بينما كانا يحتسيان النبيذ ويتجاذبان أطراف الحديث، بدا أنّ إيزابيلا وهارسيز قد وجدا انسجامًا غير متوقَّع، حتى إنّ أوقات لقائهما صارت تزداد يومًا بعد يوم.
كانا يتبادلان ذكريات الماضي التي يجهلها كلٌّ منهما عن الآخر، ويتحدثان كذلك عن حال الإمبراطور.
ورغم أنّ كبار الكهنة لم يجروا بعد أيَّ تأكيد رسمي، إلا أنّ هارسيز بدا وكأنّه قد تقبّلها بالفعل شقيقةً له.
هذا المشهد أثار في نفوس الناس مشاعر متباينة؛ فمنهم من رآه مؤسفًا، ومنهم من لم يستسغه. لكن أكثر من أضمر السخط حياله كان الإمبراطورة وفايتشي.
قالت الإمبراطورة بحدة:
“لِمَ لم تُخبِرني بشيء؟”
لم تكن العلاقة بينهما في الأساس ودّية، لكن وقد حُبسا معًا في البرج، صارت السهام مسدَّدة بينهما أكثر من أي وقت مضى.
قال فايتشي:
“أكنتم تنوون أن تُخفوا عني إلى النهاية مَن هو أبي؟”
فأجابته الإمبراطورة:
“وأنت بدورك، ألم يكن عليك أن تُخبرني بما علمتَه عن أسرة لُويد؟”
وانشغلا بتوجيه اللوم كلٌّ للآخر.
قال فايتشي:
“لو أنّكِ أخبرتني فقط بذلك اللُّويد اللعين، لكنتُ تصرّفتُ!”
“بقتله مثلًا؟”
“أتعلم ما الذي يعرفونه…!”
أرادت الإمبراطورة أن تثور أكثر، لكنها كتمت غضبها بعد تنهيدة طويلة، فقد صار الأمر مكشوفًا أمام الجميع.
قالت بغيظ:
“هل تدري أيَّ أفعال ارتكبتُ لأطمسهم من التاريخ وأُواري تلك الحقيقة؟”
لقد أحرقها الغضب، إذ انهار كل ما خططت له حتى الآن.
“كل ذلك كان من أجل حمايتك!”
قال فايتشي ببرود ساخر:
“بل كان من أجل إخفاء خيانة أمٍّ لزوجها.”
“أما تعين أنّك لو فُضِح الأمر فستُطرَد أنت أيضًا؟!”
لم يتدخل أحد لفضّ النزاع، فاستمرا في الجدال الحاد حتى أنهكهما الغضب فتوقفا.
قالت الإمبراطورة وهي تزدريه:
“تلك الثمرة التي لم يتبقى منها سوى واحدة، والتي أعطيتُك إيّاها لتستخدمها بحكمة، أأهكذا أهدرتها؟”
كاد فايتشي أن يحتجّ بأنّ فشل كل شيء سببه أنّ الماركيزة مولان لم تمت، لكنّه ابتلع كلامه. أدرك أنّ جداله مع أمه الآن لن يُجدي.
تنفّس ثم ناداها بنبرة أكثر لينًا:
“أمّاه… لقد أفسد عدم موتُ الماركيزة مولان خططي كلَّها.”
جرح كبرياؤه، لكنه فضّل أن يتنازل قليلًا، فعدوّته لم تكن خصمًا بل حليفًا لا بد من التمسك به.
“كنتُ أُعدّ خطةً بديلة تقوم على إلصاق تهمة السمّ بأسرة دوق لُويد، لكن…”
ذلك المسار قد انهار أيضًا.
“لكن لا شك أنّكِ تملكين خطة بديلة حقيقية، وليست هشّة مثل خطتي، أليس كذلك يا أمّاه؟”
أحَبّته أو أبغضته، فقد فعلت كل ذلك كي تراه إمبراطورًا.
زفرت بقوة وأومأت برأسها:
“بلى.”
قالتها بنبرة واثقة، كأنّ سؤاله تحصيل حاصل.
“أتظنّ أنّني جلست هنا أكتفي بالتمريض والعناية بالمريض؟”
فقد كانت في خفاء دخولها وخروجها، تُعدّ الكثير في الخفاء.
“لقد رتّبتُ كل شيء، وما كان عليك سوى أن تتبعني. سلّمتُك أمري، فإذا بك تخنقني بخيباتك.”
“بالطبع، أمّاه.”
شعر فايتشي بالمهانة من كلماتها التي حطّت من شأنه، لكنه ابتسم رغمًا عنه، فليس أمامه خيار آخر.
سكتت الإمبراطورة برهة، ثم قالت:
“وقل لي… لستَ متعلّقًا بهذا المكان، أليس كذلك؟”
“تقصدين القصر الإمبراطوري؟”
“نعم.”
ولأنه وُلد ونشأ فيه، كان الأمر ممكنًا، ولو قليلًا.
ضحك ساخرًا:
“شيء كهذا… لم أتعلم معناه أصلًا.”
كانت كلماته موجهة إليها، لكنها لم تفهم مغزاها وأطلقت شخيرًا متبرمًا.
“جيّد. فسيكون أمرًا مزعجًا إن قررت يومًا أن تتمسّك بهذا المكان وتدافع عنه.”
ثمّ بعثت الإمبراطورة بعيدًا عن أعين الرقباء كاسا إلى جهةٍ ما.
***
“أحيي شمس الإمبراطورية الصغيرة.”
بهذه التحية انحنى ثيودور أمام وليّ العهد حين دخل قصره استجابةً لاستدعائه.
قال وليّ العهد وهو يتأمله:
“أشعر أنّك في هذه الأيام أكثر انشغالًا منّي.”
فأجاب ثيودور بوقار:
“ذلك بفضل نِعَم سموّك.”
لقد وضعه وليّ العهد في قصر النار لمراقبته، غير أنّ عدد النبلاء الذين يتوافدون للقائه كان يفوق التوقع.
وكان قد منح الإذن لكل من شاء أن يقابله ما دام اللقاء يجري تحت أعين الرقباء، فصار القادمون إليه بلا حرج.
كان الأمر يثير حيرة هارسيز؛ فمن الطبيعي أن يتجنّب الجميع رجلاً يحمل دم الخائن، لكن العجيب أنّهم على العكس تسابقوا إلى لقائه.
قال وليّ العهد بفتور:
“لستَ أنا من يستحق الشكر، بل…”
ثم قطع كلامه بزفرة طويلة.
لقد كان تردده في شأن ثيودور لعدة أسباب.
أولها أنّ معظم نبلاء الجنوب الغربي قد اتحدوا في كتلة واحدة، يرفعون العرائض الواحدة تلو الأخرى لنفي التهمة عن أسرة لُويد.
والأعجب أنّ عدد المشاركين في الأمر كان كبيرًا إلى درجة تدعو للتساؤل: كيف لزموا الصمت طيلة ذلك الوقت؟
فمنهم من كان يراقب الإمبراطورة مترقبًا سقوطها، فلما خبا نفوذها انقضّوا على الفرصة.
ومنهم من اعتبر أنّ انقراض ذرية لُويد أنهى الجدوى من الدفاع عنهم، فتراخوا.
لكنهم جميعًا ولأسباب شتى، ماطلوا وتردّدوا حتى اتفقوا الآن.
مع ذلك، لم يكن اجتماع النبلاء هو ما حيّر وليّ العهد، فقد كان مألوفًا أن يتكتلوا أحيانًا لنيل امتيازات تنمية أو أعطيات.
المشكلة الحقيقية كانت في شخصين آخرين.
أولهما صديقه ليكاردو ماكا، الذي لم يكفّ عن سؤاله بين الفينة والأخرى: “ما الذي ستفعله بثيودور؟”
لم يكن يدفعه إلى اتخاذ قرار بعينه، بل محض فضول ثقيل الوطأة.
أما الأكثر إزعاجًا فكانت إيزابيلا.
فقد قالت له صراحة:
“إن نبذتَ ثيودور فكأنما نبذتَني.”
هددت بأن ترفض حتى امتحان الكهنة الكبار إن هو أعرض عن ثيودور.
ورغم أنّ تخلّيها عن لقب الأميرة أمر شاق، لكنه محتمل الحل.
غير أنّها أصرّت على أنّها ستقف إلى جانب وريث لُويد مهما حدث.
قالت بجرأة أذهلت وليّ العهد:
“نعم، سأكون متمرّدة بكل سرور. فأنا ابنة أمرأة اتُّهمت بقتل جلالة الإمبراطور، فما الضير أن أكون خائنة أيضًا؟”
كادت كلمتها تُسقط قلب هارسيز من مكانه.
حتى بعدما أقرّت ببراءة أوفيليا وبيت لُويد من التهمة، فإنها لم تتراجع.
وحين وصف كلامها بأنه ضرب من الانتحار، أومأت بخفة.
“أعرف. لكن ما قيمة عالم يخلو من ثيودور؟”
قيل إن العاشقين يسهل التعامل معهم، لكن في الوقت نفسه، لا وجود لأشد جنونًا منهم.
ولم يجد وليّ العهد وسيلة لإقناعها.
تمتم ساخطًا، وصوته مسموع:
“حقًّا، أتريدون منّي أن أجعل اثنين من كبار مستحضري الأرواح أعداءً للإمبراطورية؟”
ابتسم ثيودور ابتسامة متكلفة، وقد فهم تمامًا مَن هما “الاثنان”.
ارتكز وليّ العهد على مسند كرسيه وضغط أصابعه على صدغيه وهو يزفر في ضيق ونظراته إلى ثيودور لا تخفي استياءه.
وفجأة جاء صوت المعلن:
“الآنسة إيزابيلا مستحضرة الأرواح وصلت.”
لم تُعرَّف بلقب الأميرة، إذ لم تستعده بعد.
انفتحت الأبواب، ودخلت إيزابيلا مرتديةً ثيابًا أنيقة، وقد بدا أنّها أولت مظهرها عناية خاصة هذا اليوم.
قالت وهي تنحني بخضوع:
“أحيي على الشمس الصغيرة.”
ورغم أنّ وليّ العهد طلب منها مرارًا أن تتصرف بعفوية، رفضت ذلك ما دامت لم تُعترف بها رسميًا كأميرة، وكان هو يدرك أنّها إنما تضع حدودًا متعمدة إلى أن يُحسم أمر ثيودور.
أشار إليها بيده:
“اجلسي.”
رفعت رأسها، وما لبثت أن حوّلت بصرها مباشرة إلى ثيودور.
وما إن التقت عيناهما حتى تبادلا ابتسامة دافئة كادت تذيب ما حولها.
اقترب ثيودور منها بحجة سحب كرسيها، وقبل أن يعود إلى مكانه، التقت أصابعه الصغيرة بأصابعها للحظة خاطفة قبل أن تنفك.
تنهد وليّ العهد بلا صوت وهو يراهم، كأنّه دخيل ثقيل في هذا المشهد.
قال بسخرية مكتومة:
“لِمَ لا تلتقيان وحدكما في المرة القادمة؟”
لقد منع لقاءهما من قبل بحجة حمايتها، لكنه اضطر الآن لترتيب مأدبة كهذه بعدما رآها تذوي كالمريضة من فرط الشوق.
غير أنّه إذ جمعهما، شعر أنّ انسحابه سيكون أفضل.
فهو يلحظ الفرق بين وجهها حين تأتيه وحده، ووجهها حين تأتي ومعها ثيودور.
رغم أن كليهما مهيأ بعناية، إلا أنّ في مظهرها اليوم لمسة زائدة، وفي عينيها بريقًا لم يُرَ منه نصيب.
إن تمييز العاشق أمر يسير.
قالت معتذرة:
“عذرًا، بدا لي وكأنّنا نلتقي بعد زمن طويل.”
لوّح هارسيز بيده كأنّ الأوان فات على الاعتذار.
“كفى. أنتِ التي قلتِ إنكِ على استعداد للخيانة من أجل حمايته. فماذا عساني أن أقول؟ هيا لنتناول الطعام.”
“سموّك…”
قاطعها:
“بل الأهم أنّكما تعرفان شيئًا عن ذلك الذي يُسمّى بثمرة الأرواح. أردت أن أسمع منكما.”
صحيح أنّه أراد أن يجمعهما، لكن همّه الأكبر كان تلك الثمرة.
“حتى جمعية الأرواح بحثت في الأمر، ولم تجد له أثرًا في السجلات. والإمبراطورة أنكرت جهلها به.”
استدعى الماركيزة مولان التي جربت الثمرة بنفسها، لكنها لم تعلم سوى أنها تلقتها من فايتشي.
قالت إيزابيلا:
“لا أعرف الكثير، لكن ما أعلمه أنّ الحصول عليها ليس بالأمر اليسير.”
فعقّب وليّ العهد:
“ومع ذلك، ألم تنجح أوفيليا مستحضرة الأرواح في الحصول عليها؟”
وهي كانت وقتها مجرّد جارية.
لم يُكمل ما في ذهنه، لكن إيزابيلا أدركت تمامًا مراده.
****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام كملفات، وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 121"