وقعتُ في حيرةٍ لبرهة.
‘هل هناك طريقة لإيصال الرسالة بشكلٍ منفصل؟ أم يجب أن أثبّتها في غرفتي بالطريقة نفسها مستخدمةً الخنجر؟ ما زلتُ لم أتخلّص منه بعد … لكنّ ذلك يعني أنّ أحدهم سيتسلّل مجدّدًا أثناء نومي، أليس كذلك؟ هيييه، لا أرييييد هذا-!’
لم يكن مجرّد التخيّل إلّا كافيًا ليمنحني ملامح باكية. لكنّ ذلك لم يكن ليولّد حيلةً أفضل.
لنبحث أوّلًا عن ورقة وقلم.
بما أنّ محتوى الرسالة السريّة كان يختفي، فالغالب أنّهم يستخدمون ورقًا أو محلولًا خاصًّا.
فحصتُ الغرفة هذه المرّة بدقّة أكبر ممّا فعلتُ سابقًا. لم أعثر عليه سابقًا، لكن لا شكّ أنّ تلك الأشياء مخبّأة هنا في الداخل.
‘يبدو أنّها ستكون بالقرب من المكتب …’
فالمرء عادةً يضع أغراضه في أمكنة مألوفة ومريحة.
خصوصًا الورق والقلم؛ فالأرجح أنّها استخدمتهما عند المكتب.
بدأتُ بتفقّد المكتب جيئةً وذهابًا. حتّى الجزء السفليّ منه لم يُظهر شيئًا مريبًا.
بعد ذلك انتقلتُ إلى الأدراج الملتصقة بالمكتب.
بدأتُ أفتحها واحدًا تلو الآخر وأفتّش داخلها.
دررك—
دررك—
فتحتُ درجين متتاليين، وبينما كنتُ أفتّش الدرج الثالث—
“هـم؟”
تااك—
صدر صوتٌ أجوف غريب من أرضيّة الدرج الثالث.
لم يكن فارقًا كبيرًا، لكنّ أذن ليليان الحسّاسة التقطته فورًا.
‘لا يمكن …’
مرّرتُ أصابعي على قاع الدرج الّذي لا يبدو عليه شيء غير طبيعيّ. في زاوية الدرج الداخليّة كان هناك أخدود صغير كأنّه خدش.
أدخلتُ ظفر إصبعي هناك و رفعتُ اللوح برفق.
كيك—
ومع صوتٍ مزعج انكشف لوح القاع، فظهرت مساحة ضيّقة جدًّا تحت الدرج. وهناك، كما توقّعت، كانت الورقة والحبر الخاصّان.
ثمّ—
[ التسلّل ناجح. إذا استمرّ الوضع هكذا فسيُتَمّ اجتياز فترة الاختبار بسلام. أمّا العميلة رقم 32 الّتي سبقت وتسلّلت فتمّت معالجتها على يد الدوق … ]
وحتى الرسالة السريّة الّتي كانت ليليان قد بدأت بكتابتها ولم تُكملها.
“هذا …”
في اللحظة الّتي رأيتُ فيها الشفرة المكتوبة بخطّ يدها، بدأت ذكريات ليليان المدفونة تطفو بخفوت.
‘احذري، أنتِ. ليس الفتيات الّلواتي طُردن بعدما حاولن الاقتراب من سموّه بقليل.’
‘تعرفين كارين، صحيح؟ يقولون إنّها طُردت للسبب نفسه.’
كارين الّتي تحدّثت عنها الخادمات آنذاك. تلك الخادمة هي العميلة رقم 32 المذكورة في الرسالة.
في رأسي خُيّل لي شعرٌ أحمرُ لامع لتلك الفتاة؛ صورة باهتة، لكنّها ظهرت. وهذا يعني—
‘لم تُطرَد، بل قُضي عليها.’
شعرتُ بقشعريرةٍ تهبط على ظهري دفعة واحدة. طالما أنّني أعيش في جسد ليليان، فمصير 32 ليس شأنًا يخصّ غيري.
‘عليّ أن أبقى متيقّظة تمامًا!’
سواء كان الأمر يتعلّق بدوق فيليوم، أو بالجهة الّتي تقف خلف أعمال التجسّس—
فإذا اكتشف أيٌّ منهم حقيقتي، فسيتمّ التخلّص منّي دون أن يتركوا أثرًا.
“هففف …”
التقطتُ أنفاسي ونظرتُ من جديد إلى الرسالة الّتي لم تُكمِل ليليان كتابتها.
[ التسلّل ناجح. إذا استمرّ الوضع هكذا فسيُتَمّ اجتياز فترة الاختبار بسلام.
أمّا العميلة رقم 32 الّتي سبق وتسلّلت فمؤكّد أنّ الدوق قد تخلّص منها، لكن لا نعلم مكان الجثّة. تمّ إتلاف كلّ ما قد يشكّل دليلًا، لذا لا مشكلة كبيرة. غير أنّ —]
وانتهى النصّ هنا.
وبالنظر إلى توقيت المحتوى، فالظاهر أنّها كتبته قبل أيّام قليلة فقط من لحظة حلول روحي في جسدها.
‘لا أعرف لماذا توقّفت عن الكتابة.’
لكنّه كان أمرًا حسنًا جدًّا بالنسبة إليّ الآن.
اعتمدتُ على الذكريات الباهتة وعلى هذه الرسالة، وبدأت بكتابة رسالةٍ مشفّرة جديدة. في الواقع، لم يكن المحتوى نفسه معقّدًا.
[ الدوق التقى بالسيدة برانت. بخصوص دعم الصالون. بعد ذلك لم يقُم بأيّ نشاط اجتماعيّ آخر وبقي منعزلًا. ]
وكلّ ما فعلتُه هو تضخيم تلك النقاط البسيطة.
خلاصة الأمر أنّها كانت ثلاثة أسطر فقط، واضطررتُ لتمديدها قسرًا. لدرجة أنّني كدتُ أكتب أنّ السيدة برانت جميلة ومتزوّجة.
‘على الأقلّ بذلتُ قصارى جهدي.’
راجعتُ الشفرة مرّة أخرى لأتأكّد من خلوّها من الأخطاء، ثمّ طويتُ الرسالة. كانت مطويّة بالطريقة نفسها الّتي استلمتُ بها أوّل رسالة.
كييييك—
فتحتُ الباب رويدًا وأخرجتُ رأسي بحذر. كان الوقت متأخّرًا، ولم يكن هناك أحد في الخارج.
بخطواتٍ خفيفة، خرجتُ وأنا أراقب ما حولي.
ولو صادفتُ أحدًا، لكنتُ تظاهرتُ بالذهاب لشرب الماء.
‘أرجو ألّا أصادف أحدًا …!’
لم أكن أملك أيّ موهبة في الكذب. مهما فكّرتُ مسبقًا بحجّة، لم أكن واثقة بأنّي سأقولها بسلاسة. ألا يكفي ألّا أتلعثم؟
‘آه، وصلتُ!’
ربما لأنّي دعوتُ بذلك بإخلاص؟
تمكّنتُ من الوصول إلى الباب الخلفيّ للملحق دون أن يشعر بي أحد. كان إنجازًا صنعته حساسيّة ليليان الحادّة وغريزتي للبقاء.
“‘واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة …’
بدأتُ أعدّ الطوب بدءًا من اليسار وصولًا إلى الطوبة التاسعة تمامًا. ثمّ دسستُ الرسالة في الفراغ الملاصق للأرض.
‘هذه المرّة هذا هو المكان الصحيح.’
موقع تبادل الرسائل يتغيّر كلّ مرّة، لكنّه يخضع لنمط معيّن.
وبحسب الحسابات، فهذا هو الموضع الحالي.
‘يا للنجاة!’
ولحسن الحظّ أنّ إحدى ذكريات ليليان قد ظهرت في وقتها.
إن كانت مجرّد ذكرى مجتزأة، فهي على الأقلّ أفضل من لا شيء. كدتُ أتلقّى طعنة أخرى لو لم أعرف طريقة رفع التقرير.
وبعد أداء مهمّتي عدتُ إلى الغرفة بخفّةٍ كما خرجت.
“آه، يا للارتياح!”
ودّعتُ تلك الليالي الّتي لم أستطع فيها النوم مرتاحة داخل غرفتي!
وحين زال التوتّر، انغمستُ في نومٍ عميق لم أنل مثله منذ فترة طويلة.
***
ليت الأمر انتهى عند هذا الحدّ.
للأسف، لم تدُم هذه السكينة طويلًا.
[ نقص في المعلومات. ]
فقد وصلت رسالة أخرى في المكان الّذي تحقّقتُ منه بدافع الحذر. وذلك خلال يومين فقط.
‘لا، فعليًّا هذا كان كلّ شيء!’
فهذا حقًّا كلّ ما كنتُ أعرفه عن آخر أخبار الدوق.
ولا يمكنني اختلاق أحداث غير موجودة، أليس كذلك؟
“هاه …”
خرجت تنهيدة طويلة منّي دون أن أشعر.
لم يعد هناك خيار آخر. لا بدّ من “عمل إضافي” طوعيّ.
“يا إلهي، ليليان.”
“أأنجزتِ كلّ هذا بهذه السرعة؟”
“يا للمفاجأة!”
وبين صدمة الخادمات، كنتُ أتسلّم أعمال الغسيل المتراكمة وأعلّقها.
تك تك—! ، تشك—!
كانت حركتي سريعة لكن غير مهملة. مهارة اكتسبتُها في حياتي كيتيمة تنتقل بين منازل الأقارب. وبفضل ذلك بدأت أكوام الملابس تتناقص شيئًا فشيئًا.
‘بعدها سأكتفي بنفض الغبار عن الأغطية والسجّاد …’
همم، يبدو أنّ موعد الغداء سيتقدّم قليلًا اليوم.
قدّرتُ الوقت تقريبًا ورتّبتُ مهامي التالية بسرعة.
‘بعد الغداء، الطابق الأوّل من المبنى الرئيسيّ، ثمّ الحديقة، ثمّ الملحق الشرقيّ.’
وهذه هي جولة تنقّلات دوق فيليوم المعتادة، أي “موقع عملي الإضافي”.
فهو بالكاد يتجوّل خارج غرفة النوم، وغرفة المكتب، والمكتبة. حتّى داخل المبنى الرئيسيّ لقصره.
‘إذًا هذا هو سبب صعوبة رؤيته من البداية!’
لكن رغم ذلك، كنتُ أجمع المعلومات عنه تدريجيًّا.
فقصر الدوق كلّه يعمل لأجل دوق فيليوم وحده، لذا لم يكن صعبًا الاستماع قليلًا لما يقوله المحيطون به.
‘لقد استيقظ سموّ الدوق.’
‘ذهب الآن إلى المكتبة، فلنبدأ بتنظيف غرفة المكتب.’
‘الشيء الّذي طلبه سموّه وصل للتوّ. ماذا نفعل به؟’
‘آه، سأبلّغ سموّه—’
‘يريد سموّ الدوق أن يُقدَّم طعام اليوم إلى غرفة المكتب. ويُفضَّل أن يكون بسيطًا.’
‘حسنًا، سيّدي المساعد.’
‘صباح الخير يا سيد غونتر.’
‘هاها، صباح الخير يا كبير الخدم! هل سموّ الدوق …؟’
‘هناك أوراق مُلحّة يجب إنهاؤها. وسيتوجّه قريبًا إلى ساحة التدريب.’
‘آه، إذًا—’
كانت أحاديث يوميّة بسيطة.
لكن بفضلها، تمكّنتُ أخيرًا من تخمين نطاق تحرّكات الدوق، ولو بشكلٍ تقريبي.
كانت تلك ثمرة أيّامي الطويلة الّتي لم أرَ فيها حتّى خصلة واحدة من شعر صاحب القصر.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 6"