لذلك، كان عليه أن يرحل الآن قبل أن تتفاقم الأمور أكثر.
‘نعم، فلأرحل.’
ذلك كان أعظم هدية يمكن أن يقدمها لرفاقه.
أخرج إدوارد حقيبته على عجل، وحشر فيها ما تيسّر من متاع غرفته.
لم يكن سوى بضع ثياب، لكن حتى هذا يُعدّ سفراً مرفّهاً مقارنةً بأيام عبوديته.
وبعد أن انتهى من حشو كل شيء، أمسك مقبض الباب ليستعد للرحيل.
لكن في تلك اللحظة، وقعت عيناه على الخاتم في إصبع خنصر يده.
الخاتم الذي لبسه ليخفي ماضيه كعبد، لكنه أصبح مع الأيام هويته ذاتها.
‘تستطيع… إن أردتَ، فأنت قادر!’
تذكر تلك اللحظة التي التفتوا إليه فيها ودعوه ليركب معهم على متن السفينة… لم يستطع أن ينسى ذلك الشعور.
أن يكون هناك من يريده إلى جانبه… كان أمراً يملأ القلب فرحاً.
كم ارتبك حين أضاع هذا الخاتم قبل أسابيع قليلة!
فهو رمز العهد الذي قطعه مع رفاقه.
‘لكنني أنا من طعنهم في الظهر.’
ذلك ذنب لا يُغتفر.
زفر إدوارد زفرةً طويلة، ثم نزع الخاتم ووضعه على الطاولة القريبة.
‘سامحوني.’
ترك هذه الكلمات عوضاً عن اعتذار لم يستطع البوح به وجهاً لوجه، ثم فتح الباب وخرج.
التسلل بعيداً عن أعين الآخرين أمرٌ أتقنه منذ أيام العبودية، لذلك خرج من القصر الجانبي بسهولة.
غير أنه لم ينتبه أن نووم كان يخرج رأسه من جيب حقيبته.
نووم الذي كان متخفياً نظر إليه بخفة، ثم عاد واختبأ في عمق الحقيبة.
[تشيك!]
***
في الوقت ذاته، كانت إيزابيلا وثيو يتجولان حول القصر الجانبي متذرعين بموعد غرامي.
[تشيك!]
مع تقرير قصير، غيّر نووم الخاص بـ إيزابيلا موقعه.
إيزابيلا التي كانت تعبث بالماء المتساقط من النافورة، توقفت فجأة ورفعت رأسها.
وثيو الذي كان يتحكم بالماء عبر ناياس كي لا تتناثر قطراته عليها بينما يقرأ بعض الأوراق، رفع رأسه هو الآخر.
“ها قد وصلنا إلى هذه النتيجة.”
تمتمت إيزابيلا، فطوى ثيو أوراقه ونهض.
“هذا ما هو عليه بالفعل.”
كان أمراً متوقعاً سلفاً.
نفضت إيزابيلا قطرات الماء عن أصابعها وهزت رأسها.
“لا حيلة لنا.”
“بالفعل.”
تبادلا ابتسامة متماثلة، ثم أرسلا إشارات عبر ناياس ونسخ نووم المراقبة الموزعين في أرجاء العاصمة.
[تشيك!]
كاساندرا التي كانت تثير الجلبة في مكانٍ ما من مقرّ نقابة باتوكا ومعها دايفيد يحاول تهدئتها.
[كوك؟]
جوشوا، الذي كان يتحدث إلى أحد الروحانيين.
[تشيك!]
[كوك!]
وليكاردو الذي كان يستعد للمشاركة في فعاليةٍ قريبة.
في اللحظة نفسها، نسخ نووم وناياس الذين أُلصقوا بهم لأجل سرعة التواصل، أخذوا يقفزون ويصدرون أصواتاً.
فتحوّل انتباه الجميع إليها فوراً.
وكلهم كانوا يعرفون ما تعنيه تلك الإشارات. فتنهدوا معاً بمرارة.
كانوا جميعاً يأملون أن يبوح هو أولاً… لكنه كالعادة اختار أن يحمل العبء وحده.
“لا حيلة لنا.”
ردد الجميع الكلمات نفسها.
لكن لا يمكن أن يتركوه يغرق من جديد في وحدته…
“علينا أن نعيده.”
****
تحرك إدوارد بأقصى سرعة.
غادر العاصمة واندفع عبر الغابة.
في البداية، تبع الطريق، لكنه ما لبث أن انحرف إلى الداخل.
كان ذلك من عاداته عند الهرب.
فالمسير في الطرق الممهدة يلفت الأنظار، لذا كان يبحث عن أماكن بلا أثر مثلما اعتاد الاختباء من السيّد الحدّاد أيام عبوديته في أماكن يظنها خالية من البشر.
لكن بمجرد أن دخل الغابة واجه ضباباً كثيفاً.
كان يعلم أن المنطقة مشهورة بضبابها، لذلك تجاهل الأمر وتابع طريقه.
غير أن الضباب ازداد حتى تاه عن الاتجاه، فاضطر في النهاية إلى التوقف.
“على أي حال، الليل سيحلّ قريباً.”
رأى أن الأفضل أن يجد مكاناً ليختبئ فيه.
هو معتاد على النوم في العراء… بل لقد نام في أماكن أشد برودة من مجرد أرضية.
ولحسن الحظ، سمع خرير الماء فاتجه نحو جدول، وغسل وجهه بالماء البارد.
“هاه…”
لكن القلق والهمّ لم يفارقا قلبه.
وجوه رفاقه تلوح في ذهنه.
لعل هذا ما تعنيه رابطة العائلة التي حظي بها لأول مرة.
لم يكن عليه أن يضعف الآن…
“انسَ الأمر… هاه؟!”
وفيما كان يهز رأسه ليطرد تلك الخواطر، التقطت أنفه رائحة لاذعة.
كان يمكن تجاهلها في غابة مليئة بالروائح، لكن إدوارد صمت فوراً.
‘دخان مُخدِّر…؟!’
كان بلا شك رائحة حرق العشبة المخدِّرة التي تستخدمها مملكة هيليبور في التعامل مع العبيد.
‘لماذا أستشعرها هنا…؟!’
لكن قبل أن تكتمل الفكرة في رأسه، شعر بالسحر يطبق عليه.
إنه ذلك السحر ذو الخاصية السُمّية الذي يسبّب شللاً تاماً في الجسد، والذي اختبره عشرات المرات حين كان عبداً.
خارت قواه وسقط أرضاً، فاقترب منه عدة رجال.
“كما توقعت، لديه مناعة. عنيد فعلاً.”
“العبيد جميعهم يطوّرون مناعة أساسية ضد هذا. يبدو أننا بحاجة إلى تطوير شيء آخر.”
ارتجف جسده عند سماع ذلك الصوت.
حاول نسيانه طويلاً، لكنه صوت لا يمكن محوه من الذاكرة.
‘مستحيل… كيف يكون هنا؟!’
“لم أتوقع أنك ما زلت حياً. ايها العبد الحداد.”
وبينما كانت أذناه تلتقطان صوت أمير هيليبور، غاب وعي إدوارد.
***
عندما تُحرَق عشبة الشلل، ينبعث منها دخان كثيف.
كان أطباء مملكة هيليبور يستخدمون جرعات خفيفة منها لتسكين آلام المرضى في المستشفيات.
لكن إن كُثّف استخدامها، أصاب الجسد بالشلل وأفقد المرء وعيه لبعض الوقت.
كانت عشبة قوية للغاية.
ولأنها لا تفتك بالحياة، استخدمتها مملكة هيليبور لإخضاع العبيد والسيطرة عليهم ومعاقبتهم بسهولة.
أما هم، فكانوا يرتدون أدوات سحرية تحميهم من تأثير الدخان.
مرّ إدوارد بهذه الطريقة مراتٍ لا تُحصى أيام عبوديته، لكنه تهاون هذه المرة لأنه في الإمبراطورية.
لم يخطر بباله أن أمير هيليبور نفسه قد وصل إلى هنا، ولا أنه قد يعرفه.
فما باله ومعه أعوان أيضاً.
“آه، لقد أفاق.”
فتح إدوارد عينيه مذعوراً حين سمع ذلك الصوت المقيت.
“مممف!”
كمامة تشد فمه، وقيود تُمسك أطرافه.
“ممف… ممممف!”
حاول تحرير معصميه المربوطين خلف ظهره، لكن الحبال المحكمة لم تمنحه أي فرصة.
“هاها، مضى زمن طويل، أليس كذلك؟”
المتحدث كان حداداً رافق أمير هيليبور.
أحضرَه الأمير ليتأكد من هويته. فهو أيضاً يتذكر ملامح إدوارد، لكن وجود الحداد كان دليلاً قاطعاً.
وبمجرد أن رآه، تجمّد إدوارد في مكانه.
كان خوفاً فطرياً، وضغطاً تراكم من سنين طويلة من التعذيب.
“إنه هو بلا شك.”
قالها الحداد.
فبدأ نفس إدوارد يضطرب، وجسده يرتجف ارتجافاً ملحوظاً.
لو رآه رفاقه الآن، لَما صدقوا أن هذا هو نفسه الذي اعتادوا عليه بلسانه الخشن وغضبه الدائم.
“بفضل سمو الأمير، عثرنا على مورد ثمين. لا أعلم كيف نرد الجميل.”
“مقارنة بما ستفعله أنت، فهذا لا يُعد شيئاً.”
نظر إدوارد بين فايتشي وأمير هيليبور وهما يتصافحان.
اتسعت حدقتاه وانكمشت مراراً من شدّة الذعر.
“آه، كدت أنسى هذا.”
ناول الأمير صندوقاً لفايتشي.
“بهذه الكمية، يمكنك إنهاء أمر الإمبراطور من دون أن يدري أحد. وأنت أدرى بفعاليته.”
إنه السم.
“بهذا نكون قد سلّمنا كل ما نحتاجه. ما بقي سوى اختيار التوقيت المناسب للغزو.”
“هاها، ما دام كل هذا الدعم يصلنا منكم، فلا يسعني إلا الامتنان.”
“الكلٌّ يفعل ما فيه مصلحته.”
لم يصدق إدوارد ما يرى. لم يكن يتخيل أن أمير الإمبراطورية فايتشي يتعامل مع أمير هيليبور في مثل هذه الخيانة.
سمّ لقتل الإمبراطور؟ ثم شنّ حرب جديدة في الوقت المناسب؟
أدرك إدوارد بحسّه أن الأمر كارثة قومية.
‘لا بد أن أُخبرهم…!’
نسي خوفه لحظة، وأخذ رأسه يدور من شدّة التفكير.
حتى وإن كان جاهلاً قليل العلم، فقد أدرك أن عليه أن يبلغ الإمبراطورية بهذا.
‘القائد…!’
لكن بمجرد أن خطر ليكاردو في ذهنه، انحبس نَفَسه.
كيف له أن يبلغهم وهو نفسه من هرب منهم؟
مع ذلك، ألا يجب أن يُخبرهم على أي حال؟
لكن حتى إن أراد، فكيف سيفلت من هنا؟
وقعت عيناه على القيود الحديدية التي أُغلقت على كاحليه، قيود العبيد.
كم قاوم ليخلعها… كم فرّ منها، خان الجميع فقط لئلا يُفضَح أمره.
لكن لم ينفع شيء.
في النهاية، كان مقدّراً له أن يعيش عبداً. وما تلك اللحظات القصيرة من الحرية إلا ثمرة حلوة قُطفت خلافاً لمسار قدره.
لن تكون هناك مرّة ثانية.
سيعود إلى ذلك المكان المظلم البارد.
اختنق صدره.
‘لتكن الحرية رفيقك.’
ترددت في أذنيه كلمات إيزابيلا.
‘لحسن الحظ أنهم لا يعرفون حقيقتي.’
هل سيبقونه في ذكراهم كرفيق صالح؟
لعل ذلك أفضل.
لكن من جهة أخرى، لم يكن إدوارد من النوع الذي يؤمن بنهايات جميلة كهذه.
وماذا سيستفيد؟ وهو سيعود إلى الجحيم على أية حال.
‘كان عليّ… أن أبوح.’
الآن فقط، وقد سلّم بكل شيء، أدرك الحقيقة.
رفاقه… لم يكونوا من النوع الذي ينبذ شخصاً لأجل أمر كهذا.
‘جرب أن تثق بهم.’
آه، لو أنه فعل.
لو أنه صارحهم.
‘حتى لو كان الأمر يعني تهريب خائن للإمبراطورية، فإنهم سيخوضون المخاطر باسم عائلاتهم لينقذوك.’
نعم، هكذا كانوا.
لكن لحظة الإدراك جاءت متأخرة.
****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات