من المثير للسخرية أنّ إدوارد، وهو يراقب جوشوا ينهال على الحداد بالضرب مصحوبًا بأقبح الشتائم، أدرك كم للكلمة من قوة هائلة.
فكما أن كلمة شتيمة واحدة قد تثير في النفس قشعريرة، فإن كلمة شكر واحدة، أو كلمة اعتذار واحدة، لهما من الأهمية والقدر الكثير.
ولذلك عقد إدوارد العزم بعد عودته أن يعبّر للجميع بكلمة شكر.
غير أنّ الجو الجاد منع لسانه من النطق، وكان من العسير عليه أن يفعل ما لم يعتد عليه.
وانتهى الاجتماع دون أن يجرؤ على الكلام، فشعر بخيبة وهو يلوذ بركن، كأنه يحفر الأرض بقدميه.
لكن إيزابيلا وكأنها أدركت ما في قلبه، تقدّمت نحوه وبملامح تنطق بالاهتمام به جعلته يستشعر معنى الامتنان بكل جوارحه.
فقال مبتسمًا:
“يا للعجب، لست في يوم ميلادي، ومع ذلك أشعر وكأني تلقيت هدية ميلاد.”
أما إيزابيلا، فقد أحست حين سمعت منه كلمتي الشكر والاعتذار معًا كأنها تلقت ضربتين على الرأس.
لكنها سرعان ما ابتسمت ابتسامة مشرقة وقالت:
“بل أنا من يجب أن يشكرك على عودتك سالمًا.”
كلماتها التي بدت وكأنها تواسيه جعلته يحدّق فيها.
حقًا إنها فتاة عجيبة، كيف تستطيع أن تشكر مثلي؟
قالت مازحة بنبرة عتاب:
“ثم إني قلت لك أن تخاطبني ببساطة، فالكلام المتكلّف هو الغريب في الأمر.”
كان يتكلم على سجيته، ثم يتدارك فيلجأ إلى التوقير، فيبدو ذلك أكثر غرابة.
“…….”
قالت له بهدوء:
“لو قلت هذه الكلمات نفسها لبقية الناس لأسعدتهم كثيرًا.”
فزمجر إدوارد وضغط على شفتيه قائلًا بتردد:
“سأقولها…! سأقولها حقًا…!”
ولكن كيف…؟
وبينما كان غارقًا في تردده، دفعت إيزابيلا ظهره ضاحكة وقالت:
“اذهب الآن وقلها. الجميع لم يخلدوا للنوم بعد.”
فتلعثم قائلًا:
“تريدينني أن أطوف على الغرف وأقولها واحدًا واحدًا؟”
“نعم، كلهم في المبنى نفسه، ولن يستغرق الأمر طويلًا.”
فقال متردّدًا:
“مستحيل… هذا كثير فعلًا…!”
“وما المانع؟”
“إنه…!”
محرج…؟
لم يجد حجة يتذرع بها.
فابتسمت إيزابيلا، وكأنها تقرأ ما يجول بخاطره، ودفعته ثانية قائلة:
“أؤكد لك أنّ هاتين الكلمتين إذا تأخرت في قولِهما صارتا أثقل وأصعب على اللسان، ويزداد معهما الإحراج. وإن فاتك التوقيت فذلك أسوأ ما قد يحدث. فبادر الآن.”
“أ… أحقًا؟”
فمضى إدوارد بخطوات ثقيلة مدفوعًا بيد إيزابيلا نحو المبنى الذي يبيت فيه رفاقه.
بينما كانت هي تتابعه بنظراتها حتى دخل، ثم حولت بصرها إلى معصمها.
اليوم لم يضيء سوارها إلا بريقًا باهتًا؛ ويبدو أنها لن تتمكّن من دخول عالم الأرواح.
‘يا للأسف، كنت أود أن أخبر ثيو بذلك.’
فمنذ أن اكتشفت بعد زيارتها السابقة أنّ قوة السوار الغريبة تدعوها أحيانًا إلى عالم الأرواح، صارت تراقبه بين حين وآخر.
لكنها أدركت أنّ مجرد ارتدائه لا يكفي دائمًا للانتقال، بل لا بد من شروط معينة.
‘لا بأس…’
وهكذا انحلّ اللغز: لِمَ لم تدخل عالم الأرواح في حياتها السابقة لتلتقي بثيو؟ لأنها هي من كسرت مفتاح الدخول بنفسها.
أما الساحر العجوز الذي منحها هذا السوار، فما زال مجهولًا في ذاكرتها الباهتة…
‘لكن شعوري مريح…’
كانت تحس وكأن ذلك العجوز لا يزال يمدّ لها يد العون.
صحيح أنها لا تعرف هويته، ولا سر القوة الكامنة في هذا السوار، لكن أمرًا واحدًا بدا لها جليًا:
“محبة الأرواح ستصاحب أمانيكم.”
والأمنية ستتحقق حتمًا.
كان ذلك اليقين المبهم كافيًا لأن يبدّد شعور العجز والقلق من قلبها.
****
مضت الأيام كهدوء يسبق العاصفة.
وانتشرت الأحاديث همسًا بين الناس عما وقع في تلك الليلة.
وكالعادة اختلط الصدق بالكذب.
وسرت الشائعات مسرعة حتى بلغت أطراف الجنوب الغربي للإمبراطورية.
قال أحد الحراس وهو يتأفف من برد الليل:
“ألا تشعر أن الجو أكثر قشعريرة الليلة؟”
فأجابه رفيقه:
“بلى، لكن هل تصدّق تلك الأقاويل؟ أن وريث أسرة لويد ما زال حيًّا؟”
“بحقك، لا تقل كلامًا كأنه حكاية أشباح. أيعقل هذا أصلًا؟”
كانا يتحدثان وهما في نوبة الحراسة تحت هبوب الرياح الباردة.
فقال الأول مشيرًا حوله:
“انظر إلى ما آلت إليه دوقية لويد. لم يعد مكانًا يصلح للعيش.”
إذ تقع على حدود الإمبراطورية، فخارج القلعة لم يكن إلا حقول ألغام، وداخلها مخازن أسلحة وجنود، بلا أثر للخصب والرخاء الذي عُرف عنها قديمًا.
“يقولون إنهم أحرقوا كل شيء، حتى الماشية والخيول. فكيف يعقل أن يكون أحد قد نجا؟”
“لعلّك محق.”
“فكر قليلًا، لو كان أحدهم قد نجا لظهر مرة واحدة على الأقل طوال هذه السنين ليثأر بدافع الغضب. لكن مضت اثنتا عشرة سنة ولم يُسمع له أثر.”
هزّ الحارس الأكبر رأسه نافيًا بشدة، فيما تردد الأصغر قليلًا ثم تمتم موافقًا.
في تلك اللحظة، انفجر أنبوب الصرف عند أقدامهما.
“هاه، ها هو يتعطل مجددًا.”
“سأوقظ العامل ليصلحه.”
“وأنا سأحجز الماء ريثما يعود.”
وانصرفا متذمّرين وقد اعتادا الأمر.
لكن في غمرة انشغالهما مرّ ظل خافت، خفيف الخطى، لم يشعر به أحد.
تسلل الظل بين الحراس جميعًا ودخل إلى بقايا قصر الدوق.
“…يا لبشاعته.”
كانت تلك أولى كلمات ثيو العائد إلى بيته بعد اثنتي عشرة سنة.
فكل شيء ظل على حاله، كما كان يوم احترق كل شيء.
لم يفكر أحد في تنظيف المكان أو هدمه، فبقيت فظائع ذلك اليوم على حالها.
ومع أنّ الدهر طال حتى تغيّرت الجبال والأنهار، إلا أنّ الطبيعة لم تفعل أكثر من أن تخفف قليلًا من آثار المأساة، بينما أضافت إليها مسحة من القسوة والجفاف.
كان المكان موحشًا إلى حد أنّ ثيو وقد ارتدى عباءة سوداء، كاد يذوب في عتمته.
فأخذ يخطو ببطء.
الممر الذي كان يسلكه عند عودته من نزهة مع والده.
الدرج الذي كان يقف عنده الخادم لاستقباله.
الحاجز الذي كان يتسلقه في طفولته حتى وبّخته أمه.
كل شيء ظل كما هو، لكنه في الحقيقة لم يعد شيئًا.
كان يُفترض أن تخفت الذكريات بعد اثنتي عشرة سنة، لكن ذكرى ذلك اليوم ما زالت حاضرة بحدة جارحة.
وقف ثيو في الموضع الذي أمسكت فيه والدته بيده للمرة الأخيرة.
“أكان هذا المكان صغيرًا إلى هذا الحد؟”
تمتم ساخرًا من نفسه، وارتسمت على شفتيه ابتسامة هزيلة.
ذكرى واضحة تمامًا… ومع ذلك، بدا له المكان مختلفًا عما اختزنته ذاكرته.
فالذكريات أمر ذاتي، يختلف من إنسان إلى آخر.
‘ليت ذلك اليوم يأتي، يوم تفهم فيه يا بني أنّ أمك لم تترك يدك إلا من أجل مستقبلك.’
والآن كأنه فهم.
لقد أدرك كم كان قلبها يتمزق وهي تفلت يده.
كم كان في قرارها من ألم وقهر، وكم كان في دعائها من رجاء.
تقدم حتى بلغ المكان الذي وقفت فيه والدته تراقبه وهو يُبعد عنها.
“……لقد عدت.”
اغفر لي يا أمي، فقد استغرق الأمر اثنتي عشرة سنة ليعود ابنك الجبان.
‘عِش… لا، بل احيا.’
“لقد نجوت.”
همس كأنه يرفع تقريرًا. ثم ابتسم ابتسامة باهتة.
“ومن الآن فصاعدًا، سأخاطر بكل شيء كي أعيش حقًا.”
لكن أن تحيا ليس أمرًا يسيرًا كما يظن المرء.
فللبعض يكفي أن يتنفسوا ليقال إنهم أحياء،
وللبعض لا تكون الحياة حياة إلا بحلم،
وآخرون لا يجدون لها طعمًا إلا بالصداقة والعلاقات.
“لقد أوصيتِني يا أمي أن أجعل البقاء أولويتي، حتى دون حقد أو انتقام، فالحياة الطيبة لا تحتاج إلى ذلك.”
ثم أطرق رأسه وقال بصوت متعب:
“لكن مجرد البقاء أصعب من الموت يا أمي.”
لقد أدرك ذلك في ساحة الحرب.
قاتل وخاض معارك حتى نجا،
لكنه كان مجرد بقاء، لا حياة.
وحدها الصحبة خففت عنه شيئًا من وطأة العدم؛
فقد وجد طعمًا للحياة عندما التقى برفاقه، حين ضحك معهم، حين شعر بالونس.
وأكثر لحظات الحياة حضورًا كانت قرب إيزابيلا.
حين تبتسم، يجد نفسه يبتسم.
حين تشعر بالراحة، يرتاح هو أيضًا.
“سأحاول أن أعيش… معها.”
كانت تلك وصيته لوالدته، أن يبوح لها بوجهته في الحياة، بمستقبله، وبسعادته.
“أرجو أن تراقبيني.”
“وأن تعينيني كذلك.”
وما إن فرغ من كلامه حتى شعر بخفة في صدره.
يا له من أمر بسيط، ومع ذلك فمجرد زيارته هذا المكان وكلامه قد غيّر شعوره تمامًا.
لقد أدرك أن أعماقه لطالما تاقت إلى ذلك، لكن إيزابيلا هي التي أيقظت تلك الرغبة فيه.
أغمض ثيو عينيه ومضى بخطى بطيئة ممعنًا في الإحساس بكل ما حوله، متجنبًا الضوء، متبعًا إحساسه حتى ساقه إلى حيث يجب أن يذهب.
فوجد نفسه أمام البرج ذي السقف الأزرق. كأن قوة خفية دفعته إلى مكان ألفه دون وعي.
وعندما بلغ قمته شعر بغرابة تسري فيه.
‘كم كان رائعًا منظر الموج العاتي الذي كثيرًا ما بدا من هنا.’
إيزابيلا نشأت على رؤية هذا المنظر، وهو نشأ هنا بدوره.
ومنذ طفولتهما، قبل أن يتذكّر أي شيء، كانت ثمة رابطة خفية بينهما.
جال ببصره في أرجاء البرج الضيق.
‘لا يمكن أن أجد شيئًا هنا…’
ولوهلة، لامه عقله على تهوره، إذ جاء بلا خطة فيما أمامه أعمال كثيرة تنتظره.
لكنه لم يستطع أن يقاوم.
فمنذ أن سمع عن أصل فايتشي، انهالت على ذهنه الذكريات المنسية.
‘ماذا تعني بقولك إن الأمير الثاني ليس من دم الإمبراطور؟!’
تذكّر أن والديه كانا على علم بذلك.
‘تذكر دائمًا يا بني، أنك لست وحيدًا في هذا العالم.’
‘واعتبر هذا البرج دليلًا على حبنا لك.’
كلمات أبيه وأمه عادت كلها تتدفق إلى وعيه.
كان الهروب وحده هو الذكرى التي تطفو بوضوح، أما الآن فقد غدت ذكريات كثيرة تختلط وتربك عقله.
وغريزته تصرخ أن عليه أن يأتي إلى هنا.
“ربما… فقط لأنني اشتقت.”
لقد أحس أنّه أحسن صنعًا بمجيئه.
إذ واجه ما طالما أعرض عنه، فتقدم خطوة أخرى نحو المستقبل.
غير أنّ في نفسه شيئًا من الحسرة لم يزل.
وفي تلك اللحظة…
*****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 111"