لن أخدع مرتين [ 135 ]
الشيء المزعج حقًا أنّ تلك الهيئة الأنيقة التي بدا بها فايتشي كانت مرشوشة ببقع دم.
ابتسم ابتسامة مقيتة، فما كان من إيزابيلا إلا أن رمقته بصمت بنظرة حادة.
“أبحث عن نُزُل قريب.”
واصل بكل وقاحة ترديد عبارات لا تُمحى من ذاكرتها.
“هلا تتكرمين بمرافقتي؟”
“حقًّا طريقة غريبة لردّ الجميل.”
ارتفع طرف شفتيه بابتسامة مريبة:
“أرأيتِ؟ ما زلتِ تتذكرين كل شيء.”
أخذ يمرر أصابعه الطويلة على شفتيه وهو يهمس:
“أما قلتِ يومًا إنك لم تتذكري؟”
“وهل كنتُ سأجعل أمرًا كهذا عالقًا في قلبي؟”
كان يقصد يوم تظاهرتْ بعدم معرفته حين التقيا مجددًا في العاصمة.
وحين أجابته بنبرة تنم عن استهجان، شبك فايتشي ذراعيه وأخذ يمسح على ذقنه مواصلاً:
“أمر غريب. أو لعل الأصح أن أقول إنه مثير للدهشة.”
كانت عيناه هذه المرة صافية تحمل محض الفضول وهو يحدق بها.
“لماذا……؟”
“…….”
“أقسم أنني أريد معرفة السبب بصدق.”
همس كمن يطالب بإجابة:
“ما الذي كنتِ تعرفينه، أو بالأحرى، كيف عرفتِ؟ لماذا كنتِ تتحاشينني وترفضينني منذ البداية؟”
سؤال مهما أجهد فكره لم يجد له جوابًا. كان قد تساءل في الماضي، لكنه لم يعثر على حل.
“لِمَ كرهتِني إلى هذا الحد؟”
“…….”
“هل خمّنتِ أنني كنتُ أختلس الرسائل؟ لا، امرأة مثلك لا يمكن أن تُضمر لي هذا القدر من النفور والحذر لمجرّد ذلك.”
كما كانت إيزابيلا تعرفه حق المعرفة، صار هو الآخر يعرفها جيّدًا.
“أنت لستِ امرأة بهذه البساطة.”
كان من الواضح أنّه يرفع من قدرها.
“حتى الآن، جئتِ إلى هنا وكأنك تعلمين كل شيء. بل وحدكِ. إلى هذا الحد تفهمينني…….”
فمتى؟
ولماذا؟
وكيف؟
“أليس الوقت قد حان لتبوحي بالحقيقة؟”
ساد الصمت برهة.
كان سؤالًا في ظاهره يسيرًا، وفي حقيقته يقتلع جذور أعماقها.
“متى بدأتُ؟ هاه…….”
ابتسمت إيزابيلا ابتسامة واهنة ورفعت رأسها.
كانت الشمس تميل إلى المغيب، حمراء كاللهيب الذي ابتلع نهايتها ذات يوم.
وبين ألسنة الغروب كانت دروب النجوم تتلألأ شيئًا فشيئًا، لتظهر حين يختفي النهار.
“لقد مضى أكثر من عشر سنوات.”
ضيقت عينا فايتشي.
عشر سنوات؟
حين ماتت أوفيليا؟ لا، بل أبكر من ذلك. عائلة الدوق لويد أُبيدت قبلها بوقت طويل.
إن كان قبل عشر سنوات، فذاك زمن مقتل أورلاندو ماكا والد ليكاردو.
لكن لا يمكن أن يكون ذلك سبب حقدها عليه.
فما الأمر إذن؟
وبينما ما زالت علامات الاستفهام على وجهه، أضافت إيزابيلا:
“إنها حكاية من زمنٍ معوجّ.”
ضحك فايتشي ضحكة صغيرة كأنما كان ينتظر هذا الجواب.
“فكرة لا يُعقَل أن تُقال، لكنها في ذاتها أوضح ما يكون.”
تمتم بكلمات مبهمة، ثم واصل:
“كنتُ أظن أنني لم أجد الجواب مهما حاولتُ، وربما لهذا السبب تحديدًا بدا الأمر معقولًا.”
“…….”
وحدق فيها بملامح غريبة تحمل ارتياحًا.
“قولي لي. كيف كنتُ في ذلك الزمن؟”
“مزعجًا كما كنت دائمًا.”
“هاهاها!”
انفجر ضاحكًا على جوابها الصريح.
“كنت أريد أن أعرف، هل حققتُ ما أردت؟”
“العَرْش؟”
فاكتفى بابتسامة دون رد.
“لا أدري. فقد متُّ قبله.”
“ها.”
ضحك بخواء إذ جاء جوابها موافقًا لما كان في باله.
“لكن لا بد أنني نجحت. تخلصتُ من ليكاردو وثيو وجلالة الإمبراطور وحتى من شقيقي.”
لم يكن هناك من يوقفه.
“ولهذا حَرَّفتِ مجرى الزمن لتوقفي خطاي؟”
لم تجب إيزابيلا.
فلم تكن هي من حرف الزمن أصلًا. ما زالت حتى الآن لا تفهم سبب عودتها.
“قلتِ إنني متّ.”
“لقد احترقتَ حيًّا.”
قالتها كأنها تقدم له عزاءً بديلًا، فابتسم بسخرية ومد ذراعه جانبًا.
“إغنيس.”
كان كفه يقطر دمًا.
تضايقت إيزابيلا من ذلك المشهد.
وكذلك من هذا السكون الموحش المحيط به.
ومن ظهوره والدم يغطيه.
عند قدميه استُدعيت إحدى أرواح إغنيس.
“الناس… ماذا فعلت بهم؟”
“آه، لا تقلقي. إنهم بخير.”
“…….”
“فقط هيّأتُ مكانًا من أجل ختامٍ جميل لي ولكِ.”
طوال الحوار، كانت إيزابيلا تُحرّك كلاي باحثةً عن وقع أقدام الناس.
وفي اللحظة التي نطق فيها فايتشي بتلك الكلمات، عثرت عليهم أخيرًا. كانوا جميعًا متجمّعين داخل دار الأيتام.
لقد حاصرهم هناك. فحتى من غير أن تتأكد، شعرت بقوة الأرواح تحيط بالمكان.
لقد استخدم نار الأرواح ليمنعهم من الخروج.
حقًا، كما قال، أعدَّ مسرحًا لا يخصّ سوى الاثنين فقط.
“يُقال إن النهاية ما هي إلا بداية جديدة.”
التقط إغنيس بيده، ثم أخرج شيئًا من جيبه.
حتى إغنيس بدا مذهولًا، وكذلك اتسعت عينا إيزابيلا.
“أما زال هذا موجودًا…؟”
“مضحك، أليس كذلك؟ حتى أمي التي بدت وكأنها أعطتني كل شيء، أخفت عني وسيلتها الأخيرة.”
لم يكن شيئًا تبقّى له، بل ما تركته الإمبراطورة كوسيلة أخيرة.
“كان لا بد من تلك التضحية… من أجل بداية جديدة.”
ارتسمت على وجه إيزابيلا ملامح ذهول مرعب.
“مجنون… في الزمن المعوج كنتَ مجنونًا أيضًا، لكنك على الأقل لم تكن عاقًّا.”
لقد قتل الإمبراطورة بيديه من أجل تلك الثمرة.
“عاقّ…؟”
تمتم وكأنه جُرح من الوصف، غير أن كل أفعاله لم تكن سوى قبح مقيت.
“ألن يكون بمقدوري البدء من جديد؟”
“أتظن أنك إن قتلتني ستعود بالزمن؟”
“لو قتلتكِ، فأنتِ التي ستعودين، وهذا لا يفيدني بشيء.”
ثم همس بنبرة رخوة، ودسّ الثمرة في فم إغنيس قسرًا.
تململ إغنيس رافضًا، لكنه في النهاية ابتلعها. وكان رد الفعل مباشرًا.
لم يكن مثلما يحدث إن أكلها مستحضر الأرواح.
فاللهيب انفجر صاعدًا، وبدأ يلتهم توافقيات الأرواح كلها من حوله، حتى تلك التي في الهواء.
حين يبتلعها مستحضر الأرواح، يُمزّقه فائض التوافق.
أما وقد ابتلعها الروح نفسه، فكانت النتيجة أضعافًا مضاعفة.
بدأ جسد إغنيس ينتفخ ويتضخّم، وصار كأنه روحٌ عليا.
مع أنه روح متوسط، إلا أن قوته فاضت بقوة روحٍ من الطبقة العليا، وظل يمتص التوافقيات بلا توقف.
“…….!”
شعرت إيزابيلا حتى بطاقة جسدها تُسحب بقوة مذهلة.
“كيااااا-!”
لم يعد يُعرف أهو روح أم وحش، إذ أخذ يزمجر ويضرب الأرض، فتتصاعد النيران ملتهمةً كل شيء.
“كلاي!”
استدعت روحها العليا لصدّه، لكن الوحش صار يقارب الأرواح العليا في قوته.
“تعلمين أنك لن تتمكّني من الوقوف في وجهي، فما الذي تحاولين فعله….”
وفجأة، فعل ما لم يخطر ببال.
“إلغاء.”
رفع توافقه من أعماق جسده وقطع عقده مع إغنيس.
“وهذا كان آخر أرواحي.”
ارتجف صوت وكأن شيئًا تحطّم، ثم ابتلعته النيران.
شحب وجه إيزابيلا.
“مجنون…!”
لم تكد تكمل حتى دوّى ضحكه الهستيري.
“هاهاها! كل شيء سيبدأ من جديد!”
“كلاي، أخرجه من هناك حالًا!”
لكن كلاي لم يستطع الاقتراب.
كان بوسعه صدّ النيران، لا انتزاع الرجل الذي صار كأنه واحدٌ معها.
فكلما اقترب، انتزع منه إغنيس قوته.
“أيها العالم البائس! سأعيد صياغتك من جذورك!”
كانت تعلم أنه مختل، لكن لم تتخيل إلى هذا الحد.
كيف فسّر احتراقها وعودتها إلى الماضي كدليل يدفعه إلى إحراق نفسه بدوره؟
“لماذا تُسلب قوتي على هذا النحو…؟”
كانت أول مرة يُنتزع منها توافقها. شعرت بقواها تتسرب من جسدها.
‘مستحيل أن يكون احتراقه قادرًا على إعادته….’
هكذا حدثتها نفسها، ومع ذلك تسللت إليها ريبة غامضة.
فهي نفسها لم تعرف سبب عودتها، فهل يكون حقًا لناره سرّ خفي؟
‘هل أتركه يحترق هكذا؟’
ترددت، ثم تذكّرت الثمرة في جيبها.
إن استخدمتها، لعلها تُوقف إغنيس وتنتشله من الجحيم.
“اللعنة….”
لكنها ما لبثت أن رفضت الفكرة.
لم تُرد أن تترك ولو احتمالًا ضئيلًا لبقائه.
فحتى لو انفجرت قواها هنا، لن يُصاب الأبرياء، إذ لا أحد غيرهما.
الأفضل أن يسحقه ترابها، لا أن يحترق، خشية أن يعود فعلًا من خلال النار.
وبسخرية مُرة، أخرجت كيس الثمرة موجّهةً نظراتها نحو فايتشي الضاحك بهستيريا.
لكن عينيها لم تقع على الثمرة، بل على معصم يدها التي أمسكت بالكيس.
كان المعصم يتلألأ بضوء صافٍ.
‘إنه رجائي الذي يحفظ رجاءكم.’
تردّد في ذهنها صوت رجل لا تتذكر ملامحه، ثم علت أصوات طفلين صغيرين:
‘دعنا نبقى معًا إلى الأبد.’
‘دعنا نكون سعداء إلى الأبد.’
وانقلب الفضاء بأسره.
****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام كملفات، وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات لهذا الفصل " 135"