لم يكن خبر إحياء الدوقية التي اندثرت أمرًا سارًّا في نظر النبلاء المتنازعين على النفوذ.
وخصوصًا أولئك الذين انتهزوا غيابها لينهالوا عليها بالافتراء والذم حسدًا وحقدًا، فأظهروا ما في صدورهم بلا مواربة.
ومهما حاول نبلاء الجنوب الغربي أن يحيطوا أسرة لويد بالحماية، لم يكن جميع النبلاء على الموقف ذاته.
قال هارسيز وهو يزداد ضيقًا فملأ كأسه من جديد:
“إنهم لا يسمحون بمحو الوصمة، بحجة أنّه لم يُثبت البراءة المطلقة. لذلك ما زال لقب ابن الخائن ملتصقًا بهذا الشاب.”
ثم ابتسم ابتسامة باهتة قبل أن يستطرد:
“والسبيل الوحيد… لا، بل ليس محوًا بل سحقًا لذلك اللقب، أن يعود من هذه الحرب ضد مملكة هيلِيبور مظفَّرًا نصرًا كاسحًا، بحيث يحوّل المملكة كلها إلى مجرد ولاية تابعة للإمبراطورية. حينها وحده يمكن طمس تلك الصورة المقيتة.”
بمعنى أن السبيل الوحيد للتخلص من صورة المتآمر مع هيلِيبور هو تقديم تلك المملكة للإمبراطورية أسيرة.
تمتمت إيزابيلا: “إذن فالأمر لا يُحسم بمجرد الانتصار في معركة.”
فأجاب هارسيس: “بالطبع.”
وبينما زفرت إيزابيلا تنهيدة حائرة، تناول ثيو كأسه في هدوء وقال ببساطة:
“سأذهب.”
اعترض هارسيز بحدة:
“الأمر ليس بهذه السهولة! صحيح أنك كنت بطل الحرب الماضية، لكن الحظ لا يبتسم مرتين.”
ابتسم ثيو وقال في ثقة:
“وإن نظرنا إلى المسألة بالعكس بدت بسيطة جدًّا.”
قطّب هارسيس حاجبيه يسأله:
“كيف ذلك؟”
“إنهم محاصرون من كل صوب، حتى اضطروا إلى سحب جميع السحرة من الإمبراطورية. والأخبار تقول إن قصرهم الملكي غارق في الاضطراب. بل إن وفاة الملك صارت سرًّا شائعًا يتداول الناس خبره، وإن كانت المملكة ما زالت تتظاهر بالجهل.”
وتابع:
“إسقاط مملكة تتداعى من داخلها ليس بالأمر العسير. فهم مشتَّتون بين الداخل والخارج، ولن يملكوا التركيز الكافي لبذل كل طاقتهم في الحرب.”
ابتسم هارسيز بسخرية:
“نظريًّا يبدو سهلًا، لكن الفأر المحشور قد يعضّ القط أحيانًا.”
أجاب تيو بثبات:
“أعلم. لكن ماذا لو عضّ؟ هل يقتل القط؟”
ضحك هارسيز ضحكة قصيرة وهو يحدّق في وجه ثيو المفعم بالثقة.
“أتيتُ أظنه خبرًا سيئًا، فإذا به في نظركم خبر حسن.”
لقد أدرك أنه ربما أخطأ في تقدير الأمر، فبالنسبة إلى ثيو لم يكن هناك طريق أسهل من هذا.
مدّت إيزابيلا يدها تمسك بكفه وقالت بحزم:
“سأذهب معك.”
“بيلا…”
قاطعها هارسيز، على غير المتوقع:
“هذا لا يجوز. أترين أن من المنطقي دفع أميرة إلى ساحة الحرب؟”
أجابته بثبات:
“يختلف الأمر إن كانت الأميرة نفسها راغبة في الذهاب.”
“رغبة أو لا، الأمر…”
ابتسمت إيزابيلا:
“ثم إنني لست أميرة رسميًّا بعد، أليس كذلك؟”
قال هارسيز بانزعاج:
“ليس وقت اللعب بالألفاظ!”
“بل حقيقة. حتى يجري الكهنة الكبار الفحص الجيني، لا يمكن إعلان الأمر رسميًّا. وحتى لو أثبته، فمع غياب الإمبراطور عن وعيه سيجد الكثيرون سببًا للاعتراض على الاعتراف بي.”
تنهّد هارسيز وقال:
“لكن هذا لا يعني أن نزجّ بك في ساحة الحرب…”
“إن لم تذهب مستحضرة الأرواح العليا إلى الجبهة، فمن يذهب إذن؟”
ثم أضافت مذكّرةً:
“الماركيزة مولان أيضًا ستتوجّه إلى الحرب. وبذلك لن يبقى في العاصمة إلا الدوق ديرفيس وسموك، فهل تحتاج العاصمة إلى اثنين من مستحضري الأرواح العليا للأرض؟”
ضغط هارسيز أصابعه على جبهته وأطلق تنهيدة عميقة:
“لا أدري… لا أدري كيف أتعامل معك.”
فهو إن نظر إليها كأخته أراد منعها بكل قوته.
لكن إن نظر إليها كقوة عسكرية، لم يكن هناك من هو أصلح منها لصدّ العدو في الخطوط الأمامية.
أما لقب الأميرة فهو الآن ورقة غير مهيأة للاستعمال.
والأدهى أنه كان واثقًا أنّها ستتبع ثيو أينما ذهب، مهما حاول منعها.
وبينما كان يغالب صداعه، أحسّ بيد دافئة تستقر على ركبته. رفع بصره فإذا بها راكعة أمامه تنظر إليه بعينين حانيتين.
قالت بصوت رخيم:
“أخي…”
ارتجف قلبه؛ لطالما تمنّى سماع هذه الكلمة منها.
“سأعود ظافرة، فلا تقلق.”
وأضافت:
“ما عليك إلا أن تصبر قليلًا، وستحصل على دعم صلب من الجنوب الغربي.”
أي أنّها ستعيد الدوقية إلى مكانتها، وتعود بنفسها سالمة، وتحمل له النصر بيدها.
تمتم مرتبكًا:
“أنا لا أريد…”
فهو كولي للعهد من المفترض أن يكون هذا مراده، لكن قلبه لم يكن ينطق بذلك.
ابتسمت إيزابيلا وهي تقرأ ما وراء كلماته:
“لن تخسر أختًا للمرة الثانية.”
تذكّرت ما قاله ليكاردو ذات يوم: إن هارسيز أشدّ شعورًا بالوحدة مما يظهر.
بعد وفاة أمّه كان متعلّقًا كثيرًا بأوفيليا، وحين فُقدت استند على الإمبراطورة الجديدة رغمًا عنه.
بل لعلّه، بدافع شعوره الخفي بالوحدة، أغضّ الطرف عن حقيقة أنّ الإمبراطورة لم تكن صادقة في حبها للإمبراطور، مفضّلًا أن يصدّق الوهم.
فلم يكن غريبًا أن يهتزّ قلبه حين تبيّن له أنّ إيزابيلا أخته فعلًا.
همس بحسرة:
“إيزابيلا… أحيانًا تكونين شديدة المكر، أتعلمين؟”
ابتسمت: “أعتذر.”
فقال بعد تردّد: “اذهبي إذن… وعودي.”
“……عودي سريعاً.”
ذلك كان الجواب الوحيد الذي استطاع أن يقدمه في النهاية.
***
مضت أيام مضطربة مليئة بالفوضى، واقترب موعد الخروج إلى ساحة الحرب.
وبسبب الاستعدادات، أُعيدا إيزابيلا وثيو اللذان كانا يقيمان في القصر الإمبراطوري إلى منازلهما.
وإن قيل “كلٌّ إلى بيته”، فما كان الأمر في الحقيقة إلا عودتهما معًا إلى قصر ماركيز ماكا ومقر إقامته الجانبي.
“لا أدري أأقول إن هذا مدعاة للفخر، أم مثار للسخرية.”
كان ذلك تعليق ليكاردو وهو يستقبلهما، وكان يعني به خصوصًا إيزابيلا.
“هاه… لقد وافقوا على اعتبار مشاركتك في الحرب ممثلة بيت ماركيز ماكا.”
“هذا أمر مبهج.”
“أمتأكدة أنه مبهج حقًا؟”
ابتسمت إيزابيلا وهي تجيب، لكن ليكاردو لم يرَ في جوابها إلا سذاجة دفعته إلى زفرة طويلة.
“ستكونين أنتِ القائدة لقوات ماكا، فأنتِ رسمياً ما تزالين روحانية هذا البيت.”
وكانت تلك القوات تشكل أكبر قوة عسكرية يمتلكها البيت.
“لكن، بما أنك لم يسبق لك قيادة جيش بنفسك، فقد يكون الأمر صعبًا بعض الشيء. سيتبعكِ تيو كنائب قائد، وجوشوا وإيد أيضًا سيرافقانك، فاستعيني بهم في كل ما تحتاجينه.”
فعلى الرغم من كونها القائدة رسميًا، إلا أنها ستكون بحاجة ماسّة إلى دعمهم.
“أن أكون قائدة شكلية، ليس بالأمر السيئ.”
“لم أقصد ذلك… آه، لا أدري ما الذي نحن فيه الآن.”
غطّى ليكاردو عينيه المغلقتين براحة يده، وكلما أعاد التفكير بدا له الأمر أكثر غرابة.
أليست إيزابيلا أميرة؟
بل والأغرب أنه يتحدث معها بهذا التبسط، ثم يرسلها لتمثل بيت ماكا في ساحة الحرب!
إن سمع أحد بذلك، لاتُّهم بالوقاحة، بل ولربما قيل إنه يزجّ بالأميرة إلى حتفها.
“ليـ… ليكاردو.”
نادته إيزابيلا بخفة وهو غارق في زفراته، وما إن التقت عيناهما حتى قطّب جبينه.
“لا.”
لم يكن يعرف بعد ماذا ستقول، لكن كلمة “لا” خرجت منه تلقائيًا.
لقد عرفها بما فيه الكفاية؛ تلك النظرة في عينيها تعني أنها تدبر أمرًا ما.
“الأمر مرهق بما يكفي، لا. لن أسمح.”
وكأن الخروج إلى الحرب لا يكفيها، فبماذا تخطط أيضًا؟
لكنها لم تأبه، بل ابتسمت بخفة والتفتت إلى ثيو بجانبها.
“ما الأمر؟ بماذا تتآمران؟”
سأل ليكاردو بلهجة حذرة، فبدأ ثيو الكلام:
“تقول بيلا إنها لا ترتاح لمغادرتها بيت ماكا.”
“لكن وجهها لا يوحي بهذا.”
“ولهذا تودّ أن تترك شيئًا خلفها كي لا يتأثر البيت بغيابها… فتمنحك يا صاحب السعادة روحًا عليا كهدية.”
“هاه! لو كان امتلاك روح عليا يُنال بالهدايا، لفعلها الجميع!”
لوّح فيكاردو بيده ساخرًا من هذا الكلام، لكن إيزابيلا سارعت إلى مقاطعته:
“لكن قدرتكم على التوافق مع الأرواح كافية لذلك، أليس كذلك؟”
تجمدت يده في الهواء. حملق فيها كمن لم يسمع جيدًا.
لا، لقد سمع، لكنه لم يرد أن يصدق ما سمعه.
“أقول حقًا. توافقك كافٍ.”
وأشارت إلى كلاي الواقف بجوارها.
“لقد كنت تراقبه منذ قليل، أليس كذلك؟”
“وذاك أيضًا.”
أضاف ثيو مشيرًا إلى إيلايم الذي كان يتنقل في أرجاء الغرفة بلا توقف.
فقد كان ليكاردو أثناء حديثهم، يرمقه أحيانًا بنظرات استغراب، كأنه يقول: “ما باله يتصرف هكذا؟”
تزلزل بصره شيئًا فشيئًا.
“لا يكونان…”
“كلاهما في حالة تَخفٍّ.”
“…..!”
شهق ليكاردو قصيرًا.
لم يدرك ذلك مطلقًا. لم يعرف كيف تبدو الأرواح المتخفية، كان يراها كأنها تتحرك بشكل عادي.
أما الآن وقد قيل له إنها كانت متخفية، فهذا يعني أنه بالفعل يمتلك القدرة على استدعاء روح عليا.
“يا إلهي…”
مسح ليكاردو وجهه بكفيه.
“ستجعلينني أجنّ.”
تمتم موجّهًا الكلام إلى إيزابيلا وحدها.
فبعد أن أعادت له الأرواح، ها هي تمهّد له الطريق ليصير في القمة.
“بما أن الماركيز الراحل من بيت ماكا كان روحانيًا أعلى، فقد ظننت أنك قد تكون كذلك أيضًا. ولهذا اختبرتك بجعل الأرواح تتخفى.”
لفقت عذرًا بهذه الطريقة، بينما كانت تعرف الحقيقة من حياتها السابقة: فـ فايتشي هو من اكتشف أن ليكاردو يملك تلك الموهبة، وقد رأت بنفسها غضبه الشديد آنذاك، فكيف تنسى ذلك؟
“حقًا… هذا جنون.”
لم يجد ليكاردو ما يقوله سوى هذا، وهو لا يعرف شيئًا عن خلفياتها.
“فلنجرّب إذن.”
لم تخطئ بصيرتها يومًا. ما دامت تؤمن به، وما دام بجانبه صديقان يساندانه، فما الداعي للرفض؟
“لقد أحسنت القرار!”
وهكذا وبتلك الليلة بالذات، وُلد في بيت ماكا روحاني أعلى جديد.
***
دمار سببه سحرة البرج الذين خانوا وفرّوا، والفضائح التي أحاطت بالإمبراطورة والأمير، والسر المدوّي حول الأنساب.
بل حتى ذلك العار الفادح: أن أمير هيليبور والإمبراطورة قد تواطآ منذ البداية وأدارا كل شيء من وراء الستار.
اهتزّ الإمبراطورية كلّها.
وفي النهاية… أُعلنَت الحرب.
***
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام كملفات، وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 124"