بعد حرب طويلة دامت عامين، لم يكد الناس يتذوقون طعم السلام الذي استعادوه بشق الأنفس حتى انهار من جديد بسهولة مريعة.
ولأنهم خبروا ويلات الحرب، فقد غرق الناس في كآبة أعمق، بل إن بعضهم فقد الأمل في المستقبل تمامًا. وعلى خلاف الحرب السابقة، لم يتسرع النبلاء هذه المرة في التطوع، فيما عاش عامة الشعب تحت ضغط رهيب خوفًا من أن يُساقوا إلى التجنيد الإجباري مرة أخرى.
ومع ذلك، لم يكن بوسع الإمبراطورية أن تغض الطرف عن المهانة التي ألحقها بها المملكة. ذلك الغضب العارم وحده هو ما جمع الناس على قلب واحد، إذ أدركوا أن هذه الحرب لا مفر منها.
وفي يوم الزحف، كان المشهد مختلفًا عن المرة السابقة؛ لم تعلُ الهتافات بقدر ما خيّم جو من العزيمة الممزوجة بالحزن. جموع هائلة من الجنود غادرت العاصمة في مواكب لا تنتهي، والناس يودعونهم بقلوب مثقلة.
وبعد مسيرات دامت أيامًا طوال، وصل الجيش إلى الجنوب الغربي، وهناك تفرقت الوحدات إلى مواقعها المقررة. إذ كان من المنتظر أن تدور المعارك على طول الحدود وفي مناطق عدة، فتوزعت الجيوش لتتولى كل منها قطاعًا محددًا.
أما فرقة بيت ماكا فقد أُلحِق بها بعض جنود القصر الإمبراطوري. والسبب في ذلك أنّ القيادة أوكلت إلى ثيو، وكأنما أرادوا أن يضعوا عليه عينًا تراقبه. غير أنّ هذه “المراقبة” لم تكن في حقيقتها سوى إجراء شكلي لإرضاء بعض النبلاء؛ أما في جوهرها فكانت تعزيزًا ودعمًا إضافيًا من هارسيز.
****
“من بين كل هذه الأماكن….”
تمتمت إيزابيلا وهي على سور الحصن تتفقد محيطها بعينين حزينة.
فالقطاع الذي أُسند إلى وحدتها بقيادة ثيو لم يكن سوى إقليم دوقية لويد القديمة. لم يكن اختيار المكان اعتباطيًا، بل بدا وكأنّ القادة قد تعمدوا ذلك أثناء وضع الخطط.
ربما وُجدت أسباب وجيهة من منظورهم، لكنها في نظرها لم تكن مبررًا كافيًا. فأي معنى أن يُلقى بالإنسان عمدًا في قلب جراحه القديمة؟
‘لم تكن دوقية لويد هكذا في ذاكرتي…’
لم تعش بجوار غابات لويد سوى حتى سن الرابعة، لذا لم تكن ذكرياتها كثيرة، لكنها كانت كافية؛ إذ ظلّت الدوقية في مخيلتها خضراء زاهية، مليئة بالحياة. مكانًا كان يعجّ بالموسيقى والنور، فإذا به اليوم يتحول إلى منطقة عسكرية ثقيلة الظل.
رؤية ما آل إليه هذا المكان أثقلت قلبها.
‘إذا كنتُ أشعر بهذا الثقل… فكيف حال ثيو؟’
التفتت نحو رفيقها لترى ملامحه. وعلى غير ما توقعت، كان ثيو يراقب الجنود وهم يركّبون العتاد بوجه هادئ لا أثر فيه لاضطراب.
ولأنها تعرف ميله الدائم لإخفاء مشاعره، فقد غلب عليها القلق، فمدّت يدها وقبضت على يده بقوة.
فالتفت إليها، وعندها سألت بصوت متردد:
“هل أنت بخير؟”
قطّب حاجبيه قليلًا وعاد بعينيه نحو الجنود.
“داخل الأسوار الوضع مطمئن، لكن القتال في السهول خارجها… أظننا سنكون أقل عددًا بكثير.”
“……”
“إما أن نضع خطة لإغراء جزء من العدو إلى كمين، أو نتمسك بالتحصن داخل الأسوار دون الخروج… هذا ما أراه أنسب.”
أطرقت إيزابيلا، فليس هذا ما كانت تسأل عنه.
لم تكن تستفسر عن الخطة أو الاستعدادات العسكرية. لكنها خشيت أن تُلحّ عليه بما لا يريد الخوض فيه، فاكتفت بهز رأسها:
“لا بأس… واصل كلامك.”
ابتسم ثيو ابتسامة صغيرة وقد أدرك من نظرتها ما تقصد. وبعد أن جال بنظره حول المكان، عاد وشدّ على يدها أكثر وقال برفق:
“لا بد أنّها زيارتك الأولى هنا.”
لم تُجبه، لكنها اكتفت بالنظر في عينيه. فأجابها بطمأنينة وكأنه يقرأ كل ما في صدرها ابتسم بخفة وشبك أصابعه بأصابعها.
“هيا… سأريك المكان.”
“ثيو…”
كيف له أن يبدو بهذا الصفاء وهو يسير بين أطلال ذكرياته المؤلمة؟! قلبها يعتصره القلق، بينما هو ينظر بعينين صافيتين لا ظلّ فيها للألم.
“هيا بنا.”
قالها وهو يشدّ يدها قليلًا في دلال.
لم يكن يخفي ألمه عمدًا على ما يبدو… أم تراه اعتاد ببراعة على إخفاء كل ما يجيش بداخله؟
“حسنًا.”
اتبعت خطواته، وقد قررت ألّا تزيد من ثقل قلبه إذا كان يتظاهر بالتماسك.
***
تحوّل الإقليم إلى منطقة عسكرية، واستخدم قصر الدوقية جزئيًا كقيادة ومركز إيواء. ومع ذلك، ظل معظم القصر على حاله تقريبًا، كأن يدًا لم تمسّه.
لكن آثار الحريق ما زالت شاهدة: الجدران مسودة، والبقع المحروقة في كل مكان، والغبار يكسو الزوايا، والطقس بدّل ملامح بعض الجدران. بدا المكان كما لو أنّ الزمن توقف هنا منذ عشرين عامًا.
كان يفترض أن يثير المشهد في النفس مرارةً ووجعًا، غير أنّ إيزابيلا وجدت فيه جمالًا غريبًا، حتى أنها استغربت من نفسها لكنها لم تستطع كبح إحساسها.
خطواتهما الرتيبة في أرجاء المكان الفارغ بدت وكأنها تنتمي لعالم آخر.
“هنا قاعة الطعام. كان والدي كثيرًا ما يشكو أن المدفأة رغم كِبر حجمها ليست فعّالة بما يكفي.”
صوته الهادئ وهو يصف المكان امتزج بسكونه، كأن القصر يحدّث عن نفسه بلسانه.
“وهناك عند نهاية الممر، كانت مزهرية أمي المفضلة. كسرتها وأنا في السادسة… وما زلت أرى أن العقوبة التي أنزلها أبي بي لم تكن عادلة.”
أنصتت إيزابيلا وهي تتأمل المكان، وفجأة أدركت السبب وراء ما شعرت به.
“ثيو.”
“نعم؟”
“أنت بخير حقًا… أليس كذلك؟”
خشيت أن يبتلعه الماضي ويزيد جراحه ألمًا. لكنها الآن تراه واقفًا غير منكسِر.
ابتسم ابتسامة خفيفة وهو يزيح خصلة من شعرها:
“طالما أنك تمسكين بيدي… نعم، أنا بخير.”
لم يعد الماضي ندبة تؤذيه، بل صار دافعًا يرسّخ عزيمته وركيزةً تدفعه نحو المستقبل. حتى ذكريات ذلك اليوم المروّع لم تعد قادرة على كسر قلبه.
“ها قد وصلنا.”
يمكن رفع الظلم الذي ظنّ أنه لا يُرفع، ودفع خصم ظنّ أنه لا يُقهر إلى حافة الهزيمة.
لم تكتمل بعد كل مشاهد الانتقام والاسترداد، لكن محطة الوصول لم تعد تفصلنا عنها سوى خطوة واحدة.
قال وهو يمرر يده برفق على شعرها، ثم على وجهها:
“لم يعد هناك حاجة للاختباء، ولم يعد علينا التأقلم مع الظل، يمكننا الآن رسم المستقبل معًا.”
مسح بخفة على خدّها الذي كان مستعدًا للبكاء مكانه، ثم قال بابتسامة خفيفة:
“فلماذا إذن لا يكون كل شيء على ما يرام؟”
ابتسمت إيزابيلا ابتسامة خفيفة وقالت:
“لقد أقلقت نفسي بلا سبب.”
‘لقد أصبحت أقوى بكثير مما توقعت.’
انحنى ثيو نحوها، فوضع جبينه على جبينها.
كان عالمًا قاسيًا تجاهه؛ علمه أن يعيش بصمت، وأن الألم أحيانًا لا يُطاق، وأن الجميع كأنهم يسعون لتحطيمه.
لكن هذا القسوة أمدته بالقوة. وكانت هي السبب.
‘حتى لو كان الطريق مليئًا بالأشواك، ما دامت ممسكة بيدك أستطيع المضي قدمًا، وأيًا كانت الطرق المزهرة، من دونك لا قيمة لها.’
‘حتى لو قفزت إلى نار الجحيم، سأمسك يدك وأمضي معك.’
إذا كانت هذه المرأة لا تفارق يده، فأن لم يمضي إلى الأمام سيكون غريبًا حقًا.
همس منخفضًا:
“كم أنتِ مهمة بالنسبة لي، ربما لن يفهم أحد ذلك أبدًا.”
“نعمل على أن يكون طريقنا معًا ليس جحيما بل طريقًا مزهرًا… فاستمري معي قليلًا بعد.”
اقتربت شفتاه من شفتيها، مع نسيم دافئ يداعب شعيرات وجهها.
أكمل وعده قائلاً:
“سأملأ حياتكِ بالسعادة فقط.”
ابتسمت إيزابيلا، واحتضنته من خلف رقبته وهمست:
“أنا سعيدة بالفعل.”
كل لحظة ألم أو حزن تتحول معها إلى سعادة، فمجرد تواجده معها جعل كل يوم معجزة. ثم التقت شفتاهما وامتلأ الصمت الفارغ بحرارة أجسادهما، وأضاء ضوء القمر الخافت الأروقة المحروقة بلون فضي. والنجوم بدأت تتوضع في السماء، وعلى بعد أيام سيظهر درب التبانة.
***
“قد يكون هذا أفضل ما يمكن فعله، لكن أليس هذا إجهادًا شديدًا عليكم؟”
داخل خيمة القيادة، كانت النقاشات حامية.
“هذا لا بأس به، تركيزنا يجب أن يكون على المرحلة التالية.”
“إذا قامت القائدة إيزابيلا بذلك، سيكون التالي أسهل…”
صوت أبواق الحشد الخارجي مقطعًا الحديث:
“وااا-!”
“بوووو-!”
دخل جندي مسرعًا إلى الخيمة:
“لقد وصلوا! يمكن رؤيتهم من فوق الأسوار!”
قفز الجميع، بمن فيهم إيزابيلا وثيو وجوشوا، نحو الخارج.
وفور وصولهم إلى الأسوار، رأوا السهول الخالية ممتلئة بالعدو، كأنها جيش من النمل يغطي الأفق بلا نهاية.
قال جوشوا بعد تقدير الأعداد:
“يبدو أنهم ينوون شن هجوم شامل هنا.”
“حتى لو تجمع كل جيش المملكة هنا، فلن يكون مبالغة.”
“هل يعني هذا أنهم سيتخلون عن باقي الجبهات؟”
“أحيانًا التركيز على جهة واحدة أفضل من التشتت.”
أمرت إيزابيلا أحد الجنود بالاتصال بباقي الجبهات للتأكد مما إذا كانت الوحدات الأخرى تُركت. إذا كانت كذلك، فهذا يعني وجود حلفاء مجهولين للمملكة لم يعرفوا عنهم شيئًا.
قال أحدهم:
“غرض المملكة ليس الانتصار، بل الصمود.”
فقد خاضت الحرب بالفعل، وكان هدفها إيقاف تقدم الإمبراطورية الغاضبة لا الانقضاض عليها.
قالت إيزابيلا:
“إذا حاولوا مواجهة هذه النقطة، حيث يوجد اثنان من مستحضري الارواح العليا، فسيكون ذلك مؤثرًا حقًا.”
حتى المملكة، التي نجت من مواجهة الإمبراطورية، ستزداد هيبة إذا تمكنت من صد أقوى قوات الإمبراطورية.
لكن ثمّة تساؤل:
“لكن إذا انهارت هذه النقطة، ألا يعني ذلك الهزيمة مباشرة؟”
أجاب أحدهم بثقة:
“لا شك أنهم مستعدون لذلك.”
****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام كملفات، وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 125"