لن أخدع مرتين [ 108 ]
اجتمع رفاق إيزابيلا جميعًا في قصر الماركيز ماكا.
كان ذلك تنفيذًا لقول ولي العهد “من الأفضل جمع من يُقال إنهم متورطون في الخيانة في مكان واحد، بدلًا من تركهم متفرقين.”
بالطبع اعترض فايتشي قائلًا إن ذلك أشبه بمنحهم فرصة للتآمر معًا، لكن اعتراضه قوبل بالتجاهل.
فبعد أن أشار ولي العهد إلى أن تحريك فايتشي لفرسانه كان تعديًا على سلطاته، أصبح موقف فايتشي بالغ الحرج.
قال ليكاردو:
“لقد أطلعتُ هارسيز على وضع جلالة الإمبراطور، كما خططنا.”
والسبب في أن ليكاردو لم يظهر معهم في الغابة كان بسيطًا.
فهو لم يكن يتجنب رفاقه، وإنما كانت لديه مهمة أخرى.
فاليوم هو يوم الاحتفال بعيد ميلاد الذوق ديرفيس، وقد أقيمت مأدبة صغيرة بهذه المناسبة وكان ليكاردو حاضرًا هناك.
ولم يكن الغرض مجرد الاحتفال بعيد ميلاد، بل أيضًا إعلان الوريث القادم من بين الإخوة الثلاثة، مما جعل المناسبة ذات أهمية خاصة.
وكان من المقرر أن يحضر ولي العهد الحفل، وكذلك بشكل استثنائي الإمبراطورة.
وأحد هؤلاء الإخوة الثلاثة الذين قد يُعلن عنهم كـ الدوق الشاب كانت له صلة سرية بهم، ولذلك وجب التأكد من الأمر.
وفي الوقت الذي توجهت فيه الإمبراطورة إلى قصر الدوق مبكرًا، قصد ليكاردو القصر الإمبراطوري للقاء ولي العهد.
السبب المعلن كان الدخول معه إلى الحفل معًا، لكن الحقيقة أن لديه أمرًا آخر يريد أن يبلغه به.
ورأى أن الفرصة المناسبة هي حين تكون الإمبراطورة بعيدة عن السمع والبصر.
‘أعلم أن ما سأقوله الآن سيبدو عبثيًا للغاية. وإن غضبت بعد أن تسمعه، فسأتفهم ذلك.’
‘ما الأمر حتى تُخلي القاعة من الخدم جميعًا وتبدو بهذه الجدية؟’
ظن ولي العهد أن ليكاردو يفعل مثل عادته، يبالغ في الجدية بشأن أمور صغيرة.
ابتسم ودعاه للجلوس، لكن ليكاردو ظل واقفًا يتحدث.
‘ليكا، ما بك؟ ما الذي يشغلك؟’
‘قد تقول إنك لا تريد أن ترى وجهي مجددًا. وأنا مستعد لهذا.’
ولمّا لمس ولي العهد في صوته شيئًا مختلفًا عن قلقه المعتاد، شعر بثقل الأمر.
أزاح ابتسامته، ثم واجهه بجدية:
‘…تحدث.’
‘دع جلالة الإمبراطورة تكفّ عن رعاية الإمبراطور.’
‘ماذا؟ ما الذي تقوله فجأة…؟’
تجهم ولي العهد من غرابة الطلب، لكن ما تلا ذلك جعله يتصلب تمامًا.
‘جلالة الإمبراطور لم يُصب بداء مستعصٍ. بل هو واقع تحت تعويذة على العقل.’
‘……’
‘بل وأظن أنه مُصاب بها منذ زمن طويل، منذ أكثر من عشر سنوات على الأقل…’
‘تمهل يا ليكا.’
قاطعه ولي العهد.
‘لا بد أن مستحضرتكم رأت شيئًا في أرشيف دويتشلان.’
فهو أيضًا كان قد اطلع على آخر محادثة مسجلة بين الإمبراطور والدوق لويد.
‘أفهم لماذا تظن هكذا. لكن تلك كانت محاولة من الدوق لويد ليغطي على عيوبه…’
‘أنا أقول لك إنها ليست كذلك.’
حين قاطعه ليكاردو مجددًا، تغير وجه هارسيز وصار أكثر جدية.
‘أنت تنطلق من افتراض أن الدوق لويد خائن. لذلك تفسر كلامه بأنه مجرد تشويش لإخفاء علاقته بمملكة هيليبور. وهذا ما صدقته طول الوقت.’
كان ولي العهد قد آمن بذلك دائمًا، حتى غدا الأمر لديه حقيقة مطلقة.
فقد كان صغيرًا جدًا حين وقعت تلك الأحداث، ولم يكن قادرًا على التمييز بين الحق والباطل، ونشأ وهو لا يسمع سوى عن خيانة الدوق لويد وقسوته.
‘أما أنا، فأرى كل شيء انطلاقًا من إيماني ببراءة الدوق لويد.’
كان ليكاردو يخبره الآن أن إيمانه ذاك كان خطأ.
‘ليكا، هل تدرك مدى خطورة ما تقوله الآن؟’
‘أدرك. وأقول ذلك لأني أدرك.’
ظل ولي العهد صامتًا برهة.
تشابك ذراعيه واتكأ على مكتبه غارقًا في التفكير.
لقد كان يقدّر ليكاردو صديقًا، ويثق أنه لن يحاول خداعه بمثل هذا الكلام الفارغ.
لكن ذلك لا يعني أنه قادر على قبول كلامه كما هو.
فمن المحتمل أن يكون ليكاردو قد خُدع من أحدهم، أو حصل على معلومة مغلوطة.
وإذا كان الأساس خاطئًا، فإن التفكير كله سيتجه إلى مسار مضلل، وربما إلى وهم خطير.
لم يكن هارسيز يشكك في صدق ليكاردو الآن.
بل كان يفكر من أين جاء بهذه المعلومة؟ وكيف انتهى إلى الإيمان بها؟
وفي نهاية ذلك التفكير، ظهرت إيزابيلا بطبيعة الحال.
في الحقيقة، منذ أن قالت إنها ستنزل إلى أرشيف دويتشلان كان ولي العهد يتوقع احتمال أن تطّلع على تلك الحقيقة.
لكنه اعتقد أنها ليست من النوع الذي ينقل الكلام جزافًا، وكان يثق بأنها ستحسن تقدير الموقف بنفسها.
غير أن سماع مثل هذا الكلام من ليكاردو يعني…
‘حسنًا، هاه… لنفترض أن جلالة الإمبراطور واقع فعلًا تحت تعويذة.’
ماذا كانت تعرف هي؟ أم أنه يجب أن يشكّ فيها؟
‘وما علاقة ذلك بضرورة إبعاد الإمبراطورة عن رعاية جلالته…’
انقطع كلام هارسيز في منتصف السؤال.
ثم التفت إلى ليكاردو بحدة وعينين متقدتين.
‘لا تقل لي إنك تزعم الآن أن الإمبراطورة تفعل شيئًا في جلالته.’
تردد ايكاردو قليلًا قبل أن يجيب بهدوء:
‘حتى يُحافظ على استمرار تعويذة من هذا المستوى على شخص بمقام الإمبراطور… فلا بد أن يكون ضعيفًا ومنهكًا.’
اتسعت عينا ولي العهد بدهشة، ثم مسح وجهه بيده وأطلق تنهيدة طويلة.
فهم أخيرًا لماذا أطال ليكاردو في التمهيد قبل أن يفتح الموضوع.
فالحديث لم يكن عاديًا أبدًا.
‘ليكا، الإمبراطورة تحب الإمبراطور. نعم هي تختلف عنا في الفكر، لكنها ليست حمقاء إلى درجة أن ترتكب فعلًا شنيعًا كهذا.’
تذكر ولي العهد كلمات إيزابيلا.
كقولها إن الإمبراطورة تتحمل المسؤولية وحدها، لكن لو ساعدها ولي العهد فسوف تسعد.
وكذلك قلقها بخصوص العقاقير التي كانت تأتي من مملكة هيليبور وإصرارها على ضرورة التحقق منها.
أكان ذلك بدافع الشك في مملكة هيليبور؟ أم أنها منذ البداية كانت تتحفظ من الإمبراطورة نفسها؟
‘أظن أنني أفهم سبب تفكيرك بهذا الشكل، لكن من أجل كلمات مستحضرتكم أن نسترد من الإمبراطورة ما منحناها من سلطة كاملة… هذا أمر ليس بالهيّن.’
استرداد السلطة في ذاته لم يكن صعبًا، فالإمبراطور الآن مريض، وولي العهد هو من يملك كل الصلاحيات عمليًا.
لكن ما إن يسترد تلك السلطة حتى يعني ذلك الصدام مع الإمبراطورة.
ولطالما لم تكن العلاقة بينهما متينة أصلًا.
فهي أم ولي العهد الثاني ولم تكن تكرهه، لكنها أيضًا لم تكن تبدي له مودة خاصة.
ومع ذلك، كان ولي العهد يرى أنها تعرف حدودها جيدًا.
فقد مدت نفوذها في إطار غير مزعج، وبقيت معظم الوقت بجانب الإمبراطور حتى نادرًا ما ظهرت في الحياة العامة.
كانا كوحشين كبيرين يتقاسمان المجال من دون أن يتجاوز أحدهما حدود الآخر.
لكن لو نزع منها مهمة رعاية الإمبراطور، فذلك سيكون بمثابة اقتحام مجالها.
والتوازن الهش بينهما سينهار لا محالة.
‘هارسيز.’
وبينما كان ولي العهد يحسب كل الاحتمالات، ناداه ليكاردو بهدوء.
‘هل تثق بالإمبراطورة؟’
كان سؤالًا بدائيًا، لكنه أصاب ولي العهد في أعماقه.
فشعر بأطراف أصابعه ترتجف لحظة سماعه.
الثقة؟ كلمة صعبة جدًا.
‘على الأقل، أؤمن بأن حبها للإمبراطور صادق.’
حتى وإن لم يثق بها كليًا، فإنه يثق بتلك الجزئية وحدها.
تأمل ليكاردو الجواب لحظة ثم واصل:
‘لقد انتظرتُ عشر سنوات كي أعود مجددًا.’
“……”
‘لا تعلم كم كان لذلك أن يعطيني قوة هائلة ويمدني بالشكر لك. ربما لن يكفيني عمري كله لسداد ذلك الدين لك.’
‘…..’
‘لكن بالضبط لهذا السبب أنا أقول لك هذا الآن. لأجل تلك العشرة، عزمت أن أطلعك بما يجب أن تعرفه.’
إن وقوف ليكاردو إلى جانبه من جديد كان أمرًا عظيمًا بالنسبة إلى هارسيز أيضًا.
والعرفان بينهما متبادل.
لكن أن يتحدث ليكاردو الآن مستندًا إلى تلك الصداقة الطويلة وذلك الانتظار الطويل، فهذا معناه أنه يتحدث بعزم راسخ ويقين لا يتزعزع.
‘إن اخترتَ أن تتجاهل كلامي، فلن يكون أمامي سوى القبول بذلك.’
حتى لو انكسرت العلاقة بينهما، فلا مفر.
‘أنا أقول هذا بعد أن عقدت العزم.’
‘…هاه، ليكا.’
لم يجد ولي العهد ما يقوله سوى أن يردد اسم صديقه مرارًا.
وساد الصمت طويلًا.
ثم كسر هذا السكون صوت طرقٍ على الباب.
‘مولاي، لقد حان وقت الانطلاق.’
جاء صوت الخادم من الخارج، فرد ولي العهد بالإيجاب، لكنه لم يتحرك من مكانه.
ظل يطيل النظر إلى صديقه، إلى ذلك الوجه الذي يراقبه دون أن يغيّر ملامحه.
‘لقد تعمّدتَ إذًا أن تختار وقت غياب الإمبراطورة عن القصر.’
لا بد أن لزيارته القصر قبل حفل الدوق ديرفيس سببًا خاصًا.
ومنذ أن قال إنه سيأتي للقائه قبل المناسبة، شعر ولي العهد أنه يريد أن يفاتحه في أمر مهم.
وبعد أن سمع ما قاله، أدرك الآن لماذا كان لا بد أن يكون في هذا الوقت تحديدًا.
***
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات لهذا الفصل " 108"