تجمّدت إيزابيلا في مكانها كآلة تعطّلت فجأة أمام المشهد المنقلب أمام عينيها.
‘هكذا، فجأة؟’
المكان الذي بدا ماثلاً أمامها كان بلا شك عالم الأرواح.
غالبًا ما كان المرء يدخل إليه في الأحلام.
صحيح أنّها في مرة سابقة انجرفت إلى هذا المكان في وضح النهار.
حين استحضرت تلك الذكرى رفعت رأسها، فرأت مجرّة درب التبانة ممتدة بعنفوان عبر السماء الجميلة.
“مجرّة درب التبانة…”
جسر من ضوء النجوم يصل الأقدار التي لا تستطيع أن تلتقي.
لقد تأكّد ظنّها: حين يسطع درب التبانة يمكن العبور إلى هنا.
“لكن، لِمَ لم أستطع القدوم في حياتي السابقة؟”
فمنذ عودتها إلى الماضي فقط صارت قادرة على الدخول إلى هذا العالم.
وما إن همست متسائلة حتى جاءها صوت هادئ من خلفها:
“لأنك قبل العودة لم تكوني تملكين السوار الذي يعدّ بمثابة بوابة دخول.”
كان صوت رجل تسمعه لأول مرة، فاستدارت إيزابيلا بسرعة.
“وبعودتك تفعّلت أمنية السوار فانطلق أثره.”
وقف هناك رجل لم تره من قبل، يبتسم ابتسامة رقيقة. ومع ذلك شعرت نحوه بألفة غريبة.
شعره فضيّ ليس من هذا العالم، وعيناه بلون غامض، وبشرته بيضاء كالثلج.
كان في هيئة إنسان، لكنّ شيئًا فيه يوحي بأنّه ليس كذلك.
طفا على السطح ذكرى قديمة مدفونة في أعماق طفولتها.
“عمي…؟”
لم تجد ما تناديه به.
فلمّا نادته بخجل، ضحك ضحكة خفيفة وقال:
“في الماضي كما الآن، أنتِ ما زلتِ ترينني مجرد عماً. هكذا أبدو لكِ.”
وكانت الأرواح مجتمعة من حوله؛ كاسا ترفرف في الأرجاء، وسيلف يلتصق بقدميه، ونووم متشبّث بخصلات شعره، وناياس متمدد فوق رأسه.
هالة لا تُقاوم كانت تشعّ من حوله.
ملابسه أشبه بقطعة قماش مرخاة، وخطواته المتقدمة نحوها حافية بلا شيء يغطيها.
قال وهو يأخذ الثمرة من يدها برفق:
“هذا ليس مما يُؤكل للبشر.”
وما إن لمسها حتى استعادت الثمرة جَمالها بعدما كانت يابسة كأنها ارتدت عبر الزمن.
حين رأت ذلك تذكّرت اليوم الذي صنع لها فيه السوار.
“أنت هو… الذي أعادني بالزمن.”
ابتسم ابتسامة خفيفة وقال:
“ممم… لست إنسانًا على كل حال.”
كأنّه يصحّح قولها، ثم مدّ يده وربّت على سوارها برفق.
“إنها قوتي بلا شك، لكن في النهاية… أنتِ التي أعدتِ نفسك.”
“إذن كانت قوّة السوار.”
عندها انكشفت الصورة كلها.
لم تستطع في حياتها السابقة دخول عالم الأرواح لأنها لم تكن تملك السوار.
كل شيء بدأ من السوار.
“ليست قوة السوار، بل قوة الأمنية المودَعة فيه.”
“أمنية…”
‘دعنا نبقى معًا إلى الأبد.’
‘دعنا نكون سعداء إلى الأبد.’
“والأرواح التي أحبّتكم هي التي حفظت أمنيتكم.”
‘حب الأرواح سيبقى مع أمنياتكم.’
ابتسمت إيزابيلا ابتسامة واهنة وهي تفكر كم يشبه هذا الحكايات المرتبطة بدرب التبانة.
“من تكون أنت يا عمي؟”
“ومن تظنين؟”
“… أعتقد أنّي أعرف.”
فمن يملك مثل هذه القوة ويستطيع الوجود في هذا المكان، لا يمكن أن يكون إلا واحدًا.
كانت قد قرأت شيئًا من قبل:
‘صورة تقريبية لملك الأرواح.’
‘ولأنّه بدا في هيئة إنسان، فقد كانت مصداقية الادعاء محلّ شك كبير.’
لا تتذكّر لِمَ لم تستطع التحقق من الرسم يومها.
لكنها الآن لم تشكّ لحظة أنّ الرجل أمامها هو ذاته صاحب الصورة.
“لِمَ… صنعت لي ذلك السوار؟”
مجرد لقاؤها به يعني أنّه خرج إلى عالم البشر.
لم يخرج ليقابلها حتمًا، فَلِمَ إذن ساعدها؟
هل رآها بالمصادفة فقط؟ أكان الأمر لا أكثر من ذلك؟
تأمّلها مليًّا ثم ابتسم من جديد.
“أظنني أجبتكِ وقتها.”
هل فعل حقًا؟ لا تتذكر. بل لم يكن لها ذكرى بمثل هذا الجواب أصلًا.
“لأنكِ وُلدتِ تحملين أمنية.”
“… كلام غامض.”
“كان السوار هدية لإحياء ذكرى علاقة عزيزة.”
ما زال كلامه عصيًّا على الفهم.
“……؟”
نظرت إليه بوجه تائه، فابتسم أكثر وأوضح لها بعبارة أبسط:
“كنتُ أتساءل عن حال ذاك الطفل… الذي ترك حياة هذا المكان وعاد. لكن حين نظرتُ، وجدته قد عاش حياة بائسة، ثم فارق الدنيا.”
“……؟”
ارتجف بصر إيزابيلا، وقد بدأت تدرك غموضًا ما يريد أن يقوله.
“غير أنّ ذلك الطفل ترك وراءه شيئًا.”
رفع يده ببطء فوق رأسها.
“القطعة الصغيرة من دمه، التي عاد بها إلى عالم البشر الذي كان يحنّ إليه، وجعل منها أمنية ثمينة.”
“…..!”
“وكانت هدية امتنان إلى أمك، التي بقيت هنا ردحًا طويلًا تؤنس وحدتي.”
حين سمعت الجواب الذي لم تكن تريد تصديقه، كاد نفسها ينقطع.
“كانت أمنيتي أن يعود ذلك الطفل إلى عالمه فيحيا سعيدًا… لكن يبدو أنّه لم يفلح.”
“أمي…”
“لذلك كنت أرجو منكِ، أنتِ التي أصبحتي ثمرة أمنياتها، أن تحققي السعادة بدلًا عنها.”
لم تستطع إيزابيلا أن تمنع دموعها من الانهمار.
“أوفيليا إلادور.”
“نعم، ذاك كان اسم أمك.”
“آه…!”
وسقطت دموعها أخيرًا.
لماذا لم تدرك ذلك من قبل؟
‘من بين المحتالين الكثيرين الذين ادّعوا دخول عالم الأرواح، كانت أشهرهم أوفيليا إلادور، أوّل رئيسة لجمعية الأرواح.’
لقد مرّ على ذلك أكثر من سبعمئة عام.
‘بعد استقالتها اختفت أوفيليا، وحتى اليوم لا يُعرف شيء عن مصيرها الحقيقي.’
قد يتشابه الاسم، لكن من ذا الذي سيظنّ أنّها هي بعينها؟
‘ويُقال إنها حاولت مرارًا الذهاب إلى عالم الأرواح لتقضي بقيّة حياتها فيه، لكنها فشلت في كل مرة، حتى تلاشت في الهواء. وقد صار هذا هو القول السائد بين الروحانيين.’
لكنها بالفعل كانت قد جاءت إلى هنا.
أمها أوفيليا وأوّل رئيسة لجمعية الأرواح، عاشت هنا كما ادّعت بجوار ملك الأرواح.
ثم في لحظة حنين، عادت إلى عالم البشر.
لكن عند عودتها كان قد مرّ سبعمئة عام.
وبما أنّها روحانية الأرض، فقد هوت في الصحراء حيث تتركّز قوى الأرض.
‘يوم وجدتها في الصحراء… ذاك اليوم كان عليّ أن أقتلها!’
لكن القدر شاء أن يعثر عليها الأمير هيليبور. ومن ذا الذي يظن أن الزمن سيجعل من الروحانيين جميعًا عبيدًا؟ لقد وثقت به ولم تعلم.
“رأيتُ بؤس تلك الحياة، فألقيت نظرة على عالم البشر، فإذا به قد تغيّر كثيرًا.”
ارتسمت ابتسامة مرة على شفتيه.
“لماذا يا ترى، كل من يولد محاطًا بحب الأرواح ينتهي به المطاف إلى سوء الحظ؟”
لقد رأى بنفسه كيف انتهت حياة الروحانيين الكبار إلى الفناء.
مسح بيده دمعة تلمعت في عيني إيزابيلا، فامتزجت بروح الماء وتسللت إلى أعماقها.
“لهذا أردتُ أن تحافظي على السعادة بدلًا من أمك.”
نسيم لطيف انطلق من أطراف أصابعه، أحاط بها بدفء، ثم انساب إلى السوار.
“اعتبري نفسك هدية تركتها أمك عبر يدي.”
فقد كان بفضلها لم يعرف الوحدة طوال ذلك الزمن الطويل، فكان هذا ردّ جميل.
الريح التي دارت حول السوار تسلّلت إلى أعماقها.
“أنتِ طفلة وُلدت تحملين النار والأرض معًا.”
لقد تعاقدتِ أولًا مع روح الأرض، فصرتِ روحانية الأرض، لكنك وقد ولدتِ بمحبّة ملك الأرواح كان بوسعك أن تكوني أيًّا من الاثنين.
“النار لكِ… فلا تدعيها تبتلعك.”
النار كانت دومًا تسلب منها كل شيء: بيت الدوق لويد، وثيودور، وحتى ولي العهد في حياتها السابقة كذلك.
لذلك كان كلام ملك الأرواح مختلفًا في وقعِه عليها.
وما إن أنهى كلماته حتى شعرت بوعيها يبهت، لقد حان وقت مغادرتها لعالم الأرواح.
“أكانت أمي سعيدة هنا؟”
سألت بسرعة، وكأنّ عليها أن تعرف الجواب.
قالت ذلك والدموع ما زالت على وجنتيها، تحدّق برجاء شديد. فضحك وقال:
“حين كانت هنا نعم، عاشت بسلام. لكن أكثر لحظاتها سعادة… كانت حين أصبحت أمّك.”
“…….”
فنظر إليها مبتسمًا وقد قرأ في عينيها سؤالها: ‘كيف عرفت؟’
“ولولا ذلك، لما ظلّت أمنية قوية بهذا القدر راسخة في قلبك.”
وجود إيزابيلا كان بحدّ ذاته دليلًا على سعادة أوفيليا.
“ألم أقل لكِ إنك وُلدتِ تحملين أمنية؟”
همس بذلك ثم انحنى ليطبع قبلة على جبينها، فانسكب جزء من قوّته في داخلها.
“ولِمَ لا تحتوين النار والأرض معًا؟ وإلا فستغتمّ أبناء النار.”
كان صوته المرح آخر ما سمعت قبل أن ينقلب مشهدها.
لتعود إلى كوم حيث اللهب كان يتصاعد عاليًا إلى السماء.
***
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام كملفات، وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 136"