كان المساء قد أرخى سدوله، وكان ليكاردو غارقًا في بحر من الأفكار.
‘هارسيز… يا ترى…’
إلى أي جانب سيميل؟
هو شخص عطوف، لكنه في الوقت نفسه يعرف كيف يفرّق بين العام والخاص.
لا شك أنه لن يدين فايتشي لمجرد كونه من الجانب المعارض له.
لكن، هل يملك هو ومن معه من الأدلة والشهود ما يكفي لقلب الموازين؟
كلما فكّر في الأمر، شعر أن ذلك غير كافٍ.
كان يدير القلم بين أصابعه بلا انقطاع، غارقًا في تردده وحيرته.
فجأة قاطع صوته الداخلي صوت آخر:
“تبدو منشغل الفكر.”
رفع رأسه ليرى مصدر الصوت.
“أمي…”
رأى أندريا واقفة عند الباب، فهبّ واقفًا من مجلسه.
“متى وصلتِ؟”
ابتسمت ابتسامة هادئة وهي تجلس عند طاولة الضيافة، مشيرة إليه أن يجلس أيضًا.
“أود أن أعرف ما الذي يشغلك حتى لم تسمع طرقات الباب ولا صوت قدومي.”
ثم سكبت كأسين من الويسكي، ودفعت واحدًا أمامه، متجاهلة إيماءته التي توحي بأنه سيفعل ذلك بنفسه.
“إن لم ترد الحديث، فلا بأس.”
غير أن ليكاردو كان يعرف الحقيقة:
“ألا تكونين قد جئتِ وأنتِ على علم بكل شيء؟”
فالشائعات تجوب العاصمة، ولا يعقل أن تجهلها.
فضلًا عن أن جميع المتورطين على صلة وثيقة ببيت الماركيز ماكا.
ابتسمت أندريا ابتسامة خفيفة وقالت بنبرة ساخرة:
“يومًا تخرجون في جولة فتجعلون الوادي في حالة مزرية…”
لقد وصلتها تقارير عن كل ما اقترفوه.
“ثم تتشاجر مع نائبك الذي لم أتخيل يومًا أن تتخاصم معه، ليعود أحد الروحانيين جريحًا…”
كانت تعلم كل شيء تقريبًا، وإن لم تدرك التفاصيل الدقيقة، لكنها عرفت الإطار العام.
“أنا عادة لا أتدخل في أمورك، فأنت قادر على إدارة شؤونك.”
فهي تؤمن بابنها؛ صحيح أنه أحيانًا عاطفي، لكنه حكيم في قراراته.
ةلكن إن كان الأمر سيمس بيت الماركيز، فلا بد أن أكون على بيّنة.”
ليس لتتدخل في ما يفعله، بل لتستعد للمستقبل.
أرطبت شفتيها برشفة من الويسكي، وعيناها لم تفارقا عينيه.
قال ليكاردو بهدوء:
“لا بد أن لكِ كلامًا تريدين قوله، وإلا لما جئتِ.”
“أيمكن أن أقول إنني جئت لأسمع كلامًا منك؟ أليس لديك ما تقوله لي؟”
أصاب كلامها كبد الحقيقة.
هناك الكثير مما يود أن يقوله. أن يخبرها أنه يريد إحياء اسم عائلة لويد.
هل يطلب نصيحتها؟
هل يحق له، وهو وريث ماكا، أن يخوض في أمر كهذا؟
ربما كان عليه أن يطلب إذنها على الأقل.
“أريد مساعدة ثيو، لكن من منظور العائلة، هذا ليس خيارًا صائبًا.”
هل ستعارضه أمه؟ وإن فعلت، فما موقفه إذن كوريث بيت الماركيز؟
وبينما كان غارقًا في دوامة من الأسئلة، سمع ضحكة خافتة من أمه.
“كنتَ دومًا صريحًا منذ صغرك، فكل ما في قلبك ينعكس على وجهك.”
ابتسمت ابتسامة صغيرة وأضافت:
“وأنت أيضًا من أولئك الذين يضحّون بأنفسهم. تشدّد على نفسك كثيرًا، لكنك كريم مع من حولك.”
هو من النوع الذي يقبل بالخسارة لأجل الآخرين.
تذكّرت أندريا بوضوح حين كان صغيرًا، كيف دافع عن جوشوا حتى وهو يتشاجر مع أبناء النبلاء الآخرين.
“ربما أسميه… إيثارًا عاطفيًا.”
فحين يقيّم نفسه، يغلب العقل، لكن حين يتعلق الأمر بالآخرين، تتقدّم العاطفة.
تنهد ليكاردو وأجاب:
“أعلم أن عليّ ألا أكون عاطفيًا، لكنني كلما حانت لحظة القرار، اخترت الطريق الذي لن أندم عليه لاحقًا.”
فالأمر لا يقوم على حسابات دقيقة، بل على ما تميل إليه نفسه.
“وأعلم أن هذه ليست صفة مثالية لرأس عائلة…”
قاطعته فجأة بنبرة حادة:
“ومن قال ذلك؟”
“ماذا؟”
“من قال إن الإيثار العاطفي لا يليق برأس العائلة؟ من تجرأ على قول هذا الكلام؟”
خرس لوهلة.
فلم يقله شخص بعينه، لكنه سمعه دومًا كقاعدة اجتماعية.
هزّت كتفيها باستخفاف وقالت:
“مجرد هراء.”
ثم أطلقت ضحكة قصيرة وأضافت:
“أتعلم من كان أشد الناس عاطفة وإيثارًا؟ والدك.”
“أبي…؟”
“كان أكثر منك بكثير. لأجل أصدقائه ورفاقه كان يرهن كل شيء، حتى اسم العائلة.”
ولهذا السبب واجه بيت الماركيز مواقف عصيبة أكثر من مرة.
“هل تظن أن بيتًا بلا روحانيين صمد عشر سنوات بمحض الصدفة؟”
فأجاب ليكاردو:
“لأننا وإن افتقرنا للأرواح، فقد امتلكنا أخصب الأراضي، وتحالفًا متماسكًا، وقوة في الاقتصاد والأدب والعسكر، أليس كذلك؟”
العائلات التي لم تقطع علاقاتها ببيت ماكا، الأشخاص الذين حافظوا على التطوير والفنون حيّة في أرجاء البيت، الجنود والفرسان الذين ظلّوا على أهبّة الاستعداد لتنفيذ أوامره.
ابتسمت أندريا وسألت:
“ولماذا تظن أنهم ظلّوا مخلصين لهذا البيت؟”
تردّد ولم يجد جوابًا، فالتاريخ وكتب التعليم لم تسعفه بهذه الحقيقة.
فقالت:
“لأجل والدك.”
“…….”
“لأنه كان يسامحهم على زلاتهم، ينهض بهم من القاع، ويسند ظهورهم في لحظات اليأس.”
أطلقت أندريا ضحكة قصيرة وهي تستحضر صورة أورلاندو في مخيلتها، ذلك الرجل العنيد الذي طالما تساءلت عن سبب اندفاعه:
لماذا تساعده؟ لماذا تنقذه؟
لماذا تلقي بنفسك في ذلك الخطر؟
لماذا تُلقي بنفسك هناك؟
تلك كانت أكثر الكلمات التي كررتها على مسامع زوجي، وكانت في الوقت نفسه أكثر ما سمعته منه.
إنه من رجالي، إنه صديقي.
لأني أستطيع مساعدته.
كان منطقه بسيطًا حد السذاجة، إن كان قادرًا على المساعدة، فلابد أن يساعد.
ذلك المبدأ الذي بدا لي آنذاك ضربًا من العبث، كان بالنسبة له أمرًا بديهيًّا لا نقاش فيه.
لماذا، يا ترى، احتضن جوشوا الذي كانت الإمبراطورة تسعى لمعاقبته؟ لماذا خاطر بغضبها من أجل طفل من عامة الشعب لا نفع يُرتجى منه؟
الأمر كان بسيطًا.
لأن والد ذلك الطفل البارون كان صديقًا له تعرف تعرف عليه في جمعية الأرواح.
قالت أندريا بابتسامة تنم عن حنين وأسى:
“كنت أراه رجلاً أحمق حقًّا… لكن البذور التي زرعها ذلك الأحمق أزهرت أجمل ما يكون عندما سقطت أسرة ماركيز ماكا إلى الحضيض.”
أولئك الذين صاروا يومًا رؤساء بيوتات مدينة للفضل لأورلاندو لم يلينوا أمام أي إغراء ولم تهزّهم أي محاولة استمالة.
كما أنّهم لم يتوانوا عن ردّ الجميل، فلم يتركوا بيت ماكا، بل ظلّوا سياجًا حصينًا لهم كما فعل أورلاندو يومًا لأجلهم.
“غير أنّ ثمة شيئًا واحدًا فقط عجز أبوك عن حمايته طوال حياته.”
شيء واحد عجز عنه ذلك الذي ظل يحمي ابنه حتى آخر أنفاسه.
“لا تقصدي…؟”
ابتسمت أندريا بأسى حين لاحظت أنّ ليكاردو أدرك المعنى:
“لقد حاولت منعه، يوم قال إنه ذاهب لينقذ صديقه.”
ما زالت تتذكر تفاصيل ذلك الحوار كما لو كان قد جرى بالأمس.
‘أنا أعرفه جيدًا، ذاك الرجل لا يمكن أن يخون.’
هكذا صاح بعدما سمع خبر خيانة صديق طفولته.
‘إنه في ورطة كبيرة في فخّ نُصب له، حتى لو لم نتمكن من إنقاذه، فعلينا إنقاذ أسرته على الأقل.’
ذلك الصديق الذي كان يشبهه في كثير من الأمور، والذي ربطته به صداقة متينة رغم كثرة شجاراتهما.
‘طفله لا يتجاوز الثامنة، أصغر من ليكاردو بعامين!’
هتف بذلك وهو يرتدي معطفه، مصممًا على إنقاذ طفل لم يره قط.
‘أتريد حقًّا مساعدة خائن؟’
‘لا، بل أريد مساعدة صديق.’
ذاك ما قاله، والنظرة في عينيه ما زالت عالقة في ذهنها حتى اليوم.
لكنها أصرّت على منعه:
‘لا يمكنك الذهاب.’
‘ريا!’
‘أسرتنا أولاً! تخلَّ عن عواطفك، فإن حاولت إنقاذهم هلكنا نحن! إنهم خونة!’
‘إنه صديقي يا ريا.’
‘وهل تريد بحجة إنقاذ ابنه، أن تدفع بابننا إلى التهلكة؟!’
أوقفت زوجها عند الباب، وهو يستعد للانطلاق إلى أراضي لويد.
ظنت أنّها اتخذت القرار الأصوب، لكن ما حسبته صوابًا كان الشرّ كلّه.
فما لبثت أن جاءها النبأ الفاجع: أُبيدوا عن بكرة أبيهم. ثم تتابعت الأخبار عن جنون الإمبراطور شيئًا فشيئًا.
ويوم رأت زوجها ينهش نفسه ندمًا وهو يرزح تحت ثقل الذنب، أدركت كم كانت مخطئة.
“لقد ورثت عن أبيك الكثير يا ليكاردو… حتى ذلك الجانب العاطفي الذي يدفعك لحماية من يلوذ بك.”
رمقت ابنها الذي بدا في حيرة أهي تثني عليه أم تذمه، فرأت في ملامحه طيف زوجها، فما كان منها إلا أن ابتسمت.
عندها تذكرت الشيء الذي جاءت به، فوضعت الصندوق أمامه.
طَق!
“ما هذا…؟”
ألقى ليكاردو نظرة داخل الصندوق الذي فتحته أمه، فإذا فيه أدوات سحرية ورسالة واحدة.
وما إن قرأ مضمون الرسالة واسم المرسل حتى اضطربت عيناه.
مهما يكن هذا الشيء، فليس أمرًا هيّنًا ما دام الدوق لويد قد وصفه بأنه الملجأ الأخير.
“ليكاردو.”
“… نعم.”
أجاب، وهو يكبح خفقان قلبه العنيف.
“أثق بك، لأنك تشبه أباك. ولن أسمح لنفسي أن أرتكب الخطأ نفسه مرتين.”
ندم واحد يكفي العمر كله.
نهضت أندريا ببطء، ثم ألقت على ابنها نظرة حانية مشوبة بالعزم، وختمت بآخر كلماتها:
“اذهب، وأعد لأسرة لويد مجدهم من جديد.”
“……!”
اتسعت عيناه بدهشة، فما كان يظن أن يسمع تلك الكلمات من فمها.
تركت الغرفة بلا تردد، تاركة وراءها الخاتم والصندوق.
أُغلق الباب بخفة، وغمر الصمت أروقة القصر.
غير أنّ ذلك الصمت لم يثقل على أندريا. بل خُيّل إليها أنّ أورلاندو يتهكم عليها قائلاً: “ها قد فعلتِ مثلما كنتِ تمنعينني!”
فابتسمت ابتسامة عذبة وهمست:
“أجل… لو كنت سأفعل هذا في النهاية، فلِمَ منعته إذن؟”
رمقت خاتم زواجها في إصبعها مبتسمة بأسى رقيق:
“أبناؤنا سينجحون… سينجحون في حلّ ما عجزنا نحن عن حَلّه، وسينقطع بفضلهم خيط الندم الذي خنقنا طوال عقود.”
ثم مضت بخطى واثقة، خفيفة، وقد أزاحت أخيرًا عن كاهلها أعباء الماضي.
***
قالت إيزابيلا:
“يجب أن نوجّه الشكر.”
فأجابها ثيو:
“بل يجب أن نوجّه شكرًا خاصًّا إلى الراحل الماركيز ماكا، الذي حفظ لنا هذا.”
ابتسم ليكاردو وهزّ رأسه موافقًا:
“وكذلك يجب أن نثني على حكمة الدوق لويد الذي عهد بهذا إلى أبي.”
أخيرًا بدأت خيوط المؤامرات المتشابكة، الممتدة عبر السنين، في الانفراج والالتئام.
قال ليكاردو وهو يلتفت إلى ثيو:
“والآن يا ثيو، ماذا عن خطتك؟”
فأجابه ثيو بشيء من الدهشة:
“كانت الأمور… أسهل مما توقعت.”
ثم تابع قائلاً:
“صحيح أنّ البعض راودهم الشك في هويتي، لكن لا أظن أنّ أحدًا امتنع عن مدّ يده، لقد لقيت تعاونًا كاملًا من الجميع.”
فبينما بقي رفاقه في قصر ماكا، كان ثيو يتحرك منفردًا، لينفّذ ما كان ينوي عليه منذ البداية، قبل أن يسبقهم الحدث.
ألا وهو لقاء زعماء الأسر التي تملك أراضي في الجنوب الغربي.
*****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام كملفات، وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 119"