، فلم يلحظ أحد خروجهما.
وكان الخارج صاخباً كالحانة بل وأكثر، إذ بلغ المهرجان ذروته.
الأطفال يركضون بمصابيح مضيئة، والتجار على الأرصفة يعرضون بضائعهم بنشاط، والزينات الملونة تبعث البهجة في القلوب.
سارت إيزابيلا وثيو جنباً إلى جنب، متشابكي الأيدي.
“ثيو.”
“نعم؟”
“هل تذكر حين حضرنا المهرجان معاً قديماً؟ في كوم. صحيح أنه كان صغيراً لا يكاد يُسمّى مهرجاناً.”
“أذكر.”
“أتذكر هذا السوار الذي أخذناه وقتها؟”
وأشارت إلى معصمها حيث يلتفّ السوار.
“هل تذكر الرجل العجوز؟”
“ذلك الساحر؟”
هو أيضاً يذكره كساحر. اكتفت بابتسامة ولم تُصحح.
“أتذكر الأمنية التي عقدناها على السوار؟”
“طبعاً.”
نظر إليها باستغرابٍ لطيف كأنّها تسأل عن شيء بديهي.
“قلتَ لجلالته يوماً إن كل شيء كان قدراً.”
“نعم.”
“وأنا كذلك أراه قدراً. لقائي بك كان قدراً، ووقوعي في حبّك كان أمراً طبيعياً لا مفرّ منه.”
“…….”
“أنا واقفة هنا الآن بفضلك. لأنك أحببتني، ولأنك احتفظت بالسوار، ولأنك تمنيت الأمنية معي.”
كان ملك الأرواح هو من منحها قوة العودة، لكن السبب الحقيقي لعودتها كان ثيو.
“لذا، أريد أن أعيد طلب تلك الأمنية، لكن هذه المرة لا من سوارٍ ولا من سماء بعيدة…… بل منك أنت.”
قبضت على يديه بكل قوة، وعيناها تتأملان عينيه المرتجفتين.
كان عليه أن ينطق، لكنها هي التي بادرت، فيما ابتلع هو ريقه بتوتر.
ضحكت همساً وهي تراه مرتبكاً على غير عادته وقالت:
“أريد أن أبقى معك طويلاً، طويلاً…… سعيدة.”
“……بيلا.”
“إذن… لنتزوج.”
كان الأمر قد طُرح بالفعل من قِبَل الإمبراطور، وزواج الاثنين صار حقيقة مسلَّماً بها.
وكلاهما كانا يعتقدان منذ البداية أنهما سيقضيان بقية عمرهما معاً، وأن الزواج أمر بديهي لا مفر منه.
ومع ذلك، رغبت إيزابيلا أن تقولها بلسانها، رغبت أن تتأكد منه مباشرة.
كأنها تقول هذا ما أريده أنا، فهل هو ما تريده أنت أيضاً؟
“هل تتزوجني؟”
طرحت السؤال الذي طالما أرادت أن تطرحه.
ارتجف حلق ثيو بشدّة وهو يبتلع ريقه، وارتعشت عيناه ثم هبط نظره نحو الأرض.
“آه…”
كان أنينه الصغير كفيلاً بأن يربك قلب إيزابيلا. لقد شعرت بحدسها أن ذلك الأنين لم يكن أنين تأثّرٍ مفعمٍ بالفرح، بل أشبه بملامح رجلٍ فوجئ أو أصابه الحرج.
“لا تقل إنك… لا تريد الزواج؟”
من الممكن. ربما أراد علاقة حب بلا زواج. لم يكن الأمر يعني أنه لم يعد يحبها.
لكن ثيو وقد فزع من سؤالها، أسرع ينفي وهو يهز رأسه:
“لا! ليس الأمر كذلك!”
لكنه بدا محتاراً، يتلعثم كمن لا يعرف من أين يبدأ الشرح.
“ليس ذلك ما أقصده… وإنما…”
وبينما يحاول أن يفسر، انبعث صوت ليكاردو من الجهة الأخرى:
“أرأيت؟ ألم أقل لك؟ إذا تماطلت وخططت لأمرٍ أكبر من اللازم، ستجد نفسك قد سُبقت بخطوة!”
التفتت إيزابيلا نحوه، فإذا ليس ليكاردو وحده هناك، بل كاساندرا أيضاً واقفةً بذراعين معقودتين وهزّت لسانها مستنكرة:
“ما زال حتى الآن لا يفهم مزاج حبيبته. تسك تسك.”
ثم أطلقت بأصابعها طقطقة، وفي تلك اللحظة هبّت نسمة دافئة عابقة بالزهور، أحاطت بإيزابيلا وثيو.
كانت ريحاً من أرواح دايفيد.
فإذا بالهواء يحمل بتلات ناعمة تتساقط حولهما، ومعها تتلألأ أنوار صغيرة كاليراعات.
وسرعان ما اكتُشف مصدر الأجواء: إدوارد، جالس على شرفة في الطابق الثاني، ينثر أوراقاً برّاقةً بجدّية لا تليق به!
وفي الوقت ذاته خفَت ضجيج المهرجان من حولهم، إذ استخدم جوشوا أداة سحرية ليحيطهما بفضاءٍ خاص بهما وحدهما.
وبينما تحدّق إيزابيلا بدهشة في ما يحدث، دفع نووم الصغير الذي كان على كتفها وجهها بلطف ليعيده نحو ثيو.
وهناك، رأت ثيو راكعاً على ركبة واحدة. ففغرت فمها دهشة.
ومن جيبه الداخلي أخرج ناياس الروح الصغيرة صندوقاً صغيراً ممسكاً به في فمه، وقدّمه له. فتلقّفه ثيو وفتحه أمامها.
“في الحقيقة… كان من المفترض أن تكون هذه المفاجأة حين نعود معاً، إذ جهّز الجميع الأمر بينما خرجنا في نزهة قصيرة…”
لم يكونوا قد غفلوا عن خروجهما، بل تركوهما متعمّدين.
وفي أثناء غيابهما، تهيّأ كل شيء ليطلب ثيو يدها رسمياً.
لكن إيزابيلا سبقتْه بالسؤال!
لو لم تتدخّل كاساندرا لتدارك اللحظة، لضاع الترتيب بأسره.
“لا، لا أتهرّب من الزواج. بل على العكس… أريده بشدّة. أريد أن أَعِدَكِ بمستقبلي، وأن أشارككِ كل شيء.”
قالها بصدق، ورفع إليها نظره بعينين غارقتين بالحنان الذي تحبّه.
“هل تجعلينني سعيداً إلى الأبد، وتكونين شريكتي؟ لنتزوج يا بيلا.”
كان الخاتم داخل الصندوق يلمع تحت أضواء المهرجان، لكن إيزابيلا رأت أن عينيه الموجهتين نحوها أبهى من أي جوهرة.
مدّت يديها نحو وجهه، ثم انحنت بلا تردّد لتضع شفتيها على شفتيه.
“نعم… فلنفعل.”
همست بخفة، فانفرجت ابتسامة واسعة على فمه.
لكنه لم يكتفِ بقبلتها القصيرة، فنهض فجأة وعانقها من خصرها ليضمّها إليه، وطبع على شفتيها قبلة عميقة متفانية كأنها تبتلع أنفاسها.
وحين بلغت حرارة الموقف ذروتها، جاء صوت كاساندرا ساخراً:
“أُف… عاشقان.”
أدارت ظهرها متذمّرة:
“على كل حال، أنهيتُ مهمتي. سأذهب لأشرب شيئاً.”
“ا… انتظريني! أنا معك!”
صاح إدوارد، ملهوفاً ليهرب من المشهد المربك.
أما دايفيد فمضى بصمت، بينما جوشوا اكتفى بابتسامة رقيقة.
وأخيراً التقت عينا إيزابيلا بعيني ليكاردو، الذي ابتسم قائلاً بنبرة مازحة وهو ينحني بخفّة:
“أبارك لكما، يا صاحبة السمو دوقة إلادور، ويا دوق لويد.”
ثم تمادى بخطوة إلى الوراء وهمس لهما وحدهما:
“إن أثقلكم أحدكما يوماً، فبيت الماركيز دو ماكا مفتوح دوماً لصديقنا الروحاني ولحبيبته.”
ثم أضاف مبتسماً:
“لكنني واثق أنكما ستعيشان من السعادة ما يجعلكما لا تفكران بالمجيء أبداً.”
لوّح لهم، ثم لحق برفاقه كاساندرا وإدوارد واضعاً ذراعه على أكتافهم.
كان كل واحد منهم علاقة ثمينة، وذكرى غالية.
وبعد انصراف الجميع، بقي ثيو وإيزابيلا وحدهما.
[بيب! كووو؟]
روحاهما الصغيرتان نووم وناياس، راحا يحدّقان في الخاتم وكأنهما يستعجلانهما.
لم يشأ ثيو أن يطيل انتظارهما، فأمسك يدها وأدخل الخاتم في إصبعها. وكان الخاتم ملائماً لها تماماً.
ثم تشابكت أصابعه بأصابعها وأمسكها بقوّة.
“بيلا.”
“نعم.”
رفعت رأسها، فالتقت نظراتها بابتسامة حانية أحلى من أي كلام.
اقترب منها حتى لامس أذنها وهمس:
“فلنذهب إلى البيت.”
ارتجف قلبها مع تلك الكلمات، وتفتحت ابتسامة على شفتيها.
أن يكون هناك بيت تعود إليه معه، وأن تُختتم أيامها إلى جانبه…
كان ذلك في نظر إيزابيلا أسعد كلمات سمعتها في حياتها.
النهاية –
****
إنتهت رواية لن اخدع مرتين بأجمل نهاية ممكن شفتها🩵…
الرواية فيها احداث كتييرررر عجبتني شخصيًا وحبيت شلون كل الشخصيات ماخذه حقها ولسه الجانبي ينتظرنا 🌀!
تقيمكم للرواية ؟
تقيمكم للترجمة ؟
أخيرا يا أصدقائي ادعو لوالدتي واخي واخي الصغير بالرحمة🩵 ولجميع المسلمين والمسلمات وادعو لاهلنا بفلسطين🩵
كانت معكم إستبرق او سنو 🩵 نلتقي بالجانبي بأذن الله.
التعليقات لهذا الفصل " 139"