لن أخدع مرتين [ 110 ]
ابتسمت إيزابيلا ابتسامة محرجة.
“أفزعكم الأمر كثيرًا؟”
“وهل تتوقعين ألا نفزع؟!”
انفجرت كاساندرا غاضبةً نيابة عن الجميع.
“في الحقيقة، لم يمضِ وقت طويل منذ أن علمت أنا أيضًا.”
قالت ذلك وهي تعتذر بعينيها، ثم تابعت:
“توفيت والدتي حين كنت في الرابعة فقط… ومن المخجل أن أقول إنني لم أكن أعرف حتى اسمها. لم تستحضر الأرواح أمامي ولو مرة واحدة، لذلك لم يخطر ببالي أي شيء عنها.”
كان أمرًا لم تتخيله قط.
مدهش ومخيف قليلًا في آن واحد.
“لم أتوقع أبدًا أن يكشف الأمير هيليبور ذلك هناك. بل لم أعلم أصلًا أنه يعرف.”
لم يكن أحد في الإمبراطورية يعلم. لا الإمبراطورة، ولا حتى فايتشي.
‘لو كانا يعرفان، لاستغلا ذلك تمامًا كما استغلاني في حياتي السابقة.’
حتى يوم اعتُقلت بتهمة قتل ولي العهد، لم يُذكر هذا الأمر ولو بكلمة.
وهذا يعني أن لا فايتشي ولا الإمبراطورة كانا على علم.
وربما تعرف عليّ الأمير لأنه الوحيد الذي رآها قبل أن تُشوَّه ملامحها.
“لكن إذا كان حتى الأمير فايتشي لم يكن يعرف، وأنتِ كذلك لم تعرفي حتى وقت قريب… فكيف اكتشفتِ ذلك؟”
تساءلوا إن كان هناك آخرون قد يكتشفون بالطريقة نفسها.
“في أرشيف دويتشلان، عثرت على صورة شخصية لأمي.”
وكان هذا أشبه باعتراف رسمي بأنها كانت محظية الإمبراطور.
“هناك وجدتِ الصورة… مهلاً.”
توقفت كاساندرا فجأة بعدما كانت تهز رأسها موافقة.
استدار إدوارد إليها بدهشة، وبدت علامات الصدمة على وجه جوشوا وليكاردو وقد توصلا للفكرة نفسها.
“انتظري، تعنين أن صورة أمك كانت مرسومة هناك…؟”
بدأت كاساندرا تحسب بسرعة تاريخ ميلاد إيزابيلا، عمرها، موعد الاحتفال بمرور سبعمئة عام على تأسيس الإمبراطورية، وتاريخ هروب أوفيليا.
وكلما ربطت الأحداث، ازداد اتساع فمها دهشة.
كانت ملامحها تبدو خفيفة وغير لائقة، لكن لم يجرؤ أحد على التنبيه. فقد كان الجميع يحدقون بإيزابيلا بالعين نفسها.
“إذن أظن أنه لا داعي للقلق الزائد بشأني.”
قالتها إيزابيلا بابتسامة محرجة، وكأنها قرأت أفكارهم.
“صحيح أنني ابنة أوفيليا، لكنني أيضًا نصف دمي إمبراطوري.”
حتى لو كان نصف دمها من الخائنة، فالنصف الآخر من الإمبراطور.
كيان يصعب اتخاذ أي قرار ضده بتهور.
وإذا استغلت هذا جيدًا، فإن إيزابيلا ستصبح خصمًا لا يجرؤ لا فايتشي ولا الإمبراطورة على المساس به بسهولة.
‘صحيح أن الأمر يزداد تعقيدًا قليلًا بارتباطه بأسرة دوق لويد…’
فقد أثار ماضي أوفيليا مع دوق لويد فضائحًا كبيرة، وما زال من الصعب الاطمئنان كليًا.
كانت إيزابيلا تنوي إخفاء تلك الحقيقة قدر الإمكان.
أما الآن، فقد انكشف المستور.
‘بما أنه كُشف بالفعل، فلا بد أن أحسن استغلاله.’
صحيح أن ما انكشف حتى الآن هو كونها ابنة أوفيليا فقط، ولم يُعلن بعد أنها ابنة الإمبراطور.
لكن مجرد البحث في عمرها وتاريخ ميلادها كافٍ ليستنتج أي عاقل من هو والدها الحقيقي.
وبذلك يمكن القول إن حياتها مرتبطة مباشرة بحياة الإمبراطور نفسه.
ومهما يكن حاله اليوم مريضًا طريح الفراش، يظل الإمبراطور إمبراطورًا.
وبحكم أنها ابنته، لا يجرؤ أحد على المساس بها بعد.
لكن إن مات الإمبراطور، فقد تتحول هي إلى هدف للإزالة تبعًا لمن سيخلفه.
“وم-ماذا سنفعل؟ أو… هل يمكننا فعل شيء أصلاً؟”
قالت كاساندرا على غير عادتها، مرتبكةً.
وبدت الدهشة واضحة أيضًا على وجه ليكاردو.
“هل ينبغي أن نحيي نجمة الإمبراطورية؟”
انحنى برأسه مرتبكًا، غير متأكد إن كان هذا التصرف الصحيح.
وبادر جوشوا ودايفيد وإدوارد إلى تقليده.
“ما بكم الآن فجأة؟ هذا محرج.”
“لكننا عرفنا الآن، فيجب أن نعامل الأمر بجدية…”
“لا أريد.”
قاطعتهم إيزابيلا بصرامة.
“لم يُثبت شيء بعد، ولم يوضع على رأسي تيجان الأميرات. سيكون هذا غريبًا جدًا.”
لم تكن ترغب في أن تُرفع إلى مكانة أميرة فجأة.
“ولكن…”
“الإجراءات الرسمية وحدها تستغرق أسابيع. فلنُبقِ الأمور طبيعية.”
فهي لم تُعلن رسميًا كأميرة، ولم يُؤكد شيء بعد.
وإذا نشأت مشكلة مستقبلًا، يمكن حينها تصحيح الألقاب.
“لكن ألا تتحدثين مع سمو ولي العهد بلا كلفة أيضًا؟”
“ذاك لأنه صديقي.”
“وأنا لست صديقًا؟”
“لا… لم أقصد ذلك.”
وبينما كان يجيب، وجد ليكاردو نفسه عالقًا في فخ كلماته.
“صحيح… لا يختلف عن هارسيز.”
“أرأيت؟”
فهي تعامل ولي العهد بنفس الطريقة: رسميًا أمام الناس، وعفويًا في الخفاء.
ومن هنا جاءت صراحتها حتى في الحديث عن الإمبراطور نفسه.
وانتهت الضجة الصغيرة باتفاق ضمني أن يتصرفوا كما كانوا دائمًا.
“لكن…”
طرحت كاساندرا موضوعًا آخر يثير القلق:
“ماذا لو زعمت الإمبراطورة أو ذاك الأمير أن السيدة أوفيليا خانت مع ملك مملكة هيليبور؟”
تجهمت وجوه الجميع عند هذا الاحتمال.
“لا أقصد الإساءة! بالطبع، أمك لم تكن كذلك.”
أسرعت كاساندرا بإضافة التوضيح، خشية أن تُفهم خطأ.
“لكن ذلك الأمير قد يتفوه بأي شيء.”
غير أن إيزابيلا أزاحت هذه المخاوف بابتسامة هادئة:
“عندها سنطلب حضور كبار الكهنة.”
“….!”
أثار كلامها صدمة فيهم.
فطلب “كبار الكهنة” يعني استدعاء ممثلي جميع الأديان الثلاثة الكبرى في الإمبراطورية.
والدين في الإمبراطورية كان كيانًا مستقلًا، منفصلًا عن سلطة التاج، وجمعية الأرواح، وبرج السحر.
ولهذا، فإنهم حتى أمام أفراد العائلة الإمبراطورية لا يعرفون المجاملة ولا الخوف.
وعندما يجتمع أولئك الثلاثة، يصبح أمر واحد ممكناً.
“أنتِ تقصدين الفحص باستخدام الماء المقدس والقوة المقدسة، صحيح؟”
ذلك الذي استخدمه بعض الأباطرة في الماضي لم يكن سوى فحصٍ وراثيٍّ بالمعنى الحرفي.
وكما يحدث في التاريخ أحياناً، فقد أثير الجدل مراراً حول ما إذا كان ابن الإمبراطورة هو حقاً ابن الإمبراطور.
وحينها كان الحل هو استدعاء الكهنة الثلاثة العظام لإجراء الفحص باستخدام قوتهم المقدسة والماء المقدس.
لكن استدعاء الكهنة الثلاثة لم يكن أمراً بسيطاً أبداً.
فكل واحدٍ منهم سيطالب بمقابلٍ لحضوره، وهذا يعني أن على الإمبراطورية أن تقدّم العوض لثلاث ديانات كبرى دفعةً واحدة، وهو أمر معقد ومُرهق.
ومع ذلك، كانوا يستدعونهم حين تكون الحقيقة ذات قيمة عظيمة.
فلو بدأ فايتشي بادعاء أن إيزابيلا ليست سوى ابنةٍ غير شرعية أنجبتها أوفيليا من علاقة آثمة، فسيكون من حق الإمبراطور أن يطلب التحقق من ذلك.
والإمبراطور هو من يقرر إن كان الفحص سيُجرى أم لا.
وفي حالته المرضية الآن، فسيكون ولي العهد هو صاحب القرار.
“نعم، لكن في تلك الحالة، حتى فايتشي نفسه سيشعر بالقلق.”
فهو يعلم أن إيزابيلا تعرف حقيقته.
ومهما كان موقف الماركيزة مولان، فإن إيزابيلا كانت قد أخبرتها بذلك السر أيضاً.
ومع أن أحداً لا يعرف أين وضعت إيزابيلا كلماتها أو لمن أوصلتها، فلن يجرؤ فايتشي على استدعاء الكهنة الثلاثة عشوائياً خوفاً من أن ينقلب السحر عليه.
“لقد وُضعت كل الأوراق على الطاولة حقاً.”
كلاهما، فايتشي وإيزابيلا، كشف كل ما عنده.
ولم يعد هناك ما يمكن فضحه أكثر.
‘لا… ما زال هناك ذلك الشيء.’
عادت إلى ذهن إيزابيلا الثمرة الموضوعة على الطاولة بجوار سريرها.
السبب وراء حالات فقدان السيطرة.
لقد تأكدت حين رأت الماركيزة مولان تستخدمها.
نعم، هي السبب.
والآن لم يتبق سوى إثبات أن فايتشي والإمبراطورة هما من استخدما تلك الثمار.
لكن إيزابيلا لم تكن تنوي كشف تلك الورقة بعد.
فمجرد وجود الثمرة بحوزتها قد يجعل الشبهة تعود عليها وتنعكس كالعاصفة.
“بالضبط. البداية الحقيقية تبدأ من الآن.”
قالتها إيزابيلا بصوت منخفض.
فساد بينهم جو من التوتر البارد.
****
بعد انتهاء الحديث، كان الجميع في طريقهم عائدين إلى غرفهم.
وكانت إيزابيلا بدورها متجهة إلى غرفتها، لكنها أحست مجدداً بوجود من يعترض طريقها متعمداً.
كان الإحساس مألوفاً.
بضع خطوات ثقيلة، وصوت مميز تعرّفت عليه فوراً.
إنه إدوارد.
فتوجهت نحوه متظاهرة بأنها لا تملك خياراً آخر.
“هذه المرة، ما الذي تفعله هنا؟”
“آه!”
تفاجأ إدوارد بشدة من صوتها، فقد كان يقف أمام الجدار ويركل الأرض بخفة.
ابتسمت إيزابيلا وهي ترى صدره يرتفع وينخفض بسرعة من شدة الانفعال.
ولما لاحظت أنه يتلفت حوله بتوتر، قالت ساخرة:
“لا تقلق، لا يوجد أحد هنا. الجميع عادوا إلى غرفهم.”
ارتجف كتف إدوارد وكأنها ضبطته متلبساً، ثم رفع عينيه نحوها متردداً.
“ما الأمر؟ هل هناك مشكلة أخرى؟”
ظنّت إيزابيلا بقلق أن الأمر ربما يتعلق بفايتشي مجدداً.
لكنه ظل متردداً طويلاً قبل أن يخفض رأسه تماماً ويهمس بكلماتٍ غير واضحة:
“……أردت أن أقول… شكراً…….”
“ماذا؟”
لم تسمع جيداً، فرفعت حاجبيها مستفسرة.
عندها أغمض عينيه بقوة وقال بصوتٍ أعلى قليلاً:
“قلت… شكراً لك! أردت فقط أن أقول ذلك…….”
“آه.”
لم تتوقع تلك الكلمات.
لكنها شعرت بالارتياح، إذ لم يكن هناك أمر خطير على الأقل.
“وأيضاً…….”
“هناك شيء آخر؟”
انتظرت بصمت، فجاء صوته أضعف من ذي قبل:
“آسف.”
ثم أضاف بسرعة:
“……يا آنستي.”
تلعثم في كلامه وألحقه بلقبٍ رسمي وكأنه تذكّر فجأة أنها قد تكون أميرة.
كدت إيزابيلا أن تمسكه من ياقة قميصه وتصرخ:
“من أنت؟ وأين ذهب إدوارد الحقيقي؟!”
فإدوارد الذي تعرفه كان رجلاً متعجرفاً، صريحاً إلى حد الوقاحة، لا يقول أبداً كلمة شكر ولا يعرف معنى الاعتذار.
لقد عاش عبداً طيلة حياته، فلم يكن هناك أحد يقول له “شكراً”، وبالتالي لم يتعلم كيف يردها.
وكانت كلمة “آسف” أو “أعتذر” بالنسبة له تعني الخضوع والانكسار، وهي كلمات فرضها عليه القهر طوال عمره.
ولذلك، حين تحرر من العبودية، أقسم في داخله ألا ينطق بها أبداً.
ألا يضطر للرجوع مرة أخرى إلى قاع هذا الذل العميق.
فظل ذلك الرجل الذي يرفض الاعتراف بالذنب مهما حدث، ويهرب من قول شكراً لأنها تحرجه.
لكن في اللحظة التي كاد أن يعود فيها عبداً مرة أخرى، أدرك إدوارد شيئاً.
أن الكبرياء الحقيقية ليست في رفض الاعتذار أو الامتنان.
بل في معرفة متى يكونان واجبين.
****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات