2
[22 يناير
وصلنا بسلام. صحيح أنّ عجلة العربة انزلقت قليلًا في منتصف الطريق، لكنّها ما زالت صالحة للسير، فلا بأس بذلك.
القصر أوسع بكثير ممّا توقّعت، حتى إنّه يبدو مبالغًا فيه لثلاثة أشخاص فقط.
الآن أكتب في دفتري داخل الغرفة، غير أنّ أصوات الناس في الخارج لا تتوقف عن الثرثرة.
يبدو أنّ الأمن مستتب هنا، فمن يجرؤ على الحديث خارج المنزل في هذا الوقت لولا أنّ المكان آمن؟ لا أظنّ أنني سألقى أيّ عناء.]
[23 يناير
اليوم التقيت كبير خدم القصر، وقد قدّم لي هدية ترحيبية صغيرة، كيسًا معطرًا، فشكرته وعلّقته قرب مكتبي.
الغريب أنّه ما إن دخلتُ الكيس إلى الغرفة حتى انقطعت فجأة كل الأصوات القادمة من الخارج.
لكنّ أين اختفت تلك النافذة التي كانت في ذلك الموضع؟]
***
لقد مرّ نحوُ ثلاثةِ أيامٍ منذ كتبتُ تلك المذكرة.
خلال تلك الفترة، بدأت يوجيريا عملَها كرئيسة للإقليم بسلام.
وكان أهلُ المقاطعة في الغالب مرحّبين بنزول الرئيسة بنفسها إليهم.
فقد قيل إنهم كانوا يشعرون بالضيق سابقًا، إذ لم يكن هناك مَن يحلّ مشكلاتهم إن ظهرت.
‘قال إنه بعد نحو عام، أليس كذلك؟’
على أيّ حال، لم يكن في غياب يوجيريا عن المجتمع الراقي لعامٍ أو عامين ما يثيرُ أيَّ إشكال.
فقد رسّخت مكانتَها جيدًا، بحيث لا تجرؤُ أيُّ نفسٍ على الطمع في موقعِها.
وإن أقلقها الأمرُ فعلًا، فبإمكانها دومًا أن تدعو الناس إلى هذا الإقليم إن أرادت.
“آنسة لاسيل!”
بينما كانت غارقة في التفكير، دوّى صوت يناديها على عَجَل من خلف الباب.
ففتحت لاسيل زان – فارسة الحماية الخاصة يوجيريا، وقائدة فرسان الدوقية، والمرافقة الشخصية للآنسة الثانية – الباب على عَجَل، لتجد أمامها يوجيريا بملامح متوترة على غير عادتها.
“ما الأمر هذه المرة؟ هل تحطّمت الثريّا؟”
“تلك حادثة الطفولة!”
“أم سكبتِ الخمر مجددًا على أحد النبلاء؟”
“كم مرة ستستحضرين حادثة حفل التقديم؟”
“هل استدعيتِ الخيّاطة لأن الفستان الجديد لم يُعجبكِ؟”
وبينما كانت تسرد الاحتمالات واحدًا تلو الآخر، أدركت لاسيل كم أنّ شخصيّة أنستها عجيبة الأطوار.
لقد كانت تُعجب بها في طفولتها، أمّا الآن فلم يَبقَ من ذلك سوى الاحترام الواجب.
ومع ذلك، ظلّت ترى فيها أنسة تستحقّ الولاء.
“لا، ليس من هذا كلّه. لقد جاءنا ضيف. قالت إنّها صديقة صديقة لي.”
“آه، ضيف إذًا.”
لم يكن غريبًا أن تحضر لاسيل مجالس يوجيريا أثناء استقبال الزوّار؛ فهي حارستها قبل كل شيء، كما أنّهما نشأتا معًا كالأختين.
لكنّ السبب الأعمق من ذلك هو ما تعرفه لاسيل حقّ المعرفة.
‘انستي لا تُجيد مخالطة الناس العاديين.’
حين يتعلّق الأمر بالأعمال والسياسة، تكون يوجيريا كالثعبان في دهائها، تُقنع وتُخضع وتستميل.
لكن في العلاقات الاجتماعية البسيطة، كانت تتحوّل إلى إنسانة غريبة الأطوار حقًا.
“صديقة صديقتي؟ ومن التي تجرؤ على الادعاء بأنّها صديقتي أصلًا؟”
“سنكتشف ذلك إن ذهبنا، أليس كذلك؟”
ولهذا كانت لاسيل دائمًا تلازمها لتيسير الحوار مع الآخرين.
ولأنّ لاسيل نفسها من النبلاء، لم يكن أحد يعترض على وجودها.
“من تراها تكون؟”
تمتمت يوجيريا بضيق وهي تمشي بخطوات منزعجة نحو غرفة الاستقبال.
وهناك، وجدت وجهًا مألوفًا يجلس بانتظارها.
“آه، انسة يوجيريا! وسير لاسيل أيضًا!”
“آنسة إليان؟”
كانت إليان – ابنة عمّ من الفرع الجانبي لعائلة الدوق، وأصغر بنات أحد الكونتات.
كانت في صغرها صديقةً ليوجيريا، لكنّ المسافات والسنين فرّقتهما.
وبما أنّها قريبة أيضًا من لاسيل ولوجيا، فقد ازداد تواصلهن منذ أن انتقلت إليان للسكن قرب هذه الإقطاعيّة.
“ما الذي جاء بكِ فجأة؟ وما حكاية (صديقة الصديقة) هذه؟”
“لكنها صحيحة، أليست كذلك؟ صديقة صديقة.”
وأشارت إليان إلى لاسيل قائلة. “صديقة.”
ثم إلى يوجيريا. “وصديقة الصديقة. أليس كذلك؟”
“……ما سبب قدومك إذًا؟”
تنهدت يوجيريا وقد بدت تحاول كبح غضبها.
“في الحقيقة… أردت استشارة صغيرة. فأنا أيضًا من سكان هذه الإقطاعية، أليس من واجبك الاستماع إليّ؟”
“تفضّلي، تحدثي.”
قالت يوجيريا ببرود وثقة تامة، إذ لم يظهر عليها أي توتر رغم أنّها أول استشارة تتلقّاها من أحد السكان.
فهي منذ صغرها معروفة بقدرتها على التعامل مع كل الأمور بمهارة تامة.
“قد يبدو كلامي غريبًا…”
ترددت إليان لحظة قبل أن تقول.
“لكن، هل من الممكن أن أكون قد قتلتُ خطيبي؟”
“…ماذا؟”
كانت الصدمة كافية لأن تفقد يوجيريا رباطة جأشها للحظة، حتى نسيت أسلوبها المتزن في الكلام.
“في البداية ظننتها أوهامًا، لكنّ الأمر يُقلقني كثيرًا…”
تنهدت إليان تنهيدة طويلة ثم قالت.
“لا، لا، ربما أتوهم. سأجد وسيلة أخرى.”
“توقّفي! إن كنتِ قد قتلته حقًا فسأتولّى أمر التستر!”
“أمـ… أمر التستر؟ هل هذا مقبول فعلًا؟”
“لا، ليس مقبولًا أبدًا.”
تدخّلت لاسيل وقد بدت مصدومة من تدهور جدية الحديث بين الاثنتين.
“قبل كل شيء، فسّري لنا. هل مات فعلًا أم تظنّين أنه مات؟”
“ذلك هو ما لست متأكدة منه…”
ثم بدأت إليان تشرح بتردد.
“أنتِ تعلمين أنني خُطبت منذ مدة، أليس كذلك؟”
“بالطبع.”
خُطبت لابن الماركيز الثاني، الشاب الذي لم يره أحد في المجتمع قط، وتلاحقته شائعات عن ندبة في وجهه، أو أنه وحش على هيئة بشر.
لكن السبب الحقيقي لمعرفة لاسيل ويوجيريا بالقصة هو آخر تمامًا.
“لقد هربتِ من المنزل بعد ذلك، أليس كذلك؟”
‘ظننتها ستهرب أبكر من هذا.’
فكرت لاسيل، فهي تعلم كم كان سوء العلاقة بين إليان وعائلتها.
فقد تخلّى عنها والدها منذ مولدها، لأن أمّها ماتت أثناء ولادتها، ثم زاد الأمر سوءًا حين أجبرها على خطوبةٍ كصفقة بيع.
كان طبيعيًا إذن أن تهرب دون تردد.
“ألم تُلغَ الخطوبة بعد ذلك؟”
“لم أستطع. كنت أظن أن فراري سيكفي لإنهاء العقد، لكن…”
“رجاءً، فسّري من البداية للنهاية!”
لو استمرت على هذا النحو من التقطيع في الحديث فلن يفهم أحد شيئًا حتى المساء.
“تتذكران كيف جئتُ إليكما، أليس كذلك؟”
“أجل.”
لم تنسَ لاسيل المشهد بعد.
كانت السماء تمطر بغزارة والعربة مقلوبة، وقد وصلت إليان إلى باب القصر مغطاة بالطين تمامًا، تطلب فنجان شاي وكأن شيئًا لم يحدث.
ثم استقرّت في الإقطاعية منذ ذلك الحين، دون أن يجرؤ أحد على سؤالها عن تفاصيل ما جرى.
“ومنذ ذلك الحين وأنا أتلقى رسائل، رغم أنه لا أحد يفترض أن يعرف مكاني.”
“من العائلة؟”
“لا، من الماركيز نفسه. أظن أن عائلتنا تتعرض لضغط من طرفهم أيضًا. فقلت لأبي أن يتدبّر أمره وحده…”
تقلص وجهها انزعاجًا وهي تتابع:
“كانت الرسائل عادية أول الأمر، ثم بدأت تزداد غرابة. وآخر ما وصلني هو هذا.”
أخرجت من حقيبتها رسالة مهترئة، نصفها مطوي ومبقّع بحيث بالكاد تُقرأ حروفها.
على الورقة كُتب بخط مضطرب.
إلى خطيبتي العزيزة،
أموتُ بسببك.
لوِي ليمان.
“……وهذه هي الرسالة التي أقلقتكِ لهذه الدرجة؟”
سألت يوجيريا ببرود وهي تتفحص الورقة.
“حتى الآن لا دليل على موته.”
“لكن ماذا لو قتل نفسه بسببي؟”
“حينها تُفسخ الخطوبة تلقائيًا.”
“أليس في الأمر ما يثير القلق أكثر؟”
تدخّلت لاسيل مجددًا، فـإليان التي تعرفها ليست من النوع الذي يتهوّر لهذا الحد.
“ربما لا علاقة للأمر، لكن…”
تابعت إليان وهي تتردد.
“منذ أن بدأت الرسائل الغريبة بالوصول، تحدث أشياء غريبة في الليل.”
“غريبة؟ كيف؟”
“أتعرفين ذلك الصوت المزعج الذي يصدره البيت العتيق حين تخطين فيه؟”
في البداية ظنّت أن الأمر لا يتجاوز صرير الأخشاب بفعل الريح…
لكن في الليالي الأخيرة، كانت تلك الخطوات تقترب أكثر فأكثر.
التعليقات لهذا الفصل " 2"