الفصل 79. فقط من أجل النجاة
تزايدت الجروح الناتجة عن خدوش الأغصان في ذراعي وساقي.
لكنني لم أستطع التوقف.
رغم أن أنفاسي وصلت إلى حنجرتي، كنت أواصل تحريك ساقي بجنون، مدفوعة بغريزة البقاء.
من حين لآخر، كان ريو يتوقف وينتظرني، ثم يعود للركض معي.
كنت أشعر بإحباطه من اضطراره لتخفيف سرعته بسببي، رغم أنه كان يستطيع الجري أسرع بكثير لو أراد.
“هاه… هاه…”
شعرت أن رئتي ستنفجران.
لأول مرة في حياتي، فكرت أنني قد أموت وأنا أركض.
(رينيه: 🎀 run as a girl)
أين نحن؟ كم ركضنا؟ لم أكن أعرف شيئًا.
كنت أعلم فقط أننا دخلنا الغابة خلف القصر، الغابة نفسها التي التقيت فيها بريو لأول مرة قبل زمن بعيد.
لكننا توغلنا كثيرًا لدرجة أنني فقدت إحساسي بالاتجاهات.
“ط، طريق صاعد…”
كانت ساقاي ترتجفان بشدة.
مع أنني كنت بالفعل مرهقة للغاية، إلا أن الركض صعودًا جعلني أشعر وكأن عضلاتي تتمزق.
بينما كنت أجر ساقي الثقيلة كصخرة عملاقة، اقترب مني ريو.
رآني مترددة، فشدّ بطرف ملابسي بلطف، وكأنه يقترح أن نرتاح هناك قليلًا.
“ه، هل نفعل ذلك؟ هاه… نعم، الشجرة ستخفي أجسادنا.”
انجرفت بسهولة وراء هذا الإغراء دون تردد طويل، وتبعت ريو.
بمجرد أن أسندت جسدي إلى جذع الشجرة، اجتاحتني موجة التعب الذي كنت قد نسيته.
بدأ جسدي، الذي كان في حالة تأهب قصوى، يستعيد إيقاعه الطبيعي.
“هاه… هاه…”
بينما كنت أتنفس بأنفاس متقطعة، نظرت إلى ريو الجالس بجانبي.
“لقد كان قراركَ صائبًا، ريو.”
لو كنت قد ركضت باتجاه الأراضي، لكنت أصبحت ضحية للتنين الأسود منذ زمن.
فمهما ركضت في السهول المكشوفة، كان سيكون من السهل عليه سحقنا كالنمل.
على عكس ذلك، فإن سلسلة جبال دنيبروك كانت غابة كثيفة مليئة بأماكن الاختباء.
بالطبع، كان هناك سبب لعدم فرار السكان إلى هذا المكان أيضًا. في أعماق الغابة كانت تعيش وحوش سحرية.
أرحت رأسي على جذع الشجرة.
“هاه…”
يا إلهي. لم أعد أرى شيئًا أمامي.
لم أكن أعرف ماذا يجب أن أفعل بعد الآن.
“ريو، إذا توغلنا أكثر، قد ندخل منطقة الوحوش السحرية… أبي قال لي ألا أتعمق أبدًا…”
لم أتمكن من إنهاء الجملة.
أمام عيني كانت تتراقص صورة اللحظة التي أطلق فيها التنين الأسود أنفاسه النارية باتجاه القصر، حيث كان أبي وأمي والخدم.
تجمعت الدموع في عيني.
كنت قد نجوت وحدي.
بشق الأنفس… وحدي…
لحسة.
بينما كنت أغرق في هاوية الحزن، لعق ريو دموعي التي انحدرت على خدي.
استجمعت قواي ونظرت إليه.
“شكرًا لك. أنا بخير.”
لا، لم أكن بخير في الواقع.
لكنني أجبرت نفسي على رسم ابتسامة مبللة بالدموع.
حتى لو لم أكن بخير، كان يجب أن أتصرف وكأنني كذلك.
لأنني إن انهرت الآن، لن أستطيع النجاة.
كان لا يزال لدي سبب للعيش. كان ريو بجانبي، وكان كارسيون ينتظرني في شوتزن.
رفعت نظري نحو السماء التي تتراءى من بين أوراق الأشجار، ثم خفضته مجددًا لأواجه الواقع أمامي.
تنورة ممزقة تمامًا. يدان ملطختان بالتراب.
شعر مبعثر ومبتل بالعرق.
وجروح متعددة على ذراعي وساقي.
“آه…”
هذا الجرح يبدو عميقًا بعض الشيء.
رغم أن الدم كان يتدفق كثيرًا، لم أشعر بالألم.
حتى ريو، الذي كان منشغلًا بالهرب، بدا وكأنه لاحظ حالتي الآن.
اقترب وهو يئن بلطف وبدأ يلعق جروحي.
لم يكن لعاب الجرو مرهمًا طبيًا، ومع ذلك شعرت بشكل غريب وكأن الألم خف قليلًا.
“يكفي، ريو.”
أوقفت ريو عن اللعق بينما كنت أربت على رأسه.
ثم مزقت جزءًا طويلاً من تنورتي واستخدمته كضمادة ولففته حول ساقي المصابة.
لا أعرف من أين أتتني هذه القوة المفاجئة.
“علينا النجاة مهما كلف الأمر.”
كانت الدنيا مظلمة أمامي، لكنني قررت ألا أغوص في التفكير العميق.
لأنه مهما فكرت، فلن أجني سوى اليأس.
كان من المستحيل على إنسانة عادية أن تهرب من تنين.
هووووو…
في تلك اللحظة، سمعت صوت رياح شريرة تهب فوق رأسي.
جمّدت نفسي في مكاني وكتمت أنفاسي.
دون وعي، عانقت ريو بقوة، ورفعت رأسي ببطء.
رأيت تنينًا ضخمًا يعبر السماء بهدوء.
رغم ارتفاعه الشاهق، كانت حراشفه السوداء ومخالبه الحادة واضحة في عيني.
بدا أن إحداث خدش في تلك الحراشف الحديدية أمر مستحيل.
ومخالبه الحادة كانت قادرة على اختراق جسدي الضعيف بسهولة.
شعرت بقشعريرة تزحف على عمودي الفقري.
ارتجف جسدي دون إرادة مني.
لحسن الحظ، التنين الأسود عبر دون أن يلاحظنا.
اختفى صوت أجنحته التي كانت تمزق السماء شيئًا فشيئًا حتى ساد الصمت مجددًا.
تنفست الصعداء براحة.
“هاه.”
لقد تجاوزنا أزمة أخرى.
لكن لم يكن بإمكاننا البقاء مختبئين هنا إلى الأبد.
كانت أنفاسي قد هدأت منذ زمن.
وقفت مجددًا.
“ريو، حان الوقت للتحرك. سلسلة جبال دنيبروك تتصل بمناطق أخرى، إذا واصلنا السير دون التوغل أكثر، سنعثر على قرية.”
“هوو هوو.”
“رغم أن الاتجاهات قد تربكني…”
نظرت إلى السماء بوجه قلق.
عندما يحل الليل، يمكنني استخدام النجوم كمرشد تقريبي.
رغم أن المشي في الجبال ليلًا كان مليئًا بالمخاطر.
“غروووو…”
بعد قليل من بدء السير، بدأ ريو يصدر صوتًا منخفضًا غاضبًا.
توقفت في مكاني وغرست قدمي على الأرض.
ريو كان يحدق إلى أحد أركان الغابة.
“…ما الأمر، ريو؟”
لم أتمكن من رؤية شيء وسط الظلال الكثيفة.
هل ظهر وحش سحري؟ أم ربما وحش بري؟
من بعيد، سمعت صوت خشخشة، وكأن شيئًا ما يقترب.
خفق قلبي بعنف. التقطت عشوائيًا غصن شجرة مكسور من الأرض.
أمسكته وكأنه سيف واستعددت.
رغم أنني لم أكن ماهرة، فقد كنت قد تدربت بعض الشيء على السيف الخشبي بجانب كارسيون تحت إشراف المعلم أولاند.
كنت أنوي استخدام الغصن كما لو كان سيفًا.
كنت أعرف أن هذا لن يجدي نفعًا، لكنني كنت مستعدة للقتال ولو كان ذلك مجرد مقاومة يائسة.
خشخشة، خشخشة.
كان أحدهم يقترب وهو يطأ الأدغال.
لكن خطاه كانت هادئة على نحو لا يشبه خطوات وحش أو حيوان بري.
وما لبث الكائن أن كشف عن نفسه، وإذا به، ويا للدهشة، إنسان.
“……!”
أكان هناك ناجٍ آخر غيري؟
اهتزت عيناي بلا وجهة. كان يجب أن أشعر بالفرح، ومع ذلك اجتاحتني موجة من الخوف كمدّ هادر.
ربما كان ذلك بسبب الهالة الخاصة التي كان الرجل يبثها.
“هذا حقًا مدهش.”
صوت مفرط في الهدوء إلى حد يثير النفور.
عينان سوداوان لامعتان.
وزاوية فمه المرتفعة بانحراف.
كان الرجل الذي ظهر بالكامل يحدق، ليس بي، بل بـريو.
لم يكن مندهشًا للعثور على ناجٍ، بل بدا وكأنه تفاجأ بلقاء كلب في الغابة.
“لماذا تتخذ هيئة كلب؟ وفوق ذلك، تتودد إلى إنسان بجانبه؟”
ضحكة ساخرة انزلقت في الهواء. لم أفهم كلمة واحدة مما قاله الرجل.
“جينيرتس.”
“غَرَرَر…….”
“التنانين تستطيع التعرف على الأسماء المنقوشة لبعضها البعض، أليس كذلك؟ أوقف هذا اللعب السخيف وتحول على الأقل إلى هيئة بشرية.”
“غَرَررر.”
ريو شد ذيله وراح يكشر عن أنيابه نحو الرجل.
أما أنا، فشدَّدت قبضتي على الغصن وكأنني أتشبث بحياتي.
كانت راحة يدي غارقة في العرق.
“هاها، ممتع.”
“إن كنت ستصر على عنادك.”
انبثقت هالة سوداء من جسد الرجل وانتشرت من حوله.
“دعنا نرى كم ستتحمل وأنت في هيئة كلب.”
بمجرد إنهائه الجملة، انطلقت من جسده هالة من الضوء الساطع.
كان الضوء قويًا للغاية لدرجة أنني رفعت ذراعي لأحجب وجهي.
هبّت رياح عاتية جعلتني أعجز عن الثبات.
“آه!”
ارتفع جسدي في الهواء وطُرحت بعيدًا.
وكأنني اصطدمت بظهر شجرة، كان الألم لا يوصف.
رغم ذلك فتحت عيني بصعوبة لأنظر ماذا يحدث.
آه……
عندما تواجه أمرًا لا يُصدق، يبدو أن دماغك يفرغ تمامًا من كل شيء.
نسيت حتى كيف أتنفس، وتجمدت في مكاني كتمثال، وأنا أحدق بالرعب إلى المشهد أمامي.
كان هناك، التنين الأسود الذي دمر إقليم إيفلين.
ضخم جدًا لدرجة أن علي رفع رأسي عاليًا لرؤية وجهه.
عيناه المشقوقتان بالطول تلمعان تحت ضوء الغروب بنظرة شريرة.
-جينيرتس.
كان الصوت يَرُجّ أرجاء جمجمتي.
اهتز جسدي كله كأوراق الشجر بفعل الخوف.
التنين الأسود كان ينظر إلى ريو ويناديه بجينيرتس.
غير أن عينيه كانتا موجهتين أيضًا نحو تنين أحمر ضخم ظهر فجأة.
اهتزت رموشي وشفتي وأطراف أصابعي.
ريو……
ريو اللطيف العزيز خاصتي……
كووووووووووو!
عندما زمجر التنين الأحمر كالرعد، اهتز الجبل بأكمله.
بمجرد سماع زمجرته الغاضبة، شعرت أن قلبي سيتفتت.
اجتاحني رعب لا يمكن وصفه، وكأنه موجة عاتية سحقتني.
“آه…… آه…….”
كنت خائفة.
وعندما تصادم التنينان، اشتعلت الغابة الكثيفة، وانهارت الوديان.
ذاكرتي عن التفاصيل انقطعت تمامًا.
الشيء الوحيد الذي كان واضحًا، هو أنني كنت أركض بجنون.
أهرب بأقصى ما يمكنني بعيدًا عن قتال التنانين.
حتى لو انفجرت رئتاي، كان علي أن أخطو خطوة إضافية نحو البعد.
فقط من أجل النجاة، ركضت بكل ما أملك.
التعليقات لهذا الفصل " 79"