ظلّ وليّ العهد صامتًا، غير أنّ إدوارد بادر بالاعتراض:
“بل على العكس!”
ربما كان لمطالعته دروس سارا في الكتابة من فوق كتفها أثر، إذ استطاع لحسن الحظ أن يتكلم بغير لهجةٍ فظة:
“ذلك الصندوق سلّمه أمير هيليبور إلى سموّ الأمير. لا علاقة لنا به البتة.”
“ها، يا له من افتراء سخيف.”
واصل فايتشي تمثيله وكأن الأمر يثير سخريته:
“ما إن ضبطوني معه حتى هاجوا عليّ بشراسةٍ كأنهم يريدون قتلي.”
ثم ارتجف كتفيه قليلًا كأنه يتذكر الخوف الذي انتابه آنذاك.
ولا يزال فايتشي يحسن توظيف وسامته الفائقة.
“ومن أنقذني من تلك الورطة هي الماركيزة مولان. لولاها، لما كنتُ موجودًا هنا اليوم.”
بهذا ألقى الفضل بمهارة على الماركيزة مولان الجالسة إلى جواره.
وإذ استشعرت الماركيزة تركز الأنظار عليها، بدا عليها بعض الحرج.
ففي السابق، لو امتدحها الأمير على هذا النحو، لطارت من الفرحة، إذ كانت تتمنى أن تحظى برضاه.
لكن بعد حادثة ذلك اليوم تغيّر قلبها.
وقد أدرك فايتشي هذا التغير، فظل يرسل إليها الهدايا وكلمات الشكر محاولًا استمالتها مجددًا.
وكان يكفيها أقل من ذلك لتصفح عنه في الماضي، غير أنها هذه المرّة لم تستجب بسهولة.
بل ارتكب هو خطأً لا يُغتفر حين اتهمها في عجلة منه بأنها متواطئة مع خصومه.
‘لهذا يُعَدّ الإعداد المسبق ضروريًّا حتى لا تقع أحداث لم يُحسب حسابها!’
ذلك هو سرّ حرص فايتشي الدائم على نسج خططه المحكمة كخيوط العنكبوت، فهو يفتقر إلى مهارة التصرّف عند المباغتة.
وبفضل تلك الشبكة المحكمة لم يكن أحدٌ يكاد يدرك ضعفه ذاك.
“ماركيزة مولان، ما قولك؟”
أعطاها وليّ العهد حقّ الكلام.
وما كان أحد يتوقع أن تتكلم، فإذا بها تفتح فمها بسهولة حين أذن لها.
“قبل وقوع ما جرى ذلك اليوم، حدّثني سموّ الأمير قائلًا إنّ مستحضرة ماكا مثيرةٌ للريبة.”
وأرهفت القاعة أسماعها لكلام الماركيزة مولان.
“وأخبرني أن تلك المستحضرة وعشيقها الكونت لامارتي يتواطآن مع مملكة هيليبور. لكن، لعدم وجود دليلٍ قاطع، قرر أن يقبض عليهما متلبسين. وأمرني أن أنتظر إشارته لأتحرّك. وفي ذلك اليوم، وصلتنا الإشارة.”
لذا نصبوا كمينًا حول الجبل والكوخ.
وخشية أن تفضحهم إيزابيلا كونها روحانية أرض لجأت حتى للاختباء بين الأشجار.
“ثم تدخّلنا لمعاونة سموّه.”
سُرّ فايتشي إذ جاء الكلام كما تمنّى، وأدار بمهارة ملامح وجهه نحو الماركيزة مولان.
غير أن ما خرج من فمها تاليًا لم يكن في الحسبان:
“لكن… كان ثمة أمر غريب.”
“غريب؟”
“بحسب ما سمعتُ، كان من المفترض أن يكون الأمير هيليبور متحالفًا مع روحانية ماكا. غير أنّ المشهد الذي رأيته بأمّ عيني كان مختلفًا تمامًا.”
“واصلي.”
“كان الأمير هيليبور يصرخ شاتمًا تلك المرأة، بل وساعدنا على إخضاعها.”
عضّ فايتشي باطن شفته قليلًا.
فقد نشأ هذا المتغيّر من بقاء الماركيزة مولان حية، في حين أنّ الخطة الأصلية كانت تقتضي موتها.
لكنه سرعان ما تماسَك، إذ كان قد أعدّ خطة بديلة منذ أن فشلت خطته الأولى يومذاك.
صحيح أنّ بدا متوترًا بما يكفي ليضاعف المخاطر، لكن الأمر لا يزال يستحق المحاولة.
“وعندما فشلت المهمة، بادروا بالفرار.”
“إذن، يمكنكِ أن تشهدي على أنّ الأمير هيليبور كان هناك بالفعل.”
“نعم.”
وبذلك تأكدت حقيقة واحدة.
“غير أنّ…”
ألقت الماركيزة مولان نظرةً مرتبكة إلى إيزابيلا.
فهي لا تزال متحيّرة من قولها السابق، لماذا قالت لها تلك الكلمات الغريبة؟ هل كانت حقًا حقيقة؟ لا سبيل للتحقق.
لكن مجرد ارتباكها وكثرة تفكيرها كان كافيًا لإيزابيلا، إذ كلما تعقّدت خواطرها مالت أكثر إلى التمسك بما تعتبره العدل.
ومهما كان مفهومها لذلك، فهي لن تجازف بالكذب أمام وليّ العهد.
وذلك وحده كان يكفي إيزابيلا.
“لقد قال ذلك الأمير… إنها ابنة أوفيليا.”
نطقت أخيرًا، فارتفعت أنفاس الدهشة في القاعة.
إذ كان الجميع قد سمعوا همسًا بتلك الإشاعة من قبل، لكن وقعها من فم الماركيزة مولان أشد وقعًا من أحاديث الجنود.
“أوفيليا… أتعني روحانية التراب العُليا أوفيليا؟”
“نعم.”
أكدت الماركيزة مولان، فأومأت برأسها.
ساد الصمت مترقبًا ردّ وليّ العهد.
لكن المفاجأة أنّه لم يُبدُ ذهولًا كبيرًا، ولعلّه سبق وسمع الشائعة من قبل، غير أن بروده كان لافتًا.
ثم حوّل بصره الجامد نحو إيزابيلا.
وما إن التقت عيناهما حتى اضطرب نظره لحظةً قصيرة خافتة لم يلحظها سواها.
“أهذا صحيح، يا روحانية ماكا؟”
سؤاله كان مطالبةً صريحة بالحقيقة. فانحنت إيزابيلا برأسها قليلًا قبل أن تجيب:
“علمتُ بذلك حديثًا فحسب.”
“هراء! أيُعقل أن تجهل أمّها؟!”
قاطع فايتشي غاضبًا، لكن وليّ العهد رفع يده يأمره بالصمت، إذ أدرك أنّ كلام إيزابيلا لم ينته بعد.
أدركت إيزابيلا أنّ حديثها لم يكن قد انتهى بعد.
قالت بهدوء:
“فقدتُ والدتي وأنا في الرابعة من عمري، ونشأتُ يتيمة. وإن كان ذلك مدعاة للخجل، فقد كبرتُ دون أن أعرف حتى اسمها.”
وأيّ طفل في الرابعة يمكن أن يعرف اسم أمّه؟
“صحيح أنّ ذاكرتي عنها ضبابية لقِصَر سني آنذاك، لكن ما لم أكن أعلمه البتّة أنّها كانت مستحضرة أرواح.”
سردت إيزابيلا ماضيها بنبرة متجردة من الانفعال.
“لكن… لعلّكم تذكرون أنّني قبل مدة حصلت بفضل سماحة سمو وليّ العهد على فرصة الاطّلاع على أرشيف دويتشلان.”
قال وليّ العهد:
“بلى، أذكر.”
“هناك… وجدتُ صورة والدتي.”
“إذن، علمتِ بالأمر حينها؟”
سأل وليّ العهد متباطئًا.
“نعم، هناك فقط عرفتُ أنّ مستحضرة الأرواح الأرض أوفيليا كانت أمّي.”
وكان كثيرون يعلمون أنّ صورتها لا توجد إلا في ذلك الأرشيف وحده، لذا بدا من المعقول أن تكون إيزابيلا لم تعرف من قبل. غير أنّ بعضهم رفض قبول ذلك.
قالت الإمبراطورة وقد تدخلت بعد صمت طويل:
“مولاي، لا يسعك أن تصدّق الأمر بسهولة. كيف نضمن أنّها لا تكذب؟ إن لم يكن هناك وسيلة لإثبات أنّها حقًّا ابنة لتلك الروحانية ولا شهود على ذلك، فما حجّتها؟”
وأضاف فايتشي مؤيدًا:
“صدقتِ يا أمي. قد تكون استغلت نسب أوفيليا لتدبّر مع الأمير هيليبور مكيدة، وربما خدعت حتى الماركيزة مولان نفسها.”
وسرعان ما تعالت الهمهمات بين الحضور يتجادلون في صدق القصة.
“عجبًا… ألا أدري لماذا تتظاهرون بالجهل؟ ألم تصل إليكم الإشاعات؟ بل ألستم أنتم من بادر بالتحرّي عني فور سماعها؟”
كانت كلماتها موجّهة إلى الجميع بلا استثناء.
“إذن أنتم تدركون تمامًا عمري أيضاً…”
وفي الصمت المطبق سُمِع وقع بلع ريقٍ جاف.
ثم أردفت:
“لقد وجدتُ صورة والدتي في أرشيف دويتشلان.”
جملة واحدة، لكنها كانت كافية لتسكت كل الهمسات والجدالات.
فالأرشيف هناك يحوي سجلات الإمبراطور نفسه.
ومع مراعاة سنّها، كان المعنى واضحًا للجميع.
التفتت إيزابيلا إلى وليّ العهد بعينين مثقلتين بالحزن، وقد بدا عليها الإنهاك:
“إن أردت يا سموّك، فأنا مستعدة أن أخضع لاختبار الكهنة. وحينها، لن أعارض القول بأنني لست ابنة أوفيليا.”
اهتزّت نظرة وليّ العهد ارتباكًا.
فهي لم تنكر كونها ابنة أوفيليا، لكنها في الواقع كانت تعرض الخضوع لفحص يثبت نسبها للإمبراطور نفسه.
فإن ثبت ذلك، كان من الطبيعي أن يُسلَّم بأن أوفيليا هي أمّها.
خيم الصمت على القاعة، والجميع يترقب جواب وليّ العهد.
لكن إعداد مثل هذا الاختبار ليس بالأمر اليسير، إذ يتطلب اتفاقًا مع الديانات الثلاث الكبرى. ومع ذلك، لم يكن ممكنًا التغاضي عن احتمال أن تكون من دم الإمبراطور.
ولا سيما أنّها تنتمي إلى سلالة المرأة التي حاولت اغتياله يومًا.
وبينما تباينت التقديرات في نفوس الحاضرين، قال وليّ العهد أخيرًا:
“في هذه المرحلة… لنركّز فقط على إثبات أنّك ابنة أوفيليا.”
كان ردًّا متحفظًا، ينم عن تجنّب حسم الأمر أو الالتزام بأي خطوة.
فقبض فايتشي على الفرصة وتكلم بحماسة:
“وهذا هو لبّ المسألة يا أخي. فالماضي يشهد أنّ أوفيليا اتُّهمت بمحاولة تسميم جلالة الإمبراطور. وها نحن اليوم، نجد ابنتها تعود لتتآمر مع مملكة هيليبور للنيل من حياته مجددًا.”
“النيل من حياته؟”
“نعم! لقد سمعتُ بأذني أنّ ما وُجد في الصندوق الذي عثرتم عليه كان معدًّا ليستعمل ضد جلالته!”
“أتقصد أنّ…!”
****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 113"