لن أخدع مرتين [ 133 ]
حينها بالضبط، ابتسم الأمير ابتسامة غامضة.
وإذا بأبواب المخارج الطارئة، التي كانت موصدة، تُفتح دفعة واحدة مُحدِثة دويًّا.
لم يكن الأمر مقتصرًا على خلفية القاعة حيث يقفون، بل حتى في الأرضية انفتحت مساحات خفيّة بدت وكأنها ممرات للهروب في حالات الطوارئ.
لم يكن معقولًا أن ينوي الفرار في هذه اللحظة، فما سرّ فتحها إذن؟ تساؤلٌ لم يطل حتى بدأ يتدفّق منها أناس بملابس رثّة.
“عبيد……؟”
كان على وجوههم جميعًا طابع وسمٍ محروق.
مواضعه مختلفة، لكن العلامة واحدة: شعار القصر الملكي.
“أيها المجنون، أتريد أن تصنع جدارًا بشريًّا؟”
ظنّ أنّه إذا أقام حاجزًا من العبيد، فلن يجرؤ أحد على شقّه أو قتلهم.
لكن ذلك لم يكن عائقًا، فبوسع إيزابيلا ورفاقها اقتحامه بالقوة إن أرادوا.
“كلاي!”
استدعت إيزابيلا روحها، فظهر خلفهم وانقضّ مباشرة على الأمير.
كوووم!
دوّى انفجار هائل، وارتدّ هجوم كلاي كما لو اصطدم بحاجز غير مرئي. لم تكن قوة عظيمة، لكنها كفت لتجعله يتراجع متعثّرًا.
ارتفعت ألسنة من اللهب جعلت الجميع يتراجع خطوتين، ثم أخذ الغبار يتبدّد ببطء.
“هاه…… ما هذا…….”
توقّعوا أن تكون نارًا، لكن أن يظهر ذلك فعلًا؟
وقفت أمامهم إغنيس صغيرة، روح نارية متوسطة المرتبة.
ما الذي جاءت به إلى هنا؟
لم يكن فايتشي، فهو مختبئ بإحكام، ولا سبيل لظهوره فجأة.
لكن سرعان ما زال الغموض، إذ راحت الأرواح تتكاثر من حولهم شيئًا فشيئًا حتى غصّت القاعة بها.
ولم تكن الأرواح التي استدعتها إيزابيلا ورفاقها.
“اللعنة…….”
شتمت إيزابيلا وهي تدرك الحقيقة.
العبيد لم يُستدعَوا ليكونوا دروعًا بشرية فحسب، بل لأنهم كانوا جميعًا مستحضري أرواح.
مملكة هيليبور لم تكن مكانًا يسمح للروحانيين بالحرية، بل حوّلهم إلى عبيد. ومن بين عبيد القصر، انتُقِي أولئك الذين يمتلكون القدرة على استحضار الأرواح.
ولم يكتفوا بالممرات الطارئة، بل اندفع المزيد منهم من الباب الذي دخلت منه إيزابيلا ورفاقها.
“ألم يكن العبيد جميعًا قد أُعتِقوا؟”
قالها ليكاردو بدهشة، فأجابته إيزابيلا وهي تهز رأسها:
“إنهم واقعون تحت السحر.”
“هاها! كما توقعتِ، عرفتِ الأمر فورًا!”
قالها الأمير بارتياح وكبرياء.
“بمجرد تحريرهم، صار رفع مستوى توافقهم أمرًا سهلًا.”
في الحقيقة، لقد بدا العبيد أحرارًا، لكنهم جميعًا كانوا أسرى تعويذةٍ خفية.
“عددهم مقزز.”
تمتمت كاساندرا بضجر وهي تسحب سلاحها.
“نحن لا نجيد مقاتلة الأرواح…… فهل يجوز أن نهاجم العبيد أنفسهم؟”
سأل جوشوا، بينما عضّت إيزابيلا على شفتها.
أفضل طريقة لإيقاف الأرواح هي القضاء على مستحضريها، لكن هؤلاء كانوا ضحايا أبرياء. لم يكن في وسعها قتلهم جميعًا.
“حقًّا، إنهم جدار بشري من نوع آخر.”
غمغم ثيو، موافقًا على ما يدور في ذهنها.
ولم يمهلهم الأمير ليتخذوا قرارهم.
“اهجموا!”
فأطلق العبيد الأرواح في هجوم كاسح.
“اللعنة، صدّوا الهجوم! سيلايم!”
“كلاي!”
“إيلايم، أظهري!”
كووووم! بانغ!
اندلعت المواجهة.
صحيح أن معظم أرواح العبيد كانت ضعيفة أو متوسطة، لكن ثلاثة أرواح عُليا إلى جانب جموعٍ هائلة جعلت الموقف بالغ الصعوبة، حتى على مجموعة إيزابيلا.
والأدهى أنّ الصدمة لم تلحق بهم وحدهم، بل حتى النبلاء الذين كانوا بجوار الأمير.
“لـ… لم نتفق على هذا! قلتَ إنها ستكون مواجهة سهلة!”
“اللعنة، لم يكن علينا أن نأتي إلى هنا!”
حاول بعضهم الفرار، لكن الأرواح المسعورة لم تعد تميّز أحدًا، فهجمت على كل ما وقعت عليه أعينها.
“أتدرك مَن تجرؤ على مهاجمت—آااخ!”
“اهربوا! اهربوا فورًا!”
ساد الهرج والفوضى، وأطلقت إيزابيلا ضحكة ساخرة.
“لهذا جمعتَ النبلاء أيضًا، لتتخلص منهم معنا.”
“الابن على خُطى أبيه.”
نظرت إليه بازدراء، موقنة أنّه لا يقل خسةً عن فايتشي.
“تبًّا، إيزابيلا، إن استمر الأمر هكذا سنفقده!”
صرخ ليكاردو وهو يصدّ الهجمات المتتالية. لم يكن بوسعهم التقدّم، فالهجوم على العبيد كان محظورًا عليهم، واكتفوا بالدفاع.
في تلك اللحظة، قطّب إدوارد جبينه. كان يعرف بعض وجوه العبيد شخصيًّا، فشعر بالضيق، لكن الأمر لم يقتصر على ذلك.
“سيّدتي—أقصد، جلالتك! الرائحة!”
وبينما كان يتكلم، استلّ خنجرًا من ساقه وقذفه نحو أحد الأعمدة.
كسرعة البرق، سقط مبخر معدني ضخم، وتناثر ما في داخله فتلاشى دخان كثيف.
“هذا هو السبب! إنهم يستعملون بخورًا مخدّرًا للتحكم بالعبيد!”
كانت رائحة يعرفها إدوارد جيدًا، ويكرهها حتى العظم.
“وجود ناياس معنا يحميَنا من أثره، لكن…….”
أضاف بصوت منخفض، ففهمت إيزابيلا الأمر بأكمله.
“إدوارد، شان! ابحثا عن كل المباخر وحطّموها!”
“حاضر!”
“اتركيها لنا!”
وانطلقا بخفةٍ لا يجاريها إلا القتلة المحترفون.
“ثيو، ليكاردو، عليكم بتقييد الأرواح! اربطوا العبيد بأي طريقة، وإن استطعتم أن تُفرغوا طاقتهم الروحية فسيكون أفضل!”
“هذا سهل.”
كان الأمر أشبه بمقامرة؛ هل سينفد ارتباط الأرواح لدى العبيد أولًا، أم أنّ صِلة ثيو وليكاردو بأرواحهما ستنهار قبلهم؟
فإن خارت قواهم أولًا، انطلقت التعويذة.
“جوشوا!”
“نعم!”
تحرّك حتى قبل أن تُكمل إيزابيلا كلامها، منطلقًا للبحث عن صاحب التعويذة.
“أما أنت فسأتولى الإمساك بك بنفسي.”
قالتها إيزابيلا وهي تشق طريقها نحو الأمير مستعينة بـ كلاي.
فيما كان النبلاء يفرّون مذعورين، راح جوشوا يفتّش عن الساحر الذي ألقى التعويذة، وتوزّع البقية لأداء أدوارهم.
لم يقف الفرسان مكتوفي الأيدي، بل هبّوا لمساندة ليكاردو في مواجهة الأرواح. صحيح أن قوة البشر العاديين لا تكفي، لكنهم لم يستهدفوا الأرواح بل مستحضريها.
كانوا يقتربون من العبيد واحدًا تلو الآخر ويحاولون إخضاعهم بالقوة.
وفي غمرة الفوضى، عثرت إيزابيلا أخيرًا على الأمير.
كان هدفها واضحًا: الإمساك به. إذ بواسطته ستكشف أيضًا مخبأ فايتشي.
“ما هذا….”
كانت تتوقع مطاردة طويلة، لكن الأمير فاجأها مجددًا.
فقد تركها تقترب منه دون مقاومة.
“أي مكر جديد تُخفيه هذه المرة؟”
قبضت على ياقته وهي تشعر بشيء مريب، فأجابها بهز كتفيه باستهانة:
“قلت لك من قبل، أنوي التضحية بنفسي كي أوقع بكم جميعًا.”
أترى أنه زرع قنبلة بشرية في جسده؟
فتّشت إيزابيلا ثيابه بعينها الحذرة، لكن بدا أنّ الأمر ليس كذلك.
فالأمير يدرك أن انفجارًا مهما كان ضخمًا لا يمكنه القضاء على جماعة فيها روحانيّة عليا مثل إيزابيلا.
“أين السحرة إذن؟”
بدأت تلمح الحقيقة: لعلّه أجلى الساحر المسؤول عن التعويذة إلى مكان آخر.
“أما أولئك، فمن البداية تبِعوا الإمبراطورة. وأما من كنتُ أستخدمهم، فقد قضوا جميعًا في المعارك.”
إذًا، سحرة المملكة زُجّ بهم في الحرب، أما السحرة القادمون من الإمبراطورية فقد لاذوا بالإمبراطورة وبـ فايتشي.
قطّبت إيزابيلا حاجبيها.
هل يعقل أن يكون كل سحرة القصر قد أُرسِلوا إلى الجبهة؟
‘إذن فالساحر الذي ألقى التعويذة….’
ابتسم الأمير كأنّه قرأ خواطرها.
“حين كانوا بحاجة إليّ، كانوا يبحثون عني بشدة. لكن لمّا آلت الأمور إلى ما هي عليه، كانوا أول من تخلّى عني. يبدو أنّني كنتُ الوحيد الذي أحبّ.”
كلماته أشبه بمناحة بطلٍ مأساوي جعلت ملامحها تزداد قسوة.
“لكن إن متُّ لحمايتهم، ألن أبدو رجلًا نبيلًا؟”
“أيّ هراء هذا…. هل أرسلتَ الساحر مع فايتشي؟”
لم يجب، بل اكتفى بابتسامة غامضة كمن سلّم أمره.
بدا حقًّا عازمًا على الموت هنا.
إيزابيلا لم تفهم: لِمَ يذهب إلى هذا الحد؟ أكان يحب الإمبراطورة فعلًا؟
“أتتساءلين؟”
قالها ضاحكًا بخفة.
“كنتُ حيًّا، فعشتُ لا أكثر. بلا هدف، بلا رغبة. لم أطلب شيئًا سوى أن أختبر معنى العائلة.”
صمتت إيزابيلا.
تذكّرت أنه لم يكن ابن الملك الشرعي، وأن هوية أمه مجهولة.
عائلة… لعلّ هذا ما جعله يتشبث بالإمبراطورة وبـ فايتشي.
“لست هنا لأسمع مأساتك. أين فايتشي؟”
“ومن يدري؟ في مكان لا تطاله يداك.”
“والساحر؟”
لم يُجب، واكتفى بابتسامة مرة أخرى.
أحكمت قبضتها على ياقة ثوبه وهي تتلفّت حولها.
لا يزال المشهد يعجّ بالقتال، فيما كانت كاساندرا وإدوارد قد انضمّا إلى جوشوا في البحث عن صاحب التعويذة.
وفجأة، خطر في ذهنها خاطر أشبه بومضة نور.
“لم تُرسل الساحر إلى هناك.”
فأيًا يكن، التعويذة القديمة ليست بتلك القيمة الثمينة.
يمكن الاستغناء عن الساحر، لكن موت الأمير يعني النهاية.
صحيح أن موت الساحر يفكّ التعويذة عن الإمبراطور، لكن بعد انكشاف الأمر كله لم يعد لذلك جدوى.
فالساحر يتمّم دوره لحظة إطلاق التعويذة، وبعدها لا يعود ذا فائدة.
فكيف يُعقل أن يفرّطوا به ويرسلوه مع فايتشي، بينما الأمير يُضحّي بنفسه بالبقاء هنا؟ المعادلة لا تستقيم.
عادت عيناها لتتثبّت فيه.
“غراديوس وايت فون هيليبور.”
والد فايتشي، وأمير هيليبور.
وساحر كذلك.
“أنت هو الساحر الذي ألقى التعويذة.”
***
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام كملفات، وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات لهذا الفصل " 133"