الفصل 77. الامتياز
في السماء التي افترشتها حمرة الغروب، لمع ضوء على هيئة سيف هائل بشكل مبهر.
انفجرت المانا بقوة هائلة من سيف كارسيون.
ارتسمت على وجوه الناس الذين كانوا يشاهدون المعركة الجوية الضارية من الأرض، مشاعر من الإجلال والخوف.
سواء من رأوا مهارة كارسيون في حملة القضاء على التنين السابقة، أو من يشاهدونه لأول مرة، كان وقع المشهد واحداً.
الجميع، في لحظة واحدة، أوقفوا وظائف أجسادهم تمامًا ورفعوا رؤوسهم إلى الضوء الذي كان يلف هاديس وكارسيون.
ششااا!
ضوء آخر.
الضوء الذي لف جسد التنين الأسود العملاق سرق الأبصار.
“كك…!”
أغمض كارسيون عينيه بإحكام. استطاع بالكاد فتح عينيه قليلاً، لكنه لم يرَ شيئًا على الإطلاق.
حتى الإحساس الذي كان يُنقل إليه من خلال السيف لم يكن واضحًا.
ما كان مؤكداً فقط هو أنه أخطأ في توجيه الضربة القاتلة.
“تبًّا.”
شعر بجسده يسقط وراح يلعن بمرارة.
كان هاديس قد غيّر شكله باستخدام سحر التحوّل.
وبسبب ذلك، فقد كارسيون موطئ قدمه بعد أن كان ممتطياً ظهر التنين.
وفي هذه الحالة التي لم يكن فيها قادراً على تأمين رؤية واضحة بسبب الضوء، استعاد كارسيون توازنه أثناء هبوطه السريع.
دوي!
هبط كارسيون مع صوت ارتطام ثقيل، ثم رفع رأسه على الفور نحو السماء.
كان طائر أسود يرفرف باتجاه سلسلة جبال دِنيبروك.
وعندما همّ بالنهوض لملاحقته، سطع ضوء آخر على قصر إيفلين المظلم ثم اختفى.
وعندما أدار رأسه، رأى ليونيل قد عاد لتوّه إلى هيئته البشرية. وأمام ركبتيه المنحنيتين، كانت رينيه أيضًا هناك.
لكن لماذا…؟
ما الذي حدث لتصبح رينيه في هذه الحالة…؟
في لحظة، صار عقل كارسيون أبيض تمامًا.
وجهها كان شاحبًا، وكان يعتصره الألم، وجسدها يهتز بتشنجات تكاد تكون نوبات.
وعند التمحيص، ظهرت بياض عينيها مصبوغة باللون الأحمر كما لو أن الأوعية انفجرت فيها.
“هآه… كخ…”
تدفقت من فمها دماء قانية.
لا يعلم إن كان الوقت قد توقف أم صار يجري ببطء. شعر كارسيون وكأن كل ما حوله اختفى ولم يعد يرى سوى رينيه.
لم يدرك أن قدميه تركضان.
“رينيه! رينيه، لا تفعلي!”
صرخ باستغاثة فور وصوله أمامها.
هذا غير معقول. لا يمكنه أن يخسر رينيه بهذه الطريقة.
رائحة الدم المعدنية طعنت رئتيه وجذبته إلى هاوية اليأس.
“الدم! لقد تقيأت دمًا!”
بصوت يكاد يشق حنجرته، صرخ كارسيون بجنون.
“معالج! أحضروا معالجًا فورًا!”
“ر… رينيه… أ… أنا…”
وقعت عيناه حينها على ليونيل الذي كان يرتجف.
أمسك كارسيون بتلابيبه وصرخ فيه.
“أيها اللعين! افعل شيئًا على الأقل!”
أليست هذه حالتها بسبب ختم الذكريات؟
لم تتعرض لهجوم من هاديس، ومع ذلك هي بهذا الوضع!
“تبًا… اللعنة.”
زمّ ليونيل على أسنانه بوجه يائس.
ما الذي يفكر فيه في وقت كهذا؟
كارسيون كاد ينفجر بالبكاء. بل بدقة، أراد أن يبكي ويتوسل ويصرخ، بل أن يضرب بقبضته ليخفف من غضبه.
جسد رينيه الذي كان يرتجف، انهار مترنحًا.
ومن دون أي اتفاق، التفت كل من ليونيل وكارسيون نحوها في نفس اللحظة.
“رينيه! رينيه!”
صرخ كارسيون بيأس وهو يتحقق من أنفاسها.
كانت ضعيفة. ضعيفة لدرجة أنها قد تتلاشى في أي لحظة.
“أرجوك، ليونيل…!”
لم يكن هناك ما يُقال أو يُتوسل به. كان مستعدًا ليرمي بكبريائه وكل شيء.
عندها، أغلق ليونيل عينيه ووضع يده على رأس رينيه.
وتدفقت المانا من كفه لتتغلغل في عقلها. كارسيون حبس أنفاسه وهو يشاهد ما يحدث.
بدأ العرق البارد يتجمّع على جبين ليونيل.
وبعد لحظات، فتح عينيه وتحدث بصوت خافت جاد.
“…لقد تجاوزت المرحلة الحرجة على الأقل.”
***
شعرت وكأنني كنت أحلم حلماً عميقاً.
شعرت بأشعة الشمس تتراقص فوق جفنيَّ، ففتحت عيني ببطء.
“هممم…”
كان الجو دافئاً ومريحاً. فركت جسدي بالملاءات الناعمة وأنا أنظر حولي.
بدأت الرؤية الغائمة تتضح شيئاً فشيئاً.
“هنا…”
اعتدلت في جلستي.
غرفة رينيه ايفلين.
ثم تتابعت الأفكار متأخرة بخطوة.
صحيح. لم أكن لينا، بل كنت رينيه ايفلين.
ذكريات غريزيندورف التي أعادها لي كانت ما تزال محفورة بوضوح داخلي، ومع ذلك اجتاحتني مشاعر فراغ غامرة.
لم يكن إحساساً غريباً عليّ.
سبق وأن قضيت أياماً كثيرة أستيقظ فيها مع هذا الإحساس الخالي وأحاول اجتياز يومي.
متى كان ذلك؟
آه، خلال الأيام التي قضيتها مع ليونيل في شوتزن.
وأيضاً عندما كنت أعيش في الكوخ بجانب غابة هيلدين.
لكن، لماذا استيقظت على هذا السرير؟
أتذكر أنني نزلت مع فريق الجمع الثاني إلى أراضي ايفلين.
وكان من المفترض أنني كنت أستخدم الجناح المنفصل مع باحثي برج السحر.
كنا نجمع بقايا أنفاس التنين، ونستخدمها كمواد للبحوث، وكنت أطلب من ليونيل أن يختبر بعض النتائج.
كانت أياماً هادئة ومستقرة…
“جينيرتس.”
تذكرت هذا الاسم. وسرعان ما تذكرت أيضاً ركض ماكس نحوي وهو يصرخ بلهفة.
<… ظهر! … كان حيًا!>
ماذا كان يصرخ؟ لا أذكر الكلمة المهمة.
شعرت بالضيق بسبب هذا الفراغ في ذاكرتي، فنزلت عن السرير.
قررت أن أغتسل وأغير ملابسي، ثم أخرج لاستطلاع الوضع والتحدث مع الآخرين إن أمكن…
“هاه؟”
توقفت فجأة أمام المرآة. بدا وجهي شاحباً بطريقة غير طبيعية.
كأنني كنت صائمة منذ عدة أيام.
“ما هذا؟ هل يعقل أنني غفوت لعدة أيام دون أن أدري؟”
اقتربت أكثر من المرآة لأتأكد. أدرت رأسي يميناً ويساراً، وكلما دققت أكثر، بدا أن حالتي أسوأ.
“وعيناي… ما بهما؟”
ظهرت شعيرات دموية صغيرة متفجرة.
هل أغمى عليّ من الإرهاق؟ هل بذلت مجهوداً يفوق قدرتي؟
“غريب.”
لا يبدو الأمر كذلك.
أملت رأسي بحيرة، ثم قررت المضي قدماً في الاستعداد للخروج.
عندما فتحت الباب، استقبلني ممر فارغ.
سرت عبره، وشعرت بتوتر غريب مشحون في الهواء.
عندما نزلت الدرج، سمعت حركة أشخاص.
“آه؟ مرحباً، سيدي الفارس. هل أُرسلت فرقة إضافية من فرسان الفونيكس؟”
كان شعار طائر العنقاء مرسوماً على درع الفارس.
لكنه لم يكن من الفرسان الذين جاؤوا مع فريق الجمع الثاني.
عند سؤالي، ظهر العبوس الخفيف على جبين الفارس، ثم بدا وكأنه اقتنع بشيء ما، فأومأ وبدأ بالكلام.
“يبدو أنكِ لم تلاحظي وجودنا بسبب فوضى الأمس.”
“أمس؟”
لحسن الحظ، لم أكن قد غفوت لأيام. بينما كنت أرمش بعينين خاليتين من الفهم، سألني الفارس بوجه معقد.
“هل أنتِ بخير الآن؟”
“آه، كنت سأسأل ما الذي حدث بالضبط. آخر شيء أتذكره هو قدوم السير ماكس وهو يركض…”
تلعثمت في نهاية الجملة. فبدأ الفارس بشرح الوضع بإيجاز.
لكن الشرح بدا مجتزأً مما زاد من ارتباكي.
“… السيد ليونيل عالج جراحك بالسحر. ومع ذلك، عليكِ أن تظلي حذرة وتأخذي قسطاً من الراحة.”
هل هي مجرد أوهام؟ بدا أن ملامح الفارس تتغير كلما ذكر اسم ليونيل.
وكأن خلفها قصة معقدة.
شعرت بالريبة وأدرت عيني بتفكير.
رغم نصيحة الفارس بالراحة، بصفتي رئيسة الباحثين لفريق الجمع الثاني، كان عليّ الاستفسار عن الفرسان الإضافيين.
بما أن ماكس جاء راكضاً في وقت متأخر من بعد الظهر، فبالتالي…
“هل جاء الفرسان الآخرون مساء البارحة؟ كم عددهم؟”
“آه… آنسة ايفلين.”
“…..!”
اتسعت عيناي باندهاش.
ماذا قال للتو؟
لم ينادني لينا، بل آنسة ايفلين؟
بينما كنت أفتح فمي وأغلقه كالسمكة المذهولة، تابع الفارس حديثه.
“وصل حوالي ثلاثمائة فارس من فرسان الفونيكس. وهناك دعم إضافي قادم من شوتزن، وفرسان توتين المتمركزين على الحدود الغربية سيصلون قريباً أيضاً.”
“……”
“ونحن جئنا برفقة سمو الأمير كارسيون.”
“…كارسيون هنا؟”
انفلت صوت مصدوم من بين شفتي.
وفي اللحظة نفسها، سمعت صوت أبواب تُفتح وضجة أشخاص تخرج.
عندما التفت، رأيت كارسيون يتقدم بخطى ثقيلة بين صفوف الفرسان.
كان إيفان يسير بجانبه، يناقش معه شيئاً بملامح جادة.
وما لبث أن التقى نظر كارسيون بي.
“رينيه.”
ناداني بصوت منخفض وثقيل. حدقت فيه بعينين مشوشتين.
كأنني استيقظت فجأة في عالم يعترف بي كرينيه إيفلين بالكامل.
لم يتفاجأ أحد من مناداتي بهذا الاسم. بل بدا الأمر طبيعياً للجميع..
بلعت ريقي بصمت.
ثم، بصفتي صديقة طفولة الأمير الثالث، استخدمت هذا الإمتياز للحديث معه ببساطة.
“نعم، كارسيون. رغم انشغالك، كيف أتيت إلى هنا؟”
التعليقات لهذا الفصل " 77"