لن أخدع مرتين [ 134 ]
حتى الساحر الذي كان يرافقه دائمًا، وحتى جموع سحرة برج الإمبراطورية، كلّ ذلك لم يكن سوى خدعة.
فهذا الرجل نفسه هو الساحر الذي ألقى التعويذة.
ولهذا، حين سُئل عنها لم يُجب، واكتفى بابتسامة غامضة.
“والآن، ما الذي تنوين فعله؟ أتقتلينني؟”
اشتدّت قبضة إيزابيلا على عنقه.
“كنتَ أنتَ.”
أنتَ من ألقى التعويذة على جلالة الإمبراطور، فدفع بأمي إلى الهاوية، وأسقط بيت الدوق.
وأنت من كبّل ثيو بتلك التعويذة حتى أذاقته العذاب.
وأنتَ من جعل حياتي في حياتي السابقة جحيمًا لا يُطاق.
“على أية حال، لن تقدري على قتلي. ليس لديكِ الجرأة.”
قالها وكأنه يعرف كل شيء، ثم ابتسم وهو يمسك بيدها التي كانت تقبض على ياقة ثوبه.
“لقد بذلتِ جهدًا لتكتشفي الأمر.”
التقط نظرة عينيها التي تلاشت فيها نار الغضب والاحتقار لحظة، فأضاف:
“وهذا… آخر هدية مني لكِ.”
وما إن قالها، حتى انبعث من أطراف أصابعه وهج أسود التفّ حولها. شعور خانق حاول التغلغل في روحها…
لكن لم ينجح. لم يخترق عقلها. ارتدّ السحر مبتعدًا عنها.
“م… ماذا؟!”
لأول مرة بدا الاضطراب على الأمير.
“لماذا…! كيف؟!”
لقد رأى بعينيه أنها تزعزعت لحظة، وكان يظن أن تلك الثغرة كافية لينفذ منها السحر. هكذا كان يعتقد.
لكن روحها كانت كأنها محمية بجدار خفي لا يمكن اختراقه.
كانت خطته واضحة: أن يتظاهر بالاستسلام واليأس، فيدفعها لتقترب منه بيديها، ثم يسيطر على عقلها.
وهكذا تنقلب زعيمة الجميع إلى دمية بيده، فينهار كل شيء.
لكن شيئًا ما أخفق. لماذا لم ينجح؟
لقد اهتزّت روحها فعلًا، وكان هناك ثغرة.
ومع ذلك، لم ينفذ السحر، بل بدا وكأنه امتصّ ثم تلاشى.
“لِماذا؟!”
ابتسمت إيزابيلا بسخرية وأطبقت قبضتها.
“أتدري كم عانيتُ بسبب تلك التعويذة الملعونة؟”
اشتعل صدرها بغليان وهي تستعيد كل ما عاشته في حياتها السابقة.
“أتدري ماذا صارت حياتي بسببها؟!”
صحيح أن فايتشي كان له دور كبير في دفعها نحو الهاوية، لكن بداية كل شيء كانت تلك التعويذة.
كم من الكلمات القاسية ألقتها في وجه ثيو؟ كم من المرّ أذاقته وهي تدفعه عنها بلا رحمة؟
دموعه ودموعها، الأشواك التي غرزتها في صدره، لم تصبه وحده بل مزّقتها هي أيضًا.
وانتهى كل شيء بالدمار.
حين تتذكّر أنها بينما كان هو يشق طريقها نحو الحرية، كان جسده يحترق علنًا في الساحة… يغلي الغضب في صدرها حتى لا تكاد تتحمّله.
“كل ذلك بسبب التعويذة الملعونة!”
بووم!
انغرزت قبضتها في وجه الأمير.
لطالما ظنّت أن كل ما حدث كان ذنبها وحدها.
وأنها لو كانت أقوى قليلًا لما آل الأمر إلى تلك النهايات.
لكن الحقيقة أنها لم تخطئ.
فقد كانت أسيرة تعويذة، مسلوبة الإرادة، مقطوعة الصلة بالعالم.
كيف لها أن تكون بخير؟
حين تذكّرت كلمات إدوارد: “لماذا تتصرّفين دائمًا وكأنك مذنبة؟” … أدركت الحقيقة بكل قسوتها.
نعم، كنت أحمّل نفسي الذنب طوال الوقت.
لكنني لم أكن الجانية… بل كنت ضحية أيضًا.
امتزج القهر بالغضب، ولم تعد قادرة على كبح قبضتها.
ضربة! ضربة!
“ت… توقفي! كاه…!”
أكان هذا تنفيسًا للغضب؟ أم صرخة على الظلم؟
لم تعد تميّز.
كل ما تعرفه أن كل تلك المشاعر المتشابكة تتفجر الآن في وجه هذا الرجل.
“أكره حتى النظر إليك، اختفِ من أمامي!”
تلك الكلمات التي رمتها يومًا في وجه ثيو، عادت لترتدّ على قلبها كالسكين.
“أنتِ كل عالمي، فكيف لي أن أتخلى عنكِ…؟”
توسلاته القديمة مزّقت صدرها من جديد.
صحيح أن ذلك كله صار من الماضي، لكنه بقي جرحًا غائرًا لا يندمل.
جرحًا لم تستطع أن تبوح به لأحد، حتى انفجر أخيرًا.
“لماذا… لماذا لا تنجح التعويذة؟!”
كان الأمير يصرخ، ووجهه متورّم متكدّم ينزف من ضرباتها، لا يكاد يصدق.
توقفت قبضتها لحظة، لتجيبه بابتسامة ساخرة:
“أتظن أنني سأُخدع مرتين؟”
كون التعويذة لم تنجح معها هذه المرة كان دليلًا صارخًا: حياتها السابقة لم تكن وهمًا ولا حلمًا، بل واقعًا عاشته روحها.
الأرواح نفسها التي تذكر ماضيها، حافظت في أعماقها على أثر تلك التجربة.
قد تكون التعويذة لعينة، لكنها لا يمكن أن تُستعمل مرتين على الروح ذاتها.
أما الأمير فلم يكن ليدرك ذلك.
“لكنني… لم ألقِ عليكِ تعويذة من قبل…!”
بووم!
“أغغ!”
قبل أن تهوي قبضتها مرة أخرى على وجهه، أوقفها أحدهم بإمساك معصمها.
التفتت فإذا بثيو قد أمسك بمعصمها.
“…… يدكِ ستتأذى.”
كان بصره منصبًّا على قبضتها المتورمة. لقد شعر بأن انفعالها يزداد حِدّة، فهرع إليها قلقًا.
كان العبيد قد عاد نصفهم إلى رشدهم بفضل استنزاف ليكاردو وثيو كامل طاقتهما التوافقية.
“جلالتكِ. أظن أنّكِ قلتي إنكِ ستمنحيتي فرصة كذلك.”
قالها إدوارد الذي تقدم مع ثيو نحوها، مشيرًا إلى الأمير وقد صار كالعجين.
“أنا أيضًا لي حساب طويل مع هذا الرجل.”
فأرخَت إيزابيلا قبضتها. وفي اللحظة التي حاول فيها الأمير اغتنام الفرصة للهرب، غرس إدوارد سيفه في ساقه.
“آاااه!”
شدّ ثيو إيزابيلا إلى صدره ليحجب بصرها.
“اتركي مثل هذا لإدو.”
وكانت قبضته الحانية تلف أصابعها المتورمة، فيما ناياس يداويها بحذر.
“هاه…….”
تمكنت إيزابيلا من استعادة هدوئها بصعوبة بين أحضان ثيو. وأسندت جبينها إلى صدره وأغمضت عينيها.
“آسفة يا ثيو.”
“ما الذي يجعلك تعتذرين؟”
أجاب بدهشة، لكنها لم تفسر. فالأمر قصة زمن لن يعرفه ثيو ما دام حيًّا.
“لو قلتُ إنني شعرتُ بالراحة بعد أن أشبعتُ ذلك الرجل ضربًا…… ألن يبدو هذا غريبًا؟”
“أبدًا.”
“ألن تخيب آمالك بي؟”
“ولِمَ يخيب أملي؟”
ابتسمت إيزابيلا بضحكة قصيرة على جوابه البديهي.
“صحيح. أنت…… لستَ ممن يخيّب أمله من مثل هذه الافعال.”
ذلك الرجل الذي كان يغفر لها حتى أشنع أفعالها، فكم كان قلقها بلا طائل.
استنشقت بعمق ثم زفرت طويلاً، فإذا بصراخ الأمير يدوّي:
“إن قتلتموني فلن تعرفوا أين يختبئ فايتشي!”
توقفت يد إدوارد، الذي كان يمزّق جسده تمزيقًا، ثم رمق إيزابيلا بنظرة مستفهمة.
لكنها هزت رأسها.
“لا يهم.”
“ت، تمهلي……!”
“سوف يزحف بنفسه عاجلًا أم آجلًا. فذلك طبعُه.”
“ثم إني…… أظنني أعرف مكانه.”
“أمرك، جلالتك.”
مع جواب إدوارد، أدارت إيزابيلا رأسها بلا تردد. وبعد لحظات، خمدت الصرخات وانحلّت قيود السحر عن العبيد.
وعاد عرش مملكة هيليبور شاغرًا من جديد.
***
وكلت إيزابيلا إلى ليكاردو أمر ترتيب ما جرى في القصر الملكي، ثم انطلقت وحدها.
‘سأذهب بمفردي.’
‘هذا خطر. لا يجوز.’
‘…… عليَّ أن أذهب وحدي.’
‘أتقولين كلامًا معقولًا؟ من يضمن ما قد يفعله؟’
‘سوف يقوم بآخر محاولاته اليائسة.’
‘وأنت تعلمين ذلك……!’
‘لذلك لا بد أن أذهب وحدي.’
حاول ثيو منعها بكل وسيلة.
‘قلتِ إنك لن تضحي بنفسكِ!’
‘أنتِ تريدين أن تتحملي العناء وحدكِ من جديد!’
‘ثيو على صواب. لمَ تذهبين وحدك؟’
إدوارد وكاساندرا وليكاردو أيضًا ثنَوْها، لكنها اكتفت بابتسامة وهزت رأسها.
‘ليست تضحية. لن أضحي بنفسي.’
كانت ستشعر بالقوة لو رافقوها.
لكن بعد لقائها بأمير هيليبور، أدركت الحقيقة.
فايتشي، لا بد أن تواجهه وحدها.
وإلا فالشوكة العالقة عميقًا في قلبها لن تُنتزع أبدًا.
وكي تطوي ماضيها تمامًا، كان عليها أن تسير وحدها.
كانت تعلم أنّه إصرار، لكنه خيارها للمضي نحو المستقبل.
وبعد أن نجحت أخيرًا في إقناعهم، اتجهت إيزابيلا إلى وجهة غير متوقعة: الإمبراطورية.
إلى قرية ريفية صغيرة عند أطراف مقاطعة ماكا.
وجهتها كانت كوم.
لكن العودة إلى ذلك المكان الهادئ لم تجلب لها فرحًا. فالمكان الذي كان هادئًا نابضًا بالحياة عادةً، صار صامتًا حتى لا يُسمع فيه سوى صفير الرياح.
حتى باستخدام قوة كلاي، لم تجد أثرًا لفايتشي.
إلى أين هرب؟
لم تجد جوابًا كلما فكرت.
لكنها أدركت حين أمسكت بالأمير أن الهرب والاختباء لا يليقان بطباع فايتشي.
كان من النوع الذي حتى إن هرب، حسب خطوته التالية بدقة.
فلم يكن السؤال “إلى أين فرّ فايتشي؟” بل “ما الخطوة التالية التي قد يدبرها؟”
الآن لم يعد له شيء.
لا سبيل للعودة إلى القصر، ولا مكان له في المملكة.
فلم يبقَ أمامه إلا محاولة يائسة أخيرة: أن يطعنها في موضع ضعفها.
وذاك كان أسلوبه المفضل.
وبينما كانت تمشي بخطوات بطيئة وهادئة، سمعت وقع أقدام يقترب من خلفها.
فتوقفت إيزابيلا. وعلى الفور خاطبها صاحب الخطوات وكأنه كان ينتظرها:
“عفوًا.”
أدارت رأسها ببطء. وكما توقعت.
“أتساعدينني قليلًا؟ لقد أضعت طريقي.”
كان الرجل الذي في هيئة أنيقة وابتسامة هادئة ليس سوى فايتشي.
****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام كملفات، وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات لهذا الفصل " 134"