لن أخدع مرتين [ 127 ]
ارتجّت الأرض ارتجاجاً شديداً.
“آه! الأرض…!”
“إنها تنهار!”
فجأةً غاصت الأرضية التي كانت السلالم منصوبةً عليها، فاهتزّت السلالم كلّها دفعةً واحدة.
تأرجحت بقوة، ومع سقوطها هوى الجنود الذين كانوا يتشبّثون بها.
وإذ صَعُبَ عليهم تسلّق الأسوار، غيّروا وجهتهم.
“إلى البوابة! حطّموها!”
تجمّعت قوى السحرة، فانبثقت من الأرض مطرقة عملاقة.
دَوّى الطرق العنيف حتى ارتجّت الأسوار بأسرها، لكن ما كان يحيط بالبوابة هو قوّة درع إيزابيلا.
“الآن! الهجوم الكاسح!”
لمّا تأكد السحرة أنّ قوّتها قد انصرفت كلّها إلى الأرض والجدران، أطلقوا إشارتهم للفرقة التالية.
فالجنود الذين كانوا في الخلف هرع نصفهم ليلتحق بالمعركة.
زمجر قرنٌ ضخم، وانطلق كلاي نحوهم ليصدّهم، غير أنّه لم يكن نداً لعدد الجنود الهائل المستندين إلى دعم السحرة.
ومع انضمامهم، بدا أنّه حتى لو لم تُكسر البوابة، فإنّ السور نفسه قد ينهار.
لكن عندها، حرّك ثيو يده كأنّه كان بانتظار اللحظة.
“إيلّايم.”
فأجابه صوت من مكان ما، ومعه اهتزّت الأرض.
توقّف الجنود الراكضون متردّدين.
“لكن قوّة الأرض انصبت على الجدار كلّه…!”
صرخ السحرة، فأجابهم ثيو:
“أنسيتم؟ هذا هو إقليم دوقية لويد.”
بيت لويد، السلالة التي تناقلَت قوّة أرواح الماء جيلاً بعد جيل.
وكانت الديار تُعرف أيضاً بـ”مدينة الماء” أو “جنة الأعماق”، إذ كانت القنوات تشقّها في كلّ صوب، والشلالات تنحدر من الجبال حتى تبدو من عند الأسوار.
اهتزّت الأرض، ثم تصدعت فجأة…
واندفعت المياه!
“النجدة! الأرض تنهار!”
“الماء…! إنه يتفجّر من تحتنا!”
“تراجعوا! إلى الوراء بسرعة!”
تفتّتت الأرض التي اخترقها نوّوم إيزابيلا قبل قليل، فاندفع منها إيلّايم بالمياه الجوفية إلى الأعلى.
والأرض المدعومة ببعض الأعمدة القليلة تهاوت تحت تدفّق السيل العارم.
ولم يكن ذلك إلا بداية الأمر.
إيلّايم الذي كان قد ذهب منذ وقت بعيد للاستعداد، فجّر سدّ الخزان.
فتدفّقت المياه من هناك مكتسحةً الوادي والشلال، ثم اندمجت مع مياه الجوف لتصنع مجرى هائل.
“لم أظنّ أنّنا سنلجأ إلى هذه القناة يوماً…”
إنه الساتر الأخير الذي بناه الدوق الأول من بيت لويد منذ زمن بعيد، سداً مائياً دفاعياً تحسّباً لأي طارئ.
سرٌّ توارثه الدوقات سراً عن سلف، حتى أنّ أحداً غير ثيو لم يكن يعلم بوجوده.
وثيو نفسه لم يعرفه إلا من السماع، وقد فُقِدت خرائط الدوقية في الحرائق، فلم يكن واثقاً من مكانه.
لكن أرواح إيزابيلا نبشت الأرض في أعماقها حتى اهتدت إلى الأثر، وبذلك أمكن استخدامه.
“اللعنة… انسحبوا!”
“كيف نعبر هذا الطوفان!”
لقد تكوّن نهرٌ حقيقي لا سبيل لاجتيازه، وجُرف نصف الجنود الهاجمين في التيار.
وأمام دوّامة المياه العاتية لم يجدوا سبيلاً للنجاة.
حتى السحرة وقفوا عاجزين أمام هذه القوّة الطبيعية الصرفة.
وفي لمح البصر، غدت الأسوار قلعةً مطوّقة بقناة عظيمة، وتقطّع أوصال المهاجمين.
“أبيدوا العدو!”
“هيااا!”
ما إن صدر أمر إيزابيلا حتى انفتحت أبواب القلعة الثقيلة، واندفع جنود الإمبراطورية للخروج.
أما جنود المملكة فقد فُقدت سبل انسحابهم، وانقطعت خطوط إمدادهم، ونال منهم الوهن.
لم يكن لهم أن يقاوموا جند الإمبراطورية الذين اندفعوا بسيوفهم، وقد نقص عَدَدُهم ونفدت طاقتهم.
“السماء… استهدفوا السماء!”
لجأ السحرة إلى ما فوق، حيث لا تطالهم الأرض ولا الماء.
فأطلقوا سحر الريح، يحلّقون في الجو رغم أنّه سحر يتطلّب دقة لا تناسب فوضى الحرب، إلا أنّ الضرورة ألجأتهم إليه.
“إن أمسكتم بالـمستَحضِرة، انتهى كلّ شيء!”
صرخ قائدهم، فالتُفتت العصي السحرية كلّها نحو إيزابيلا وثيو.
كانت إيزابيلا منهمكة بتسخير الأرواح لتطويق الأسوار، وثيو يركّز على جرّ العدو إلى القنوات.
كلاهما كان مكشوفاً.
“اهجموا!”
تجمّعت رياحهم في حرابٍ حادّة انطلقت صوب الاثنين.
أسرع من السهام وأشدّ وقعاً واخترقت الحواجز السحرية التي كانوا قد أعدّوها، ثم هاجمت بقوة هائلة.
رفع السحرة قبضاتهم ابتهاجاً، لكن ما لبث أن انقشع الغبار فإذا بالاثنين واقفين سالمين.
تجهّمت وجوههم.
“مستحيل… كلّ الأرواح صُرفت هناك…!”
كان من المفترض أنّ الأرواح استُنزفت كلها في الدفاع عن الأسوار والمجاري المائية، فلا يبقى لهم ما يحميهم. ومع ذلك لم يُصب أحدهما بخدش.
أيمكن أن تكون قد أسأت تقدير قوّتهم؟ هكذا خطر لها، فإذا أمامهم ينزل غزال فضيّ بديع.
تجمّعت غزلان شورييل واحداً تلو الآخر، لتقف حائلاً أمام ثيو وإيزابيلا. وما إن هزّت رؤوسها حتى تناثرت ضربات السحرة العالقة بقرونها وتبدّدت.
“أرجو ألا تنساني بدوري.”
كان المتكلّم دايفيد باتوكا، واقفاً غير بعيد.
“صحيح أنّني لست سوى روحاني متوسط، لكن تجاهلي إلى هذا الحدّ أمر مبالغ فيه.”
لطالما كانت عيناه السوداوان باهتتين لامبالتين، فإذا بهما الآن تتّقدان بلمعان حاد، أشبه بنظراته كلّما رأى شخصاً تجرّأ على مسّ شقيقته.
يا ويلي… نظرات السير دايفيد إذا غضب مخيفة حقاً.
تذكّرت إيزابيلا التقارير التي وصفت ما صنعه بمن اعتدوا على أخيها، فأرسلت رأسها يمنة ويسرة بأسى.
“أنتم هالكون الآن.”
وقبل أن يستوعب السحرة كلماتها، انقضّت غزلان الـشورييل عليهم دفعة واحدة.
وماذا عسى تكون النتيجة؟ فالأرواح التي جوهرها الريح وتُقيم في السماء بطبيعتها، حين تلاقي سحرةً يعتمدون على تعويذات الريح فحسب… لا مجال للمقارنة.
صرخاتهم تردّت في الجوّ، ثم هوت أجسادهم متساقطة نحو الأرض. وإيزابيلا تمسح بنظرها الأفق من حولها.
“هنا انتهى الأمر.”
فقد استعاد جنود الإمبراطورية مواقعهم أمام الأسوار، وأعادوا رفع الرايات وتحصين خطوطهم.
رفعت بصرها إلى القناة التي هدأت مياهها. بعض الناجين زحفوا خارجها، لكنهم ما لبثوا أن ألقوا سلاحهم أمام جنود الإمبراطورية.
ثم التفتت إلى الناحية الأخرى.
“وهناك أيضاً انتهى.”
إذ كان إدوارد ورجاله قد أطبقوا الطوق على ما تبقّى من العدو المتراجع.
كونوا على استعداد… رتّبوهم في صفّ مستقيم حتى يسهل التحرك.
ذلك ما خطّطت له إيزابيلا قبل ساعات، فحفرت ممراً سرياً تحت الأرض ينفذ إلى خلف العدو.
وكان هذا ما أقلق جوشوا، إذ خشي أن ترهق نفسها كثيراً.
لكن بينما شغلت الأسوار والقنوات خصومهم، استغلّ إدوارد الممرّ لينقضّ من الخلف.
وهكذا، لم يبقَ للجيش الملكي المحاصر خيار سوى الاستسلام.
“لقد انتهى سريعاً.”
ما زالت السيوف تتقاطع هنا وهناك، لكن من الواضح أنّ الحسم لن يتأخر أكثر من بضع ساعات.
أطلق ثيو شهقةً صغيرة متعجّباً من المعركة الباهتة، وبدا على إيزابيلا العبوس وهي تمرّر يدها على عنقها.
“ثمة ما يثير الريبة.”
لماذا كان الأمر بهذه السهولة؟
أعدادهم كبيرة فحسب، لكن بلا قوّة حقيقية. وحتى السحرة… لم يكونوا نخبة البرج السحري الذي خان الإمبراطورية، بل محض أشخاص بمهارات متوسطة.
“ألم يكن من المفترض أن يكون هذا الهجوم الشامل نحو هذه الجبهة؟”
وبينما يعتريها الشكّ، عاد جوشوا مسرعاً من الجبهة الأخرى. بدا لهاثه دليلاً على العجلة.
“كيف الحال هناك؟”
“الوضع شاحب بالقدر نفسه.”
“ما هذا…؟”
قطّبت إيزابيلا جبينها.
صحيح أنّ الإمبراطورية أقوى عسكرياً، لكن هؤلاء صمدوا عامين كاملين في وجهها.
حتى بعد انفضاض حلفائهم، لم يكن ليُتوقَّع أن ينهاروا بهذه السهولة.
وإذا بجوشوا يضيف:
“ثم… وصلت رسالة من وليّ العهد.”
وأخرج كرةَ اتصالٍ سحرية، وقد حملها بنفسه على ثقلها، مما يدل على استعجاله البالغ.
“سموّ ولي العهد؟”
“إيزابيلا.”
“أنا أسمعك، تكلّم.”
“الخطة فشلت.”
ارتجف جبينها، وحدّقت بعيني صقر في أرض المعركة.
“لا يكون…”
“ليكاردو أُسر.”
“تسك!”
أطلقت تنهيدة ممتزجة بالغضب، وضربت الطوب بقبضتها حتى دوّى الصوت.
ها قد تبيّن سبب تفاهة هذه الجبهة.
“لقد أدركوا أننا سننهي هنا ثم نزحف نحو القصر.”
الأمير قد يخرج إلى الميدان، لكن الإمبراطورة وفايتشي كانا سيظلان متحصنين في القصر.
فكان مخطّط إيزابيلا وولي العهد أن يهاجم ريكاردو القصر الفارغ ويقبض عليهما.
“إذن لهذا لم نرَ للأمير أثراً.”
لكن العدو كان أذكى؛ جعل القصر يبدو خالياً، بينما أخفى فيه كامل قوّاته النخبوية.
فايتشي ذاك… مغادرته إلى المملكة لم تغيّر من طبعه شيئاً.
لقد غفلوا؛ ظنّوا أنّ طرده من القصر يكفي. غير أنّه في هذه الأمور يبقى دائماً خطوةً أسبق من وليّ العهد نفسه.
أخذت إيزابيلا نفساً عميقاً مراراً، ثم سألت:
“هل ورد منهم أي تواصل؟”
“ليس بعد.”
“ما الذي تظن أنّهم سيطلبون؟”
“لا فكرة لدي… وأنتِ؟”
“إعدام ثيو؟ أو ربّما أنا.”
“لا أظنّهم يطمحون إلى ذلك، هم يعرفون أنّه مطلب غير واقعي.”
“فلعلّهم يكتفون بطلب نفيٍ على الأقل.”
“ليكاردو صحيح أنّه ابنُ الماركيزٍ، لكن هل يعقل أن يساوموا بالأميرة؟”
“لأنني لست أميرة شرعية في نظرهم.”
“محض خداعٍ للنفس. لو شاء وليّ العهد جعلَك أميرةً رسمية فلن يعجزه ذلك.”
“لكن إن لم يكن هذا مقصدهم…”
مسحت إيزابيلا جبينها وهي تغرق في التفكير، غير أنّها لم تجد جواباً حاسماً.
***
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام كملفات، وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات لهذا الفصل " 127"