الفصل 87. عندما تكون صغيرًا، تكون مليئًا بالحيوية
“ما ذاك؟”
مع سماع صوت أحدهم، رفع السحرة الذين كانوا يعملون على نصب الحاجز في القرية رؤوسهم دفعة واحدة.
لم تكن هناك حاجة لشرح ما الذي رأوه ليطرحوا هذا السؤال.
هناك بعيدًا، عند سلسلة جبال دنيبروك، كان عمود أحمر يلوح في الأفق.
لهيب اخترق الغيوم وصعد عاليًا حتى بدا وكأنه كيان يبعث على الرهبة.
رغم أنه كان بعيدًا لدرجة بدا كخط رفيع صغير بحجم الإصبع، إلا أن الشعور بالعظمة كان طاغيًا.
ارتسم الخوف على وجوه الجميع.
أن يصل السحر إلى هذا المستوى…؟
من صاحب هذا العمل على وجه الأرض؟
بلعت ريقي الجاف بصعوبة. هاديس هو تنين أسود عمره آلاف السنين.
لم أكن أعرف إلى أي مرتبة وصل سحره.
لكني كنت أتخيل فقط أنه قد بلغ مرتبة لا يمكن للبشر الذين يعيشون حياة قصيرة أن يصلوا إليها.
ترى، هل كارسيون بخير؟
كان عليه أن يقاتل وحشًا كهذا؟ كنت أعلم أن التنين الأسود مهيب، لكن لم أظن أنه بهذا الحجم…
ولم يخطر ببالي أبدًا أن يكون هذا العمل من صنع ليونيل، فارتجفت خوفًا وسوء تقدير.
لكن معرفة الحقيقة لم تتأخر كثيرًا.
“بما أننا أنهينا نصب الحاجز، أظن أنه من الأفضل أن يغادر الباحثون الآن.”
تحدث أحد السحرة المنضمين إلى قوات الدعم.
كان كل السحرة المرسلين للدعم من برج السحر من المستوى المتقدم.
أما من هم دون ذلك، فوجودهم في الحملة لن يكون إلا عبئًا بلا فائدة تُذكر. وفي الواقع، كنت متفقة معهم.
مواجهة وجود مخيف كهذا…
بقدرة ساحر من المستوى المتوسط، لن يتمكن حتى من خدش جلده.
لقد أدينا كل ما بوسعنا. في هذه المرحلة، مغادرتنا ستكون أكثر عونًا لفرقة الصيد.
نظرت إلى إيديرا، وجايل، وبينجين.
“لنذهب إلى القصر. سنجهز أمتعتنا ونغادر إلى شوتزين.”
أومأ الثلاثة موافقين برؤوسهم.
بينما كنا نتجه نحو قصر إيفلين، كنا نجر عربة معنا، نراقب السماء العكرة بعيون قلقة.
حتى السحرة من المستوى المتقدم كانوا ينضمون إلينا على نية الالتقاء بالفرسان المتواجدين بالقصر.
لقد حان وقت انطلاق قوات الدعم لدعم فرقة الصيد في جبال دينيبروك.
كنت أكتم خفقان قلبي المذعور بصعوبة وأتابع السير. الآن لم يبق لنا سوى الدعاء وترك الأمر للقدر.
كانت خطواتي ثقيلة. مع كل خطوة، شعرت وكأن قدمي تغوصان في مستنقع لا نهاية له.
لا أعرف كم من الوقت مضى على سيرنا.
لكن على الطريق المؤدي إلى القصر، صادفنا فرقة الفرسان التابعة لفرسان فونيكس.
“أيها السحرة، انضموا إلينا فورًا.”
تحدث فارس كان في موقع القائد عندما لمحنا.
بالطبع، كان يخاطب السحرة من المستوى المتقدم، لا باحثي قسم الجرعات مثلنا.
“وأين تتمركز فرقة الصيد الآن؟”
“لم نتلق رداً من الحمام الزاجل بعد، لكننا حددنا موقعهم تقريبيًا وسنتحرك فورًا.”
أومأ السحرة من المستوى المتقدم استجابة لكلام الفارس. كان الجميع قد رأى عمود النار الذي اخترق الغيوم.
تنهدت في داخلي بأنفاس متحجرة. اقتربت لحظة المواجهة مع الكيان المخيف.
في تلك اللحظة، اقترب مني ماكس.
“آنسة رينيه.”
“سير ماكس، أرجوك احرص على سلامتك.”
ابتسم ماكس ابتسامة خفيفة كأنما يريد أن يقول ألا أقلق عليه.
“أهم من ذلك، يجب أن تغادري إلى شوتزن الآن.”
نصحني بصوت جاد غارق في الجدية.
كنت أعلم ذلك. كنت أنوي الرحيل على أية حال.
بمشاعر يغمرها الحزن حتى الحلق، بالكاد تمكنت من استخراج صوتي.
لكن للأسف خرج صوتي مبحوحًا غريبًا.
“كنت أنوي أن أجهز أمتعتي وأغادر.”
“فكرة صائبة.”
كاد صوت الاطمئنان في رده يخنقني أكثر. شعرت وكأن قلبي يتمزق.
كانت قدماي ثقيلتين.
لو كنت أقوى قليلًا فقط…
لو كنت ذات فائدة، ولو قليلًا…
حينها، لكنت بقيت هنا حتى النهاية لأحمي إقليم إيفلين بكل قوتي.
لقد جذرت روحي في هذه الأرض، لكن واقعي المقيت يجبرني على الرحيل.
وووووش…
في تلك اللحظة، سمعنا صوت ريح غريبة قادمة من بعيد.
رفعنا رؤوسنا جميعًا إلى السماء.
“آه…..”
خرج أنين مكبوت من شفتيّ.
يا إلهي، ما هذا؟ هل عيناي تخدعانني؟
كان طائر أسود قادمًا من بعيد.
لا، لم يكن طائرًا.
كلما اقترب، أخذ يكبر أكثر فأكثر.
كان تنينًا أسود.
“آه! إنه التنين الأسود!”
“إنه يطير نحونا!”
“استعدوا جميعًا!”
“قوموا بحماية الباحثين! غطّوهم وانقلوهم إلى أماكن آمنة!”
كان صوت الفرسان الذين يصرخون بانشغال يتردد في أذني بشكل يكاد يصمها.
مع ذلك، لم أستطع أن أنزع عيني المرتجفتين عن هاديس.
هل تمكن من التخلص من فرقة الصيد ليعود عمدًا لتدمير أراضي إيفلين؟
لماذا يقوم باختيار خبيث بهذا الشكل؟
كأنه يريد عمدًا أن يعذبني، ويعذب كارسيون، ويعذب البشر جميعًا…
اشتعل الغضب في داخلي.
وفي الوقت ذاته، كان عجزي و ضعفي الذي لا يمكنني إلا من الفرار يجعلني أشعر بتفاهة لا حدود لها.
… مهلاً؟
لكن، بدا لي أن هاديس قد ترنّح قبل قليل.
“آنسة رينيه! أسرعي إلى هنا!”
على صوت صراخ ايديرا القلق، أفقت من شرودي بسرعة وأدرت رأسي نحوها.
كانت ايديرا تشير إلي بيد مرتجفة ووجهها قد فقد كل لونه.
رفعت نظري مرة أخرى إلى السماء، نحو هاديس الذي كان يطير نحونا بسرعة مخيفة، ثم حاولت أن أخطو خطوة.
لا، كنت سأخطو.
لكني، وكأنني احترقت، عدت ونظرت إلى السماء مرة أخرى.
لم يكن هناك كائن واحد يشق الهواء.
“ليونيل…”
خلف هاديس، ظهر تنين أحمر يطارده بشراسة، يخطف بصري تمامًا.
ولم أكن الوحيدة التي لاحظت وجود ليونيل. صرخ الجميع مذعورين وهم يفرون:
“إنها معركة بين تنينين!”
“إن كنت تريد أن تعيش، ابتعد عن الطريق!”
“يجب أن نجرهم بعيدًا حتى لا تتضرر الأراضي!”
“السحرة! نفذوا هجمات بعيدة المدى!”
كانت فوضى حقيقية بكل معنى الكلمة.
لم يتخيل أحد ولو في أسوأ كوابيسه أن يصبح هذا المكان فجأة ساحة معركة.
وبرغم أنهم كانوا غير مستعدين تمامًا، إلا أن فرسان فونيكس تحركوا بانسجام مذهل.
في تلك اللحظة، شعرت بالامتنان أننا أقمنا الحاجز الواقي، وفي نفس الوقت، بدأ الخوف يخنق أنفاسي.
إلى متى سنتمكن من الصمود؟
هل ستتحول أراضي إيفلين إلى رماد مرة أخرى…؟
حتى أثناء فراري، كنت أرفع رأسي بين الحين والآخر لأنظر بألم إلى المعركة الجوية.
رأيت ليونيل وهو ينقضّ بسرعة ليلدغ ذيل هاديس بقوة.
كوااااااا!
اهتزت السماء من شدة زئير هاديس، وارتجف قلبي بالكامل من الرعب.
بدأ هاديس يهز ذيله بعنف في محاولة للتخلص من ليونيل، بينما كان ليونيل يتمسك به بعناد، وجسده يتمايل مثل دمية قماشية في الهواء…
“آآآآه!”
“اللعنة! لم أعد أستطيع الصمود!”
“سأسقط!”
سقط شيء من ظهر ليونيل.
“هاه؟”
توقفت عن الهروب فجأة.
ولم أكن الوحيدة التي توقفت. الجميع تجمدوا في أماكنهم.
فرسان تابعون لفرقة المطاردة كانوا يسقطون من السماء.
وكان من بينهم كارسيون أيضًا.
***
لقد انتهى الأمر.
خلال المطاردة، وجد ليونيل نفسه فوق سماء إقليم إيفلين.
شعر ليونيل بالدوار لكنه ركز كل انتباهه على الإمساك بهاديس.
كان مستعدًا لفعل أي شيء لو تمكن فقط من سحبه مجددًا إلى مكان ما في جبال دينيبروك.
كواك!
عض ذيل هاديس، فهز صدى زئير ضخم الهواء.
بسبب الذيل الذي كان يهتز بجنون للأعلى والأسفل، يمينًا ويسارًا، شعر ليونيل بالدوار.
ومع ذلك، ظل ممسكًا بالذيل الدامي بأسنانه ولم يفلته.
لم يفكر لحظة في الفرسان الذين كان يحملهم على ظهره.
عندما تعالت صرخات السقوط والشتائم، أدرك أخيرًا خطأه.
تبًا.
انشغل بسحب هاديس إلى جبال دنيبروك ونسي تمامًا من كان على ظهره.
“تبًا لك أيها الوغد! ألا تعرف كيف تطير بشكل مستقيم؟!”
صرخ كارسيون وهو يسقط في الهواء.
من تنعت بالوغد أيها الأحمق؟ اختفى شعور ليونيل بالذنب تمامًا.
-حتى هذا لم تستطع تحمله، أيها الأبله.
رن صوت ليونيل في أذهان كل الكائنات القريبة، وليس فقط كارسيون.
شعر الفرسان الساقطون بالخزي وهم يتهاوون إلى الأرض.
بوم!
صحح كارسيون وضعه في الهواء وهبط بأمان على الأرض.
وكذلك فعل إيفان وأولاند.
أما بقية الفرسان الذين كانوا يتساقطون تباعًا، فقد حاولوا هم أيضًا الهبوط بأناقة.
وووووم!
قوة مجهولة جعلتهم يطفون للحظة في الهواء. استدار كارسيون ليرى ما يحدث.
وعندما رأى الفرسان ينزلون بلطف، ألقى نظرة فاحصة حوله.
“قوات الدعم وصلت.”
قال كارسيون بجفاف، ليرد عليه ماكس بصفته ممثل المجموعة.
“صاحب السمو سيدريك أرسل تعزيزات مستعجلة. نعتذر، لكن عددهم حوالي سبعمائة فقط.”
“حسنًا.”
اختصر كارسيون كلماته.
حين أدرك أن جميع القادمين العاجلين ينتمون إلى فرقة فرسان فونيكس، شعر بضيق شديد في صدره.
بدا واضحًا أن البلاط الإمبراطوري رفض إرسال دعم كافٍ.
لماذا؟
رغم أن الموقف كان خطيرًا للغاية، لماذا لم يرسلوا الدعم المناسب؟
لكن التفكير لم يستمر طويلًا.
صدحت محادثة التنانين، مثقلةً الأجواء.
-جينيرتس، سأبدأ بقتلك أولًا.
-جرب إن استطعت.
-أيها التنين الصغير، يبدو أنك لا تقدّر حياتك.
-الشباب دائمًا مفعمون بالحيوية.
رغم سذاجة الحوار، كانت المعركة الجسدية شرسة للغاية.
حول ليونيل نظره نحو الحشود المتجمعة بالأسفل. وحين لمح من كان يبحث عنه، لانت نبرته فجأة كما لو كان يقلب كفه.
-رينيه.
بدا وكأن صوته مشبع ببلل العاطفة، وكأنه قد شعر بشيء.
رينيه، التي كانت تراقب المعركة الجوية بقلب مرتجف، أمسكت يديها معًا كمن يصلي، وردت بصوت خافت.
“نعم” رغم أن صوتها الصغير لن يصل إليه.
خشي ليونيل ألّا يحصل على فرصة أخرى.
كان يعلم أن قلب رينيه مليء بالإستياء نحوه.
-أنا آسف… أردت أن أحتفظ بكِ لنفسي.
رآها تهز رأسها نفيًا، لكنه لم يستطع أن يطيل النظر إليها بسبب قتاله مع هاديس.
-أرجوكِ… لا تسامحيني.
قالها بصدق.
كان سيسعده أن يُغفر له، لكنه لم يجرؤ على طلب الغفران.
ثم نفخ ليونيل المانا داخل الجرح الذي أحدثه بأسنانه في ذيل هاديس.
تدفقت نيران ملتهبة كالحمم داخل قشور التنين.
التعليقات لهذا الفصل " 87"