الفصل 96. أمر بالعودة
صوت خفقان الأجنحة المرفرفة هزّ الهواء.
نظر كارسيون بعين قلقة إلى ظهر التنين الذي كان يحمله، ثم ألقى نظرة سريعة على الفرسان والسحرة الذين رافقوه في الرحلة.
ثم عاد بنظره إلى الجناحين الأحمرين اللذين يتحركان بصعوبة، ورأس ليونيل الذي كان يبدو واضحًا أنه يلهث من التعب.
هل هذا المخلوق بخير؟
لا، بل هل نحن بخير؟
إذا سقطنا من هذا الإرتفاع ستكون النهاية.
فكّر كارسيون في سؤال ليونيل إن كان يجهد نفسه أكثر من اللازم، ثم عدل عن ذلك.
ليس من الحكمة التحدث مع أحد وهو يلهث من التعب.
-هاه، اللعنة.
كانت الشتائم التي تدوي في رأسه بين حين وآخر تساهم في تأكيد قراره.
صحيح.
لن أبادر بأي شيء الآن.
استمر التحليق الخطر لفترة.
فمخبأ هاديس كان يقع على ارتفاع شاهق بالفعل.
على ظهر التنين المتمايل، ألقى كارسيون نظرة على المشهد الواسع الممتد أمامه.
كانت الشمس الغاربة تصبغ الجبال بضوء غامض.
“منظر خلاب.”
“أترى هذا المنظر خلابا الآن بالذات؟”
علق إيفان بوجه متجهم عندما أبدى كارسيون رأيه الهادئ.
وكان لدى كارسيون رد جاهز.
“ومن الذي وضعنا في هذا الموقف أصلاً، برأيك؟”
“تلمّح إلى أنني السبب؟”
“أليس كذلك؟”
“لو أردنا الدقة، فالسبب هو جلالتك على الأرجح.”
ارتفع حاجب كارسيون الأيسر ببطء.
يعني، أكمل كلامك إن كنت تقدر.
أغلق إيفان فمه، لكنه واصل الاحتجاج في قلبه.
الخطة الأصلية كانت التخييم ليلة واحدة ثم تسلق الجرف.
لكن ليونيل تقدم طوعًا وأفسد الخطة.
قال إنه يفعلها كثمن لمشاهدته مشهدًا ممتعًا.
يقصد اللحظة التي لم يجرؤ فيها لا كارسيون ولا إيفان على الاعتراض أمام أولاند.
<بما أنكما أضحكتما قلبي، سأجتهد أنا أيضًا، ههههه.>
تلك الضحكة الطويلة كانت مزعجة إلى حد لا يُوصف.
على أي حال، لولا وجود كارسيون، لما اضطر إيفان أبدًا لإحناء رأسه لذلك المبارز المتجول.
بل لكان من المفترض أن يستقبل انحناءة منه.
لولا كونه معلم السيد الذي يخدمه، لما قبل بالأمر.
راح إيفان يرمق مؤخرة رأس أولاند بنظرة باردة، حيث جلس الأخير على رأس ليونيل متوازنًا على نحو مدهش.
ألا يسقط أبدًا؟
“……!”
وكأنه يقرأ الأفكار، التفت أولاند فجأة إلى الوراء.
فأدار إيفان عينيه بسرعة إلى اتجاه آخر وكأن شيئًا لم يكن.
واتجه نظره إلى الطبيعة الشاسعة التي تحيط بهم.
“منظر جميل، أليس كذلك؟”
ضحك كارسيون بخفة وهو يهمس من جانبه.
أطلق إيفان صوت تأوه خافت وهز رأسه.
“أنا قلق بشأن ما إذا كان ليونيل سيتمكن من التحمل أثناء فك الحاجز بالسحر.”
على الأرجح غير الموضوع من الإحراج.
فتظاهر كارسيون بعدم ملاحظة محاولة إيفان المكشوفة لتغيير الحديث.
وفي الحقيقة، كانت هذه المسألة تشغله طوال الرحلة، فلم يكن يستطيع تجاوزها بسهولة.
تحولت عينا كارسيون الزرقاوان إلى الجرف الأملس.
مجرد التفكير في تسلقه جعل بصره يظلم.
خاصة لو تخيل نفسه يصعده وهو يحمل السحرة على ظهره.
“ليونيل.”
نادى كارسيون التنين بأكبر قدر من الهدوء، ليطلب منه ببساطة أن يوفر طاقته دون أن يستثيره.
-ماذا؟ يا X.
كانت الإجابة فظة لأقصى درجة.
“…….”
أليس من الطبيعي أن يكون الرد لطيفًا إن كان الطلب لطيفًا؟
لكن نظرًا للظروف، قرر كارسيون التحلي بسعة الصدر.
ففي النهاية، ليونيل هو الوحيد الذي يعاني حاليًا.
أما الآخرون، فرغم قلقهم، فهم جالسون براحة.
“عندما نصل إلى الحاجز، ابق في مكانك دون حراك. يجب أن تدعم السحرة حتى لا يتشتت تركيزهم أثناء تدمير الحاجز.”
لم يقل سوى ما هو صائب، لكن ما سمعه كان صرير أسنان ليونيل في رأسه.
-تبًا لكل شيء!
من البداية للنهاية، مجرد شتائم.
اعتبر كارسيون تلك الشتائم بمثابة موافقة صريحة، فصمت مجددًا.
ثم، عندما ارتفعوا أكثر قليلًا…
-لقد وصلنا. بسرعة، بسرعة!
دوى صوت ليونيل المستعجل في رؤوس الجميع.
كان من الواضح أنه وصل إلى حدوده القصوى.
لو نفدت ماناه، فكل شيء سينتهي.
نهض السحرة بسرعة وقد أدركوا الخطر.
وبدؤوا في إلقاء تعويذاتهم بنفس الطريقة التي استخدموها سابقًا لكسر حاجز مخبأ ليونيل.
أصبح الحاجز الخفي معتمًا.
وأصبح الجرف الأملس خشنًا مليئًا بالتعرجات.
وبين تلك التعرجات، ظهر ثقب أسود.
كان مدخل المخبأ.
“دمّروه.”
أصدر كارسيون أمرًا مختصرًا.
فأحاط الفرسان سيوفهم بالهالة ولوّحوا بها.
فشش! فشششش!
نشأ وهم بأن الهواء نفسه يتكسر.
وتناثر شيء شفاف محطم في كل الاتجاهات، ثم اختفى كما لو كان سرابًا.
“هاهنا، كان هاديس…”
نزل كارسيون من على ظهر ليونيل، وتفقد مدخل المخبأ بشعور غريب.
ابتلع ريقه بصمت، بينما كان ليونيل قد عاد إلى هيئته البشرية وانهار على الأرض وهو يلهث بشدة.
أسند رأسه إلى الجدار ولوّح بيده وكأنه يقول: اذهبوا بدوني.
“أنا… هااه… لم أعد أستطيع… هااه هااه.”
“عمل جيد.”
كانت مشاعره صادقة.
نظر كارسيون إلى ليونيل، المبلل عرقًا، بنظرة حانية نادرة، ربما لأول مرة في حياته.
بما أنه بذل هذا القدر، فإن كل ما كان يشعر به نحوه من ضيق وغيظ وكره خفّ كثيرًا.
“لنذهب.”
قاد كارسيون فرقة الصيد وتوغل إلى الداخل.
كان ينوي ترك ليونيل يستريح ما داموا في طريقهم للقضاء على هاديس.
سيحتاجون إليه عند العودة، في النهاية.
ما إن خطوا أولى خطواتهم في الممر المظلم، حتى اشتعلت المشاعل فجأة.
“هوه، بالمقارنة، كهف ليونيل يبدو سخيفًا.”
همس أولاند بحماسة لم يتمكن من كبحها.
وقد شعر كارسيون بذلك أيضًا. كان لهذا الكهف تاريخ عريق.
يمكن استشعاره من الهواء، ومن المشهد الذي أضاءته النيران.
درج حلزوني طويل يمتد إلى الأسفل.
لا يُرى له نهاية.
وعلى طول هذا الدرج العظيم، حُفرت نقوش على الجدران.
“تبدو منحوتات تعود لأكثر من ألف عام…”
انبهر كارسيون في داخله.
في لحظة، بدت له المباني الضخمة والفاخرة في شوتزن متواضعة للغاية.
فهذا المكان اتسم بجمال معقد صقله الزمن، وأضفى عليه سحرًا لا يوصف.
في ظل صمت لا يُسمع فيه سوى وقع الأقدام، أدرك كارسيون أن الجميع كانوا يشاركونه الإعجاب نفسه.
قرأ ذات مرة في كتاب، أن الأقزام كانوا يُجلبون للعمل هنا.
لكن هذا العِرق انقرض منذ أكثر من ألف عام.
ما يعني أن هذا المكان أقدم من ذلك.
كان مذهلًا حقًا.
لكن لم يكن هناك وقت للانغماس في الإعجاب فقط.
“احذروا.”
أشار كارسيون بيده لمن خلفه أن يتوقفوا.
“إنه كهف حقيقي بالفعل.”
ظهرت نبرة الحماسة في صوت أولاند.
فكلما زاد ما يجب حمايته، زادت الحماية صرامة.
التقط كارسيون حجرًا صغيرًا ورماه بخفة.
طق، طقطق…
ارتطم الحجر بالسلالم وتدحرج إلى أسفل حتى توقف.
ثم بعد بضع ثوانٍ.
فيوفيوق! فيووق!
انطلقت فجأة رماح حادة من الجدران الخالية، كالمطر القاتل.
لو واصلوا السير، لتحولوا إلى أسياخ، أو سقطوا من الدرج الخالي من الحواجز.
“لن يكون الأمر سهلاً.”
ارتسمت على فم كارسيون ابتسامة خفيفة توحي بالتسلية.
لكن عيناه كانتا حادتين بقدر لا يُستهان به.
***
لماذا يمر اليوم ببطء شديد؟
كنت، أثناء انشغالي في البحث أو حتى وقت الطعام، أرفع رأسي فجأة وأتأمل السماء.
رغم أن جبال دنيبروك لا تُرى جيدًا بسبب الحاجز المعتم، ظلت عيناي تتجهان إلى ما وراءه.
بدا قصر إيفلين خاليًا ووحيدًا بغياب كارسيون.
هل سيكون بخير؟ هل لن يحدث له مكروه؟
تكررت تلك الأسئلة المؤلمة في رأسي مئات المرات يوميًا حتى خفق قلبي من القلق.
أنا فقط انتظرته لبضعة أيام، وهذا أشعرني بالاختناق.
فكيف صمد كارسيون خلال كل ذلك الوقت وهو يظن أنني متّ؟
هل عاش وهو بالكاد يتمسك بالحياة؟
“متى سيعود…..”
تمتمت في الهواء بكلمات لم يسمعها أحد.
تخيلت لو أن كارسيون يختبئ في مكان ما ويجيبني فجأة.
تمنيت لو يحدث ذلك حقًا.
رغم أنني أعلم أنه ذهب للقبض على هاديس في البعيد، راودني أمل غبي بأنه سيعود فجأة.
“يا لي من حمقاء.”
يجب أن أواصل تطوير الحاجز.
حثثت نفسي على التركيز وعدت إلى البحث.
هدفي أن أجعل الحاجز شفافًا قبل عودة كارسيون.
رغم ضيق الوقت الجنوني، إلا أنني كنت حرة في تحديد أهدافي كما أشاء، أليس كذلك؟
كنت أريد أن أتباهى أمام ليونيل أيضًا.
هيا، انفث نيرانك. لن يتزحزح الحاجز أبدًا! أليس هذا مذهلًا؟
تعلمت ذلك منك.
كنت أرغب في قول هذه الكلمات.
وأردت أن أُري كارسيون إنجازي أيضًا، كما لو أنه هدية مفاجئة.
انظر! بفضلك أصبح بوسعي حماية الإقليم الذي رممته أنت.
لا يبدو أن هناك حاجزًا، أليس كذلك؟ كل شيء جميل كما كان. لكنه الآن أكثر أمانًا بكثير.
أردت أن أقول ذلك بصوت مفعم بالفرح.
اشتقت إليهما كثيرًا…
إلى ليونيل، وإلى كارسيون.
ووقتها، بدأ الاضطراب في الخارج.
كنت أنتظر عودة فريق الصيد بفارغ الصبر حين شعرت بتغير في الأجواء، ففتحت النافذة.
كان أحد الفرسان متوجهًا إلى القصر، لكنه توقف حين التقت عينانا.
هممم…
لا يبدو من فريق الصيد…
استدار الفارس وجاء نحوي.
“أأنتِ باحثة في برج السحر؟”
“نعم، أنا كذلك. هل من خطب ما؟”
سألت بحذر، وقد بدأ القلق يزحف إليّ.
لم يبقَ في القصر سوى عدد قليل جدًا من الناس.
فقد أُرسل الجميع تقريبًا إلى جبل دنيبروك، باستثناء فريق صغير احتياطي.
أخرج الفارس رسالة من صدره، وقرأها بصوت واضح لا يحتمل الخطأ.
وكانت أخبارًا لا تُسعد البتة.
“بأمر من جلالة الإمبراطور هاينريش الثالث: على جميع باحثي برج السحر في إقليم إيفلين العودة فورًا إلى شوتزن.”
التعليقات لهذا الفصل " 96"