لن أخدع مرتين [ 114 ]

 

كان إدوارد على وشك أن ينفجر بالكلام، لكن جوشوا الجالس إلى جانبه، ضغط بقوة على فخذه ليردعه.

 

وكأنه يقول ليس الآن وقت التدخل.

 

تابع فايتشي الحديث:

 

“وكما يعلم أخي الكبير، بل وكل من في هذا المجلس، فإن أوفيليا كانت قد مدّت يدها إلى الدوق لويد في ذلك الوقت.”

 

وما إن ذُكر اسم الدوق لويد ذلك الاسم المحظور كأنه كلمة محرّمة حتى ازدادت الأجواء برودة وثقلاً.

 

قال فايتشي :

 

“ما سأقوله الآن قد يبدو لكم صعب التصديق، لكنه الحقيقة كاملة.”

 

وبمجرد أن سمعت المقدّمة، أدركت إيزابيلا إلى أين يذهب كلامه.

 

إذن سيكشف الأمر أخيراً.

 

كان ما سيكشفه سيفاً ذا حدّين، لكن إيزابيلا شعرت بالارتياح لأنه هو من أفصح عنه أولاً وليس هم.

 

“إن الكونت لامارتي الغائب عن هذا المجلس اليوم، هو الوريث الحقيقي لأسرة لويد.”

 

ترددت أنفاس متقطعة من هنا وهناك، فيما رأت إيزابيلا المشهد مثيراً للضحك؛ فالجميع قد علم بالأمر من خلال الشائعات المنتشرة سلفاً، ومع ذلك تظاهروا بالدهشة وكأنهم يسمعونه لأول مرة.

 

ومضى فايتشي وكأنه كان ينتظر هذه اللحظة، فسلّم جميع ما جمعه من تحقيقات إلى ولي العهد:

 

“قبل اثني عشر عاماً حين انهارت أسرة لويد، سجّل الكتبة أن جثة نجل الدوق الصغير وُجدت عند الجبل الخلفي.”

 

ويُقدَّر أنه قُبض عليه أثناء محاولته الهرب مع خادمه.

 

ولمّا كانت الجثة قد تفحّمت كلياً، كان التعرّف الدقيق عليها صعباً، لكن البنية والملابس دلّت على أنها تخصّ نجل الدوق.

 

“غير أن سجلاً غريباً بقي آنذاك، إذ كُتب أنّ ذلك الصغير لم يُظهر أي أثر من القدرة على التوافق مع الأرواح.”

 

عبس ولي العهد وهو يقلّب الأوراق التي سلّمه إيّاها فايتشي.

 

“وماذا في ذلك؟”

 

“ألا يبدو عجيباً؟ أن يكون ابن الدوق لويد المعروف ككبير مستحضر للأرواح، عديم الموهبة تماماً!”

 

فأجابه ولي العهد:

 

“ليس ذلك بالمستحيل. فالتحوّلات قد تحدث في الاتجاهين. كما قد يولد مستحضر أرواح من والدين بلا موهبة، فقد يحدث العكس أيضاً.”

 

“وماذا لو لم تكن تلك الجثة هي جثة نجل لويد أصلاً؟”

 

أثار هذا القول ضجّة ثانية في القاعة.

 

والحقيقة أن هذا الاحتمال لم يغب تماماً عن الأذهان، إذ إن الكونت لامارتي نفسه مستحضر أرواح رفيع المستوى من عنصر الماء، وهو ما يكفي لربط الأمر بدوق لويد الراحل، أعظم مستحضري الماء في عصره. غير أن لم يجسر أحد من قبل على المجاهرة بمثل هذا التصوّر.

 

“أغرب من ذلك أن يخرج من نفس دار الايتام اثنان من ذوي القدرات النادرة. أليس هذا مدعاة للتساؤل يا أخي الكبير؟”

 

لم يرد ولي العهد. عندها علت حماسة 

 فايتشي، فأخذ يصرخ أكثر:

 

“أسرة لويد لم تُمحَ! وريثها ما زال حيّاً، وهو يتحالف الآن مع ذرية أوفيليا ليدمّر الإمبراطورية من جديد!”

 

وكان إصبعه مصوَّباً نحو إيزابيلا.

 

“وكما جرت العادة، أليست مملكة هيليبور هي الأخرى تمدّ لهم يد العون؟!”

 

ارتفعت الأصوات واشتدّت الفوضى. بعضهم بلغ به الهلع أن أخذ يصرخ وكأن القيامة قد قامت.

 

في وسط هذه الفوضى التقت عينا إيزابيلا بعيني فايتشي.

 

أمسكت بك. 

 

 هكذا كانت نظراته تقول.

 

غير أن ابتسامته المتعالية ما لبثت أن تجمّدت حين ارتسمت على شفتي إيزابيلا ابتسامة باردة واثقة.

 

كيف لها أن تبتسم الآن؟

 

ما الذي فاته؟

 

وبينما شعور بارد يزحف حول قدميه، انفتح فم ولي العهد:

 

“فايتشي، منذ متى علمت بهذا؟”

 

لم يسأل إيزابيلا، بل واجه فايتشي.

 

فأجاب فايتشي بثبات وهو يخفي اضطرابه:

 

“منذ ذلك اليوم، حين سمعت ما دار بين أمير هيليبور وبينهم. ومنذ أيام أجريت تحقيقاتي.”

 

وبفضل هدوئه، تجاوز استجواب ولي العهد بليونة، فعاد الجوّ لصالحه.

 

قال ولي العهد:

 

“أسرة لويد… لا شك أن الأمر يستحق التمحيص.”

 

فعاد فايتشي يلتفت نحوه وقد استعاد ثقته، فيما كانت إيزابيلا قد أزالت تلك الابتسامة المشبوهة، وارتسمت على وجهها ملامح جادّة صارمة.

 

ربما كان مجرد وهم.

 

قال في نفسه:

 

ما دام أخي الكبير يقف إلى جانبي، فالنصر لي.

 

لقد أعدّ خطته “ب”، التي تربط بين دوق لويد وإيزابيلا معاً، ولم يكن يرى فيها احتمال فشل طالما كسب تأييد ولي العهد.

 

حتى لو حاولت إيزابيلا استخدام حقيقة مولده كسلاح، فلن يكون ذلك سهلاً في ظل اتهامها الآن بالتآمر مع أسرة لويد على اغتيال الإمبراطور.

 

فالحقائق تخضع للزمان والمجرى، لا لجوهرها فحسب.

 

إذن النصر لي لا محالة.

 

لكن ما إن استراح لهذا الظن حتى عاد ولي العهد ليتكلّم:

 

“غير أن في كلامك يا فايتشي ثغرة.”

 

“……؟”

 

“أشرتَ إلى محتوى هذه العلبة. نعم، كما قلتَ إنه سمّ. لكن…”

 

وأشار إلى أحد خدمه أن يفتح الصندوق، فإذا في داخله جذور أشبه بعقار عشبي سام.

 

قال ولي العهد:

 

“بحسب كلامك، فلابد أن وريث لويد وابنة أوفيليا أرادا أن يُقدَّم هذا السم لجلالة الإمبراطور. أي إن محاولة الاغتيال ستبدأ الآن.”

 

كان فايتشي يظن أن ولي العهد يسأله عن كيفية استخدامه، وقد أعدّ لذلك جواباً.

 

لكن ما قاله ولي العهد كان شيئاً آخر تماماً:

 

“إذن، كيف تفسّر أن جلالة الإمبراطور قد وقع بالفعل تحت تأثير السمّ منذ الآن؟”

 

“ماذا…؟!”

 

اتّسعت عينا فايتشي في ذهول.

 

“إن صحّ ادعاؤك، فالسمّ لم يُستخدم بعد، وكان ينبغي أن يبدأ التسميم من هذه اللحظة. لكن الحقيقة أن جلالته لم يتذوّق منه شيئاً، ومع ذلك هو الآن في حالة تسمّم!”

 

إلى الأحمق الملامح، شرح له ولي العهد ببالغ اللطف. غير أنّ عينيه لم يكن فيهما أدنى أثر للطف.

 

قال ببرود:

 

“أريد منك بعض التوضيح بهذا الخصوص.”

 

وانتقل بصر ولي العهد القاسي من فايتشي إلى الإمبراطورة.

 

“جلالة الإمبراطورة.”

 

***

 

بعد أن سمع من ليكاردو بشأن الإمبراطورة، غرق ولي العهد في تفكير عميق.

 

إذ كان الأمر يتعلق بزعزعة أساس سلطانه، فلم يرغب في تقبّله.

 

لكن في تلك الليلة، حين رأى فايتشي يحرّك فرسانه من دون إذنه، تسلّل إلى نفسه شعور بالنفور.

 

ذلك أنّ فايتشي على الرغم من طموحه الكبير لم يكن ممّن يتجرّأ عادة على تحدي سلطة ولي العهد علانية.

 

فوق ذلك، لقد تجرأ على التلفّظ بكلمة خيانة في مواجهة روحانية بيت الماركيز ماكا، الذي يُعدّ أقرب إلى قوة ولي العهد نفسها.

 

هنالك أدرك ولي العهد أنّ ثمّة خطبًا جللًا يسير على غير ما يرام.

 

ومن ثمّ، قبِل ما قاله ليكاردو، وجعل الإمبراطورة تبتعد عن رعاية الإمبراطور المريض.

 

لقد استشعر بحدسٍ أنّه يفوته أمر عظيم.

 

وحين طُرحت كلمة الخيانة غير المعقولة على كفّة الميزان، شعر على العكس أنّ ذهنه قد أصبح أكثر صفاء.

 

فبادر فورًا إلى التحقق من حال جلالة الإمبراطور، وشرع في التحقيق بشأن الإمبراطورة.

 

انتشرت شائعات عن بيت الدوق لويد، وقصص عن ابنة أوفيليا. 

 

كان القصر الإمبراطوري في تلك الفترة يضجّ بالبلبلة فلا يعرف له ثبات.

 

لكن ولي العهد استغلّ ذلك لصالحه.

 

فلولا هذه الظروف، لكان صرف الإمبراطورة عن رعاية الإمبراطور وفتح التحقيق بشأنها أمرًا مثيرًا للمشاكل وربما لاقى رفضًا.

 

غير أنّ تدخّل فايتشي في سلطته، ثم ما عمّ الإمبراطورية من اضطراب جراء الشائعات وتهمة الخيانة، جعل التحقيق يجري بسهولة.

 

فاستجوب طبيب الإمبراطورة، وعرف ماهية الأدوية التي كان يتناولها الإمبراطور، وبفضل حيلة إيزابيلا لم يكن صعبًا العثور على الصندوق الذي تداوله الناس يوم الحادثة.

 

ولم يكن عسيرًا اكتشاف أنّ محتوى الصندوق قد خُلط بما كان يتناوله الإمبراطور. فقد عرفت الوصيفات اللاتي كنّ يحضّرن الدواء ذلك فورًا.

 

غير أنّ ما لم يُعرف هو ماهية هذا “المستحضر”.

 

فالطبيب قال إنّه ليس إلاّ عقارًا جيدًا لاستعادة العافية، وكان صادقًا في قوله.

 

ولمّا خشي ولي العهد أنّه ربما تسرّع في الحكم وأغضب الإمبراطورة بلا موجب، إذا بأناس يأتونه فجأة.

 

“بلغنا أنّك تحتاج إلى المساعدة.”

 

رآهم ولي العهد في غاية الوقاحة، لكنّهم على غير المتوقع قدّموا له تمامًا ما كان يبحث عنه.

 

فالمشكلة لم تكن في العشب الدوائي نفسه، بل في ما امتصّه ذلك العشب في داخله.

 

“لقد زُرعت الجذور بمحلول سحري بدل الماء.”

 

فالعشبة قد اختزنت مادة دوائية سحرية.

 

“شرب المحلول السحري وحده لا يختلف عن شرب الماء. لكنّ المشكلة تكمن في ما يتولّد عند تفاعل هذا المحلول السحري مع خاصية العشبة ذاتها.”

 

“فهو لا يؤذي الإنسان العادي كثيرًا، لكنّه قاتل لروحانيّ كالإمبراطور.”

 

بكلمات أخرى، لقد صُنع السم بعناية فائقة عبر مراحل عدّة ليستهدف الإمبراطور تحديدًا.

 

وعرف ولي العهد لاحقًا أنّ أولئك الذين ساعدوه جاؤوا من جمعية تعاونية للبحث في الصلة بين الأرواح والسحر.

 

وبما أنّ الروحانيين والسحرة يمقت بعضهم بعضًا، فإن مثل هذه الأبحاث لم تكن محل ترحيب.

 

حتى جمعية الأرواح تبرّأت منهم، وبرج السحر سخر منهم. لكنّهم، رغم الاضطهاد، واصلوا دراساتهم.

 

وحين جاءتهم معلومة من مجهول تفيد بأنّ ولي العهد قد يحتاج إليهم، أسرعوا إليه لعلّهم ينالون فرصة للمساعدة وربما يحصلون على دعم مالي.

 

وكان ولي العهد يظنّ أنّ تلك المجهولة ما هي إلا إيزابيلا، غير أنّه لم يرَ داعيًا للتثبت.

 

فما يهمّ هو أنّ ما سُقي به الإمبراطور كان سمًا قاتلًا، وأنّ من تولّت إدخاله إلى القصر هي الإمبراطورة.

 

قالت الإمبراطورة بدهشة بريئة، وقد اتسعت عيناها كأنها لا تعلم شيئًا:

 

“مولاي، لست أفهم ما تعنيه.”

 

أجاب ولي العهد:

 

“أليست هذه الأعشاب التي تحمل السم قد جاءت من مملكة هيليبور؟ وكان من مهامك التحقق منها.”

 

“هذا صحيح. لكن ما تسلّمناه منها لم يكن فيه أي أثر خبيث.”

 

عندها أشار ولي العهد بأصبعه.

 

فتقدّم الخادم الذي كان بانتظار الأمر، ووضع على الطاولة أوعية دوائية مرتبة بعناية.

 

***

 

ترجمة : سنو

 

انشر الفصول في جروب التيليجرام كملفات، وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك 

 

بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee

او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee