الفصل 78. الهدية الأخيرة
تألقت مشاعر معقدة في عينيه الزرقاوين.
اقترب كارسيون مني بخطًى سريعة، متحررًا من بين الفرسان الذين كانوا يشكّلون مجموعةً حوله.
توقف على بُعد خطوات، وألقى عليّ نظرة من رأسي حتى قدمي.
“جسدك بخير؟ لا تشعرين بأي ألم؟”
“نعم، أنا بخير.”
أجبت بإيجاز وأنا أقرأ أجواء المكان بجلدي، وأتفحص تعابير وجه كارسيون بعينيّ.
كان الجو مشحونًا ومريبًا. حتى ولو كنت قد فقدت وعيي، من المستحيل ألا ألاحظ أن أمرًا غير طبيعي قد وقع.
“لكن، هل حصل شيء؟ الجو يبدو…”
كل الفرسان كانوا يرتدون دروعًا حديدية. وكذلك كارسيون.
عندما سألت، اهتزّت عيناه الزرقاوان بعنف لدرجة أنني استطعت رؤية ارتباكه بوضوح.
ثم حدّق في وجهي، وكأنه يحاول قراءة شيء ما من ملامحي.
ارتجفت تفاحة آدمه وكأن موجةً هاجت داخل حلقه.
“…لا تتذكرين ما الذي حدث؟”
“هاه؟”
“هل تعرفين من أكون؟”
“أنت كارسيون، طبعًا.”
“صحيح.”
بدا عليه الارتياح لأنه لم يُنادَ بلقب “سموّك”، رغم أنه ما زال يبدو قلقًا.
تردّد قليلًا، ثم بدأ يطرح أسئلة بطريقة أشبه بتشخيص طبيب لأعراض مريض.
“ما هي آخر ذكرى تتذكرينها؟”
“حين كان السير ماكس يركض نحوي.”
“وماذا قال وهو يركض؟”
“هذا… لا أتذكر جيدًا. كان يبدو في غاية الاستعجال…”
كأن أحدًا اختار بعناية حذف الكلمات المهمة وحدها.
قطبت جبيني محاوِلة استرجاع المزيد، لكن كارسيون واصل سؤاله.
“هل رأيتِ أحدًا غيره؟”
“كنت أتحدث مع ليونيل.”
“هل رأيتِه حين تحوّل؟”
ما هذا؟ هناك الكثير من الأذان هنا، هل من المناسب قول ذلك بهذه البساطة؟
ترددت لحظة وأنا أرمق من حولي بنظرات حائرة، ثم بلعت ريقي بصمت.
حسنًا.
حتى الفارس ناداني الآن بـ”الآنسة إيفلين”.
“إذا كنت تقصد سحر التحوّل، فهو الكلب ريو، أليس كذلك؟”
“لا.”
قطّب كارسيون حاجبيه بحدة. ظل صامتًا وكأنه يجمع أفكاره، ثم تمتم بلعنة منخفضة.
لم أسمع بوضوح، لكن يبدو أنه شتم ليونيل.
“رينيه.”
أمسك كارسيون بكتفي بكلتا يديه.
يداه الخشنتان، المتصلبتان، نقلتا إليّ عزيمة جادة.
“أولًا، غادري أرض إيفلين.”
“ماذا؟ لماذا فجأة؟”
رغم أنني سألت، كان قلبي ينبض بشعور غامض بأن طلبه مرتبط بتلك الأجواء المشحونة في القصر.
حتى وإن كنت أتوقع ذلك، لم أكن مستعدة لما سمعته بعدها.
عندما نطق كارسيون بكلماته التالية، شعرت وكأن أحدًا ضربني بمطرقة على رأسي.
“التنين الأسود ظهر.”
“…..!”
“لذا غادري فورًا. الأمر خطير هنا.”
“لـ، لكنك قتلت التنين الأسود قبل عامين، أليس كذلك؟”
“لا. هذا فقط ما أُشيع. لم أتمكن من توجيه الضربة القاتلة.”
“ماذا….؟”
عقلي لم يستوعب ما وصل إلى أذنيّ.
لكن قلبي بدأ ينبض بقوة، على عكس رأسي الذي لم يستوعب الأمر بعد.
إذًا، أنت، كارسيون، ستذهب الآن إلى مكان خطير، بحياتك على المحك؟ الآن؟
“رينيه.”
مدّ يده ليضعها على وجنتي.
تلاقت أعيننا، ونطق بنبرة حازمة.
“ليونيل سيحميكِ. إيفان ومعلمي سينضمّان إليّ في فرقة المطاردة.”
“لا، لا أريد ذلك.”
خرج صوتي مرتجفًا كأغصان شجر ترتعد في الريح. لم أرد الذهاب إلى مكان آمن وحدي.
لم أستطع ترك كارسيون هنا.
لكن بدا أنه هو الآخر لا ينوي التراجع عن قراره.
أخذ نفسًا عميقًا، وكأنه يُعزز ما قاله، ثم تكلّم بنبرة أكثر صلابة.
“أنا أيضًا لا أرتاح لذلك الشخص، لكنه الوحيد القادر على حمايتكِ بشكل مؤكد.”
“كارسيون، لا تفعل هذا. لا تذهب.”
خرج صوتي متوسلًا دون أن أشعر. عقلي يعلم أنه يجب أن يذهب، لكن لساني لم يطعني.
ارتسمت على وجهه تعابير ألم شديد.
كأن عبئًا هائلًا جثم على كتفيه.
ترددت شفتاه عدة مرات، وكأنه يصرخ داخليًا بأنه لا يريد الذهاب أيضًا.
وشعرت أن صراعه الداخلي تسرب إلى الهواء من حوله.
يريد أن يحمي.
هذه الأرض التي أُعيد بناؤها بشق الأنفس.
المكان الذي ترقد فيه ذكرياتنا.
وفي النهاية، خرج من فمه جواب لم يستطع أن يُدير ظهره للواقع.
رغم أنه هو من سيذهب إلى الخطر، كان يواسيَني أنا.
“لا تقلقي. قوّته ضعفت كثيرًا. هذه المرة لن يستغرق الأمر وقتًا طويلًا كما في السابق.”
حتى وإن لم يكن ثلاث سنوات، كان ذلك يعني أن الأمر سيطول.
شعرت بأنفاسي تختنق.
“سأنضم إلى فرقة المطاردة أيضًا.”
دخل صوت جديد إلى الساحة في تلك اللحظة. استدار كل منّي أنا وكارسيون في الوقت ذاته.
كان ليونيل.
“أيها اللعين.”
بمجرد أن رآه، تلاعبت الكراهية الصريحة في عيني كارسيون الزرقاوين. حتى وإن كانت العلاقة بينهما سيئة دائمًا، إلا أن هذه اللحظة لم تكن مجرد مشاحنة معتادة.
بدا الأمر كما لو أن ليونيل قد فعل شيئًا فعليًا يستحق غضب كارسيون…
وسرعان ما عرفت ما هو.
“هل ختمتَ ذكريات رينيه مجددًا؟”
اهتزّت عيناي بعنف.
نظرتُ إلى ليونيل بذهول، ففتح فمه بصوت منهك.
“…بفضل ذلك، تجاوزنا الأزمة العاجلة.”
“كفّ عن الهراء.”
“أقول الحقيقة.”
كان صوته المتوسّل لا موجّهًا إلى كارسيون، بل إليّ أنا. وعندما التقت عيناي بعينيه، تجمدتُ في مكاني وكأنني جذري انغرس في الأرض، وحبست أنفاسي في صمت.
ختم ذكرياتي… مجددًا؟ كيف يمكنه ذلك؟
بينما كان قلبي ينبض بألم من الخيانة، بدأت أفهم أخيرًا سبب الشعور الخاوي الذي استقبلني منذ استيقاظي.
في كل مرة تُختم فيها ذاكرتي، كنت أشعر بذلك الفراغ. لأنني فقدت جزءًا من ذاتي.
“رينيه.”
اقترب ليونيل مني خطوة واحدة.
ولاإراديًا، صار نظري إليه حادًا. ومع ذلك، نظر ليونيل إليّ بعينين صادقتين، وكأنه يتوسل أن أصدّق مشاعره.
“هذه هديتي الأخيرة.”
“ماذا؟”
بمجرد أن سألت، بدأت المانا تنبعث من يده.
في لحظة، أحاطت طاقة قوية بجسدي، واتسعت عيناي من الصدمة.
آه…
بدأت طاقة غريبة تتسلل إلى عقلي وقلبي ببطء.
كان كارسيون يصرخ بشيء ما إلى جانبي، لكن صوته، ومعه العالم كله، بدأ يبتعد بسرعة.
أغمضت عيني دون إرادة مني.
ثم بدأ وعيي ينساب إلى عمق الزمن… إلى ماضٍ بعيد.
***
صراخ من كل اتجاه.
جاءت غيوم سوداء شرسة تغطي سماء إقليم إيفلين الذي كان مسالمًا يومًا ما.
كلما رفرف جناحا التنين الهائل الأسود، هبت العواصف، وعمّ الخراب.
نيران اندلعت في كل مكان بفعل أنفاسه النارية.
مبانٍ منهارة، جثث ذائبة بطريقة مروعة، صرخات ألم من الجرحى، وبكاء الأطفال.
كان الجحيم بعينه.
“ريو! من هنا!”
كان صراخًا يائسًا.
جعلتني رجلاي المرتعشتان أفتش في أنحاء القصر بلا هدى، حتى وجدت ريو وشعرت براحة غامرة. كان يبدو أنه استيقظ لتوّه من قيلولة.
“بسرعة! علينا أن نهرب فورًا!”
بدأ ينبح كأنه يرد علي، لكن لم يكن لدي وقت لأفهم ما يقوله.
خرجت من القصر، ثم أدركت أن ريو لم يكن معي، فعُدت راكضة إلى الداخل.
سمعت أصوات أمي وأبي وهم يحاولون منعي، لكنني أغمضت عيني وركضت.
الناس الذين كانوا يدللونه بالأمس، نسوا وجوده تحت وطأة الخطر. لكنني لم أستطع أن أفعل ذلك.
ريو… كان عائلتي. قضينا حياتنا معًا!
“ريو! لا، ليس من ذلك الاتجاه! تعال هنا!”
لماذا لا يسمع الكلام الآن؟!
ركضت خلفه وقلبي يعتصر.
كنت أركض بعكس اتجاه الناس الذين يهربون، وفجأة توقفت مصدومة.
كوااااه!!
التنين الأسود أطلق أنفاسه النارية، وملأ المشهد بأكمله.
تلك الجهة…
شحبَ عقلي تمامًا.
“أمي… أبي…”
خرج صوتي مرتجفًا.
في حين كنت أنا التي ركضت أولًا، عاد ريو إليّ، وأمسك بثوبي بأسنانه، وكأنه يستحثني على الهرب.
كان نباحه ملؤه الاستعجال، لم أشهده منه من قبل.
نظرت إليه.
بينما كانت الأحزان تتدفق كالسيل داخلي، مشاعر غريبة بدأت تحتل قلبي أيضًا.
ريو أنقذني.
لكن كيف؟ هل لأن الحيوانات تمتلك حواسًا أكثر حدة؟ كيف عرف باتجاه هجوم التنين؟
تملكني ألف سؤال، لكن لم يكن الوقت مناسبًا للتفكير.
ركضت بكل ما أوتيت من قوة خلف ريو.
وجهي غارق في الدموع، وجسدي يرتعش من الخوف، لكنني لم أتوقف.
كنت أريد رؤية كارسيون.
وفي الوقت ذاته، شعرت بالامتنان لأنه في شوتزن.
أتعلم، يا كارسيون…
هل سأتمكن من الخروج من هنا حيّة؟ وهل سأراك مجددًا؟
التعليقات لهذا الفصل " 78"